إعلامية سورية: الأربعينية عبرت الطوائف و تجاوزت البعد الديني

2 أكتوبر، 2023

بغداد/المسلة الحدث: إنصاف سليطين

في مبادرة هي الأولى من نوعها دعت الحكومة العراقية ممثلة بهيئة الاعلام و الاتصالات قرابة الخمسين صحفيا و مؤثرا لمواكبة زيارة الأربعينية و اختبار الحدث واقعا بكل تفاصيله ، في وفد إعلامي مضاف إلى عشرات الصحفيين الذين دعتهم المؤسسات المدنية و العتبات الدينية ،

توزع الوفد إلى مجموعات ، تعكس تنوع البلدان التي جاؤوا منها ، إذ ضمت مجموعتنا نخبة من الصحفيين و الأكاديميين بينهم المصري و التركي و الروسي و الفرنسي و البريطاني و المصري الفلسطيني و اللبناني و السوري على اختلاف مشاربهم .

خمسة أيام بلياليها ، تشاركنا فيها مع العراقيين و زوارهم المشاهدات الحية لالتقاء الماضي بالحاضر و الدين بالسياسة و الشعر بالأهزوجة في مزيج لا تجده إلا في عراق الرافدين .

تحطيم الأرقام القياسية

يستغرق الطريق من بغداد الى كربلاء عادة ساعة و نصف من الوقت ،لكن رحلتنا قبل يومين من موعد الأربعينية استمرت قرابة التسع ساعات رغم التسهيلات الممنوحة للصحفيين لتسريع عبورهم فمجموعات السائرين تملأ الطرقات و تقطعها على السيارات ، بعد مرور 1343 عاما على واقعة الطّف تتشح أفواج الزوار بالسواد ، و يمشي كثيرون حفاة لاطمين باكين مرددين المرثيات و الأناشيد التي تمجد الإمام الحسين و تبرز مكانته الإنسانية و الدينية ، تراهم مهرولين مسرعين لا يبدون تعباَ أو كلل ، فالبصرة الحدودية التي شهدت ” خليجي 25 ” مطلع العام الحالي ، تبعد عن كربلاء قرابة 500 كم ، ينطلق منها كل عام أبرز مسير كربلائي لأهل المدينة مع ملايين الداخلين عبرها من خارج البلاد ، لتشهد هذه الطريق كمثيلاتها آلاف الحكايات و العبر و النوادر الإنسانية و الروحانية و لا يصل منها إلا القليل .

أكثر من (22.019.146) زائر دخلوا العراق هذا العام وفق إعلان العتبة العباسية ، التي فتحت مركزها الإعلامي أمام وفدنا الصحفي للاطلاع عن قرب على مجريات العمل داخل هذه الخلية المجهزة بأحدث التقنيات الحديثة .

استعرض مسؤول الاعلام الوقائي جسام السعيدي طريقة إحصاء أعداد الزوار عبر الماسحات الضوئية و كيفية رصد اعداد المركبات التي تعبرالمنافذ إلى كربلاء وحساب قدراتها الاستيعابية ، مايترك هامشاً عددياً غير محسوب حتى أنه يمكن القول باطمئنان أن العدد الفعلي للزوار أكبر من الرقم الذي يتم الإعلان عنه .

أكد السعيدي أن عدد الزوار في كل عام يتجاوز عددهم في العام الذي سبقه محطما بذلك رقما قياسيا جديداً سنوياَ ، و أن هذا التجمع الأضخم عالميا بحسب وصف ويكيبيديا ( أضخم تجمع سلمي في العالم ) لا يعتمد على الترويج ، وهنا أشار بعتب إلى تقصير متعمد من الوسائل الإعلامية العربية و الدولبة في تغطية حدث بهذا الحجم ، قد يقتصر عند بعضها على خبر لا يتجاوز عدة كلمات ، بينما الواقع أن مدينة لا تستوعب عشر عدد زائريها تتسع لاحتضان عشرات ملايين الزائرين .

1.7 مليار دولار تكلفة المواكب الحسينية الممولة شعبيا في أضخم عمل تطوعي بتمويل أهلي لثمان و عشرين ألف موكب حسيني يقدمون الخدمة للزائرين مجانا ( موائد طعام زاخرة بالمأكولات العراقية من لحوم و شطائر و أرز و حساء وفاكهة و عصائر إضافة إلى الماء المعلب ) حتى المنامة متوفرة مجانا في الأربعينية فالبيوت مفتوحة امتداداً للمواكب التي يستمر بعضها في تقديم الضيافة و الخدمات حتى حلول ذكرى وفاة الرسول محمد (ص) في الثاني عشر من ربيع الأول .

عشرون يوما يصل خلالها مليوني متطوع ليلهم بالنهار ، منهم كفاءات و خبرات يخسر بعضهم مئتي دولار يومياً بتفرغهم لخدمة الزوار ، وفق المسؤول الإعلامي للعتبة العباسية الذي عزى عدم تسجيل الأرقام القياسية المؤكدة في موسوعة غينيس منذ تقديم الطلب عام 2013 إلى صعوبة توفير شروط الموسوعة ضمن فترة الأربعينية ، فالأعداد المتزايدة للزوار تفرض أولوية تأمين مستلزمات ضيافتهم على أية أولوية أخرى .

وكانت مؤسسة فاير أوبزرفر / مقرها واشنطن ذكرت مؤخراً بضرورة إدراج أربعينية الإمام الحسين ضمن موسوعة غينيس لما تظهره من أنشطة و فعاليات غير مسبوقة عالمياً .

يذكر أن منظمة الأمم المتحدة للتربية و الثقافة ( اليونيسكو ) أدرجت توفير الخدمة و الضيافة خلال الأربعينية ضمن قائمة التراث اللامادي ) .

بانوراما إنسانية و دماء متجددة

مع ختام مواكبتنا الإعلامية ، التقينا رئيس هيئة الاعلام و الاتصالات د.علي المؤيد ، المسؤول الشاب و فريقه من الشباب في الهيئة يفيضون نشاطا و حماساً ، تتلمس و أنت تجالسهم الدماء المتجددة في مواقع المسؤولية الرسمية و الحيوية التي تسبغها على الأنشطة و المهمات و تترجم حاجة مجتمع تشكل نسبة الشباب منه ( 15 _ 64 ) 75% إلى مشاركة الشباب في مواقع القرار ، أمر لم نعتد عليه في المؤسسات الرسمية العربية التي اعتادت اسناد قيادتها و المفاصل الرئيسية فيها إلى فئة عمرية متقدمة ترخي ظلال التنميط و الكلاسيكية و التمترس داخل الصندوق .

في معرض حديثه مرّ د. المؤيد على مهام الهيئة الموزعة بين الإعلام و الاتصالات مبدياً اعتزازه بكوادر هيئته و هو يستعرض الطرق التي ابتكرها مهندسون عراقيون لتدارك انقطاع الاتصال و الانترنت بسبب الضغط على الشبكات فترة الازدحام بالأربعينية و كيف عملت الكفاءات الوطنية على تبديل الربط بين الأبراج بتكلفة بسيطة مقارنة مع تكاليف عالية تنفقها دول أخرى في مناسبات أقل ضغطا و ازدحاما مما يشهده العراق هذه الفترة من كل عام .

و عن حرية الاعلام ، أكد على ضرورة حماية الصحفي و سعيه لأن تتحمل الوسيلة الإعلامية المسؤولية لا أن يتم تحميلها للصحفيين

للأربعينية نصيبها من حديث المسؤول الحكومي الذي استفاض بشرح حالة الأمن و الأمان السائدة خلال الأربعينة مشيداً بأخلاق العراقيين فلا حوادث سرقة أو اعتداء تسجل خلال أيام الزيارة رغم أن مدناً كالبصرة مثلا تفرغ من سكانها الذين يخلفون بيوتهم وراءهم بكل ما فيها فلا تمس و لا يقربها اللصوص .

لم يفت رئيس هيئة الاتصالات التنويه بمناقبية الزوار و الحالة الروحانية السائدة بينهم فهذا من يصالح جاره لكي يسمح له بالمشاركة في استضافة الزوار في بيته ليناله من ” البركة ” ما نال جاره الذي اكتظ بيته ولم يعد هناك متسع ، و ذاك الذي صفح عن قاتل ابنه الهارب من الثأر ، التقت أعينهما في أحد المواكب على الطعام ، فجاءه الأب قائلا أكمل طعامك فإني سامحتك لأجل الحسين . و غيرها من الطقوس و العادات التي ألفها الناس و تفننوا بها في استقبال زوار الأربعينية ، فمنهم من يساعد السائرين و يدلك أقدامهم المتعبة و منهم من يغسل الثياب و يسقي بها الأرض ليتبارك الزرع و غيرها من الطقوس و الاضاءات الروحانية التي تشبع بها حديث المسؤول الحكومي الشاب الجامع بين الإحاطة الأكاديمية _ التقنية و الحالة الروحانية العالية. بأسلوب رشيق يدلل على أدوات التفكير من خارج الصندوق .

سباحة عكس التيار ، أم أن ” الحكمة ” قوة عراقية ناعمة ؟

لا يخفى على متابع للمشهد السياسي العراقي تعقيدات التركيبة السياسية لتياراته و أحزابه فتداخلات الدين و السياسة هي أولى محددات فهم هذا المشهد الذي لم يكن ممكناً لنا استكمال الإحاطة به دون لقاء إحدى الشخصيات المؤثرة في رسم الخريطة السياسية للعراق اليوم ،

السيد عمار الحكيم رئيس و مؤسس تيار الحكمة منذ انفصاله عن المجلس الأعلى الإسلامي العراقي وإعلان القطيعة مع إرثه عام 2017، هو نجل السيد عبد العزيز الحكيم الرئيس الأسبق للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي و حفيد المرجع الديني آية الله العظمى محسن الحكيم الذي كان مرجعاً لملايين الشيعة الإثني عشرية حول العالم إبان ترؤسه الحوزة العلمية في النجف الأشرف .

نسب الرجل و مكانته الدينية ثقّلا وزنه السياسي و مكناه من لعب دور الوساطة في العديد من الملفات محليا و إقليميا كما أوضح لنا في معرض حديثه الذي استفاض فيه بشرح الجوانب الروحية للزيارة وقيم التكافل و التعاون التي يظهرها العراقيون على اختلاف طوائفهم ، حين أسهب في ذكر المكونات العراقية المشاركة في المواكب ، مثل مواكب لديوان الوقف السني الذي شارك بنقل الزوار عبر أسطول مركابته الخاصة و مواكب الصابئة و مواكب الايزيديين إضافة الى مواكب المسيحيين .

في معرض رده عن سؤال .. ترفعون مبادئ ” الاعتدال و السلمية ” في وسط حاد الاصطفافات و واقع متفجر اقليما و دوليا من التسليح إلى قرع طبول المعارك ، وكنتم قد خسرتم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أفرزها هذا الواقع ، رغم ذلك شاهدناك في سوريا و مصر و السعودية للعب دورفي ملفات حساسة ، كيف تديرون هذه المعادلة ؟

أقتبس بتصرف ” تيار الحكمة برؤيته المنفتحة يعمل وفق استراتيجية مرسومة بعيدة المدى زمنياً ، رغم الخسارات التي قد يتعرض لها آنياً بسبب تقيده بالمبادئ و الشعارات التي يرفعها التي قد تتمايز عن بعض التوجهات العامة لدى بقية الأطراف إلا أن التعويل على تحقيق الأهداف في المدى البعيد ، فالمستقبل بحاجة إلى السلمية مثلاً كشعار يتم العمل على تحقيقه في مجتمع متنوع يشهد التصعيد بشكل متواتر ما يدخله أزمات معقدة وشائكة داخليا ، و هنا يتمظهر دور التيار الذي كان مقره في محطات عصيبة متعددة مقصدا للعديد من القيادات الحزبية العراقية لمناقشة سبل الخروج من الاستعصاءات السياسية ، و لم يفت السياسي المعمم الإشارة إلى دوره في إيصال الرسائل المتبادلة بين سوريا و السعودية قبيل إعلان عودة سوريا الى استئناف حضوراجتماعات الجامعة العربية في قمة جدة ( أيار 2023 ) .

عن واقع العراق و ما يتردد حول الفساد المستشري و ضعف التنمية و ضبابية الرؤية المستقبلية ، شفت اجابته عن رؤية متفائلة : ” فميزانية ثاني أكبر منتج نفطي في أوبك ( بأربعة ملايين و ستمئة و خمسين برميل يوميا) ، تعتمد على إيرادات مبيعات ذهبها الأسود ذي التكلفة المنخفضة في استخراج هذه الثروة القريبة من السطح داخل تكوينات جيولوجية غير معقدة مقارنة ببلدان منتجة أخرى ، و في ضوء التوصل إلى اتفاق بين الحكومة الاتحادية و إقليم كردستان العراق حول النفط / توزيع الحصص والتصدير و إيداع الإيرادات و حول الميزانية التي بلغت هذا العام ( 153 ) مليار دولار عراقي في أعلى مستوى لها / ، و بتشريح الزعيم العراقي لهذه الميزانية و كيفية توزيعها في السنوات التي تلت سقوط صدام ، بنسب متفاوتة بين عام و آخر ، فكتلة الرواتب و الأجور كانت تتجاوز 40% في بعض السنوات و تصل إلى 70% في سنوات أخرى ، حصة الإقليم من الميزانية تراوحت بين 12% و 17% ، و لإرث النظام السابق نصيب من الميزانية ، فديون نادي باريس وصل إلى 17 % ، و نضيف إلى ماسبق تعويضات غزو الكويت المقدرة ب 52 مليار دولار استمر دفعها إلى أن أنهى العراق سدا ، أما الفساد فيدور بين 3 _ 5 % و تعتبر ضمن المعدل الطبيعي كما بقية البلدان ، وفق ما أوضح السياسي العراقي ، الذي أشار إلى النهضة العمرانية التي تشهدها البلاد فلا يكاد يخلو حي في المدن العراقية من ورش أعمال الإنشاء و البناء ، و نوه إلى استثمارات واعدة و بوادر تنموية اتضحت ملامحها و ستتبدى نتائجها خلال السنوات القليلة المقبلة .

سلة مبادرات غير مسبوقة و مقولة جديدة

التبني الحكومي لدعوة وفد إعلامي يتسق مع خطة حكومية متكاملة أعلن نجاحها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني في كلمته بذكرى الأربعينية التي ثمن خلالها دور الوزارات في تسهيل الزيارة للقاصدين بتأمين الكهرباء و أسطول نقل بري جوي بحري ، و المتابعة الحثيثة للأجهزة الأمنية التي رصدت كل صغيرة و كبيرة حرصاً على سلامة و أمن الجميع إضافة إلى الخطة المقدمة لأول مرة من قبل الحشد الشعبي لتنظيم المتكاملة من المنافذ الحدودية إلى مدينة كربلاء ، و الجهد المبذول من العتبات الدينية ،

لم يفت رئيس الحكومة الثناء على أخلاقيات الشعب العراقي التي انعكست في المواكب الحسينية المنظمة من قبل كافة أطياف مجتمعهم ، كاشفا في حديثه للإعلاميين أنها المرة الأولى التي تتشارك فيها موارد من كل المحافظات لهذا الحدث بما فيها إقليم كردستان ، إضافة إلى تخصيص أكثر من خمسين مليار دينار عراقي دعما للزيارة ، وانجازمشروع طريق بغداد باتجاه جرف النصر خلال شهرين”، و إصدار ثمانية إجراءات لتذليل المعوقات ، و استمرار العمل بالخطة الحكومية التي حددت منذ الآن عدة مشاريع لتنفيذها استعداداً للزيارة الأربعينية المقبلة ، و دراسة مقترح إضافة مهمة إدارة الزيارات إلى مهام هيئة الحج .

سلة الخطط و الإجراءات و المبادرات الجديدة عبرت عن إرادة الدولة بتظهير قوتها و تماسكها وقدرتها على بسط الأمن رغم ضخامة الحدث ، واضطلاعها بدورها في كل ما تشهده أراضيها عبر احاطة الاهتمام الرسمي بكافة التفاصيل و كأنها تريد القول ” إن نهجًا جديداً يشق طريقه إلى المستقبل بخطىً ثابتة ً” ..

اختتمنا مواكبتنا الإعلامية في بلد شكل لعقود ساحة صراع القوى الدولية على النفوذ و تمكن بهمة أبنائه الذين تلقفوا الظرف الجيوسياسي من العبور إلى ضفة تؤسس للاستقرار من خلال دوره كصندوق رسائل تهدئةٍ في المنطقة ،

عوامل نهوض و مكامن قوة عديدة مكنت وصول المارد العراقي إلى طور الخروج من قمم ” الحرب و الإرهاب و صراع النفوذ ” ،

فهل سنراه قريباً يأخذ دوره كلاعب اقتصاديّ _ سياسيٍّ مؤثر إقليميًّا و دولياً ينفض الغبار و يضيء مجدداً منارة حضارة بلاد الرافدين ؟! الأيام والإرادة كفيلان بالإجابة .

 

إعلامية سورية

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

المصدر: المسلة