بالرغم من مرور خمسين عاما على حرب السادس من أكتوبر المجيدة، إلا أن الجدل بشأن الحرب ووقائعها وما حدث فيها وما ترتب عليها لا يزال قائما وعلى أشده خاصة بين إسرائيل وأنصارها وداعميها ممن يريدون إقناع أنفسهم والعالم بأن إسرائيل حققت انتصارا في نهاية الحرب، وبين الجانب المصري الذي تحمل العبء الأكبر، معنويا وماديا، وتدريبا وتخطيطا وتنفيذا وتضحية مباشرة وغير مباشرة مع مشاركة سورية وعربية كبيرة، متفاوتة ومشكورة بالطبع من الأشقاء العرب بل والتحسب لمختلف الاحتمالات حسب ظروف وأوضاع وحسابات كل دولة عربية ورؤيتها للموقف واحتمالات تطوره، مع عدم استبعاد احتمال التعرض لأضرار ما في ظل ضبابية الظروف المحيطة باحتمالات الحرب وحجم الدعاية الهائل حول اختلال توازن القوى واستبعاد الكثيرين إمكانية إقدام مصر على عبور قناة السويس وإلى الحد الذي تشككت فيه القيادة الإسرائيلية العسكرية والسياسية في كم المعلومات التي تجمعت أمامها حتى قبل بدء العمليات بوقت قصير، بل ورفض واشنطن خيار الضربة الوقائية من جانب إسرائيل ثقة في قدرتها على الرد وقلب الوضع على الأرض تحت أية ظروف بحسب كلمات وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر ذاته.
ومع اليقين بأن الوصول إلى مثل هذه القناعات إسرائيليا وأمريكيا أيضا ما كان يمكن أن يحدث إلا نتيجة لنجاح خطة الخداع الاستراتيجي المصرية، والتوافق والتكامل بينها وبين مختلف عناصر ومكونات خطة إعداد الدولة للحرب التي بدأت على يد عبد الناصر واستمرت بقيادة السادات وحسب متطلبات الموقف حتى في فترة الحرب وما بعدها وحتى الاتصالات والمفاوضات مع مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل وكيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة تمهيدا لزيارة السادات لإسرائيل والتوصل إلى اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978 ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 بدعم أمريكي مباشر أثر بشدة على الوضع الاستراتيجي في المنطقة ولا تزال تبعاته تتواصل حتى اليوم وغدا. والمؤكد أن ما يجري الآن هو امتداد بشكل أو بآخر لما تم من خطوات في اتفاقيات ومقترحات ومبادرات السلام العربية ومرورا باتفاقيات إبراهام ووصولا إلى التحركات النشطة الراهنة لتوسيع إطار التطبيع مع إسرائيل والتبشير الإسرائيلي المكثف بإمكانيات التوصل إلى ذلك مع نهاية العام واستثمارا لتطورات داخلية إسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية خاصة إذا تم التغلب على مختلف العقبات وتمكن نتانياهو والقيادات الأخرى الشريكة بشكل مباشر وغير مباشر من تجاوز معارضات داخلية إسرائيلية وإقليمية لا يمكن التقليل مما يمكن أن تسببه من عراقيل مهما كان نتانياهو تواقا لأن يسير على خطى بيجين. يضاف إلى ذلك أن الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر تكتسب الكثير من الأهمية ليس فقط من حيث الزخم الذي حاولت إسرائيل أن تعطيه لادعائها النصر وقيامها بنشر عشرات الآلاف من الوثائق ومقاطع الفيديو والتصريحات والخرائط ولكن أيضا بنشر مقاطع من مناقشات بين قيادات إسرائيلية رفيعة المستوى وإعدادها أفلاما تحكي قصة الحرب من وجهة نظرها ونشرها على امتداد العالم في محاولة للتأكيد على روايتها، ومستغلة التقصير العربي الكبير حتى الآن على الأقل في تقديم الرواية العربية الصحيحة والمتكاملة والمعدة بكفاءة وبأساليب رفيعة قادرة على الرد وعلى دحض الرواية الإسرائيلية التي يتعاطف معها حتى بعض الأشقاء لأسباب ذاتية وثنائية أكثر منها قومية أو موضوعية.
وفي هذا الإطار فإن الحديث الذي أدلى به كيسنجر مؤخرا بمناسبة مرور الذكرى الخمسين للحرب يحتاج إلى التوقف أمامه كثيرا ليس فقط لأنه حديث أكثر المسؤولين الأمريكيين تأثيرا في مجريات الحرب وتوجيه نتائج هامة لها، ولكن أيضا لأن كيسنجر أراد من حديثه إبراز وتتويج خدمته وعمله الحقيقي لإنقاذ إسرائيل و«التصميم على منع النصر العربي» أو الإقناع بذلك ومن موقعه كوزير لخارجية أمريكا ومسؤول يكرس كل جهده لصالح إسرائيل بكل السبل الممكنة، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:
أولا، إنه مع إدراك أن أحاديث كبار السياسيين تخضع عادة لمراجعة وحرص قبل نشرها وذلك لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي وتجنب أية إشارات قد تثير الخوف أو الهلع على المستوى الجماهيري، وهو ما أشار إليه كيسنجر إلا أن الوزير الأمريكي المخضرم كان في الواقع صريحا ومباشرا في الكشف عن دوره لصالح إسرائيل ولعل ذلك يرتبط برغبة كيسنجر في الكشف عن أنه عمل بشكل مباشر لحماية إسرائيل والكثير من عباراته كشفت إلى أي حد كان يعمل لتحقيق ذلك وحديثه عن الحالة المزرية لإسرائيل ولكل من رئيسة الوزراء جولدا مائير ولوزير الدفاع موشيه ديان في بداية الحرب تؤكد ذلك بوضوح والأمثلة عديدة. من الحث على تكثيف الهجوم العسكري ودفع الرئيس الأمريكي نيكسون إلى تعزيز الإمدادات العسكرية لإسرائيل وتحويل الجسر الجوي إلى جسر عسكري والاستعانة بمعدات أمريكية متطورة والإسراع بتعويض خسائر الطيران والمدرعات الإسرائيلية وتعطيل التدخل الدبلوماسي حتى تتعدل الأوضاع على الأرض وهو ما تمت صناعته بمعاونة الأقمار الصناعية الأمريكية التي كانت تمد إسرائيل بصور التطورات على الجبهة المصرية ومنها تحديد أنسب نقاط يمكن منها اختراق الجبهة التي اندفع منها شارون إلى الضفة الغربية لقناة السويس في محاولة لصنع حركة بهلوانية يمكن لكيسنجر الاستناد إليها لبدء مفاوضات بزعم أن هناك تقدما إسرائيليا حدث لابد من وضعه في الاعتبار. ومن أجل تحقيق ذلك عمد كيسنجر إلى تأخير قرار مجلس الأمن بوقف القتال لمد ثلاثة أيام، أي حتى 24 أكتوبر ليتعدل الموقف العملياتي لصالح إسرائيل.
وإذا كانت إسرائيل قد استغرقت عامين ونصف العام لاختيار الوثائق والفيديوهات والأحاديث التي تم الكشف عن سريتها في الذكرى الخمسين للحرب، ولا يزال هناك معلومات كثيرة أخرى سيتم الكشف عنها في سنوات لاحقة، فإن ما كشف عنه كيسنجر يعد في الواقع كنزا معلوماتيا ثمينا ينبغي علينا نحن العرب قراءته وبحثه والاستفادة منه ليس فقط بالنسبة لحرب أكتوبر ولكن بالنسبة لدراسة المجتمع وعملية صنع القرار والسياسة الإسرائيلية بوجه عام، ومن جانب آخر فإنه يجعلنا نحن العرب ندرك تماما مدى عمق العلاقات الأمريكية الإسرائيلية والالتزام الأمريكي الذي لا يتزعزع بحماية إسرائيل وهو التزام يزداد عمقا واتساعا مع كل رئيس أمريكي جديد بغض النظر عن أية خلافات قد تظهر بين واشنطن وتل أبيب وهي خلافات سطحية ومن غير الممكن المراهنة عليها بالتأكيد حتى لا نخدع أنفسنا.
ثانيا، إذا كانت واشنطن قد ساعدت في تحديد موقع الثغرة التي بدأت ببضع دبابات اندفع بها شارون إلى غرب القناة ومحاولة توسيع مساحتها بقدر الإمكان، فإن واشنطن قامت في الواقع بحماية القوة الإسرائيلية الصغيرة وتحذير القاهرة من ضربها وتصفيتها، خاصة أن رئيس الأركان المصري الفريق سعد الشاذلي قام بزيارة للجبهة والاقتراب الشديد من نقاط تواجدها. وفي حين حاولت القوة الإسرائيلية محاصرة بعض القوات المصرية لحماية نفسها فإن الجيش المصري قام بحصار الثغرة من محيطها الخارجي وأوقف محاولات توسيعها واستعد لاستخدام الصواريخ أرض أرض لتدميرها والقضاء عليها حتى ولو أضر ذلك بالقوة المصرية المحاصرة طالما أنه سيصفي مغامرة شارون. وهنا تدخل كيسنجر ليعمل على بقاء الوضع كما هو عليه وليمنع المصريين من تصفية الثغرة وليكون ذلك مدخلا للمفاوضات لفك الاشتباك بين القوات من ناحية ولتخفيف حصار بعض القوات الإسرائيلية لبعض قوات الجيش الثالث حيث حاولت القوات الإسرائيلية ممارسة ضغوط لتعزيز وجودها ولو الدعائي بالقرب من السويس. وبينما استطاعت قوات المقاومة الشعبية وبالتعاون مع القوات المصرية منع الإسرائيليين من دخول السويس أو التقدم في اتجاهها فإن محاولة مجلة نيوزويك الأمريكية نشر صورة مفبركة على غلافها تظهر جولدا مائير وكأنها أمام دبابة إسرائيلية في السويس لم تفلح في إقناع العالم بأن إسرائيل دخلت السويس ومن ثم تعزز الانتصار المصري الذي عمل كيسنجر باعترافه على منعه وعلى ذلك فإن الانتصار المصري القوي والملموس قد أزال من قاموسنا مصطلح الهزيمة باعتراف الإسرائيليين وكيسنجر نفسه، غير أنه ينبغي إنهاء التقصير في تقديم ملحمة أكتوبر على النحو الذي يليق بها وتعريف الأجيال الراهنة والقادمة بها حتى لا نترك الساحة للفبركات الإسرائيلية المدعومة من واشنطن. فمتى يتم ذلك ؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکشف عن
إقرأ أيضاً:
وسيم السيسي: إسرائيل قاعدة عسكرية للدول الاستعمارية
تحدث الدكتور وسيم السيسي، عالم المصريات، عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
كنت أتمنى التصوير في غزة.. درة تروي صعوبات واجهتها في "وين صيرنا"| خاصمكتب نتنياهو: جانتس طلب وقف حرب غزة قبل دخول رفح الفلسطينيةوقال وسيم السيسي، خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامية فاتن عبد المعبود، خلال تقديمها برنامج صالة التحرير، المذاع على قناة صدى البلد، إنه بالنظر إلى حرب غزة بعد مرور أكثر من عام يتبين أن دولة الاحتلال الإسرائيلي وسعت رقعتها ولكن هذا إلا حين، ولكن على المدى البعيد خسرت كثيرًا.
وأضاف: الخمسين ألف شهيد وضعفهم من المصابين في غزة لن يسكتوا بل خلقوا حالة من الكراهية والثأر وليس فقط في إسرائيل نفسها وإنما في أي دولة.
وأشار إلى أن إسرائيل قاعدة عسكرية للدول الاستعمارية، موضحا أن الشعوب تحكم بالود وليس بالمجازر وأبدا لن ينتصر الشر على الخير، وكذلك لن تنتصر الحرب على السلام.