لجريدة عمان:
2024-11-07@08:58:03 GMT

الكهف والحصاة بكدم.. ظاهرة مجهولة أم طقس ديني؟

تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT

الكهف.. ليس تجويفًا مجردًا في جبل، بل عنصر مهم في دراسة الحضارات القديمة، فهو ملجأ الإنسان القديم، فيه مشى خطواته الأولى نحو التحضر، واختاره لكي يعصمه من هوام الأرض ووحوشها، ويتقي به غضب الطبيعة، ويتمتع منه بأبعد مدى من النظر لجمالها. في الكهف.. مدّد الإنسان جسده ليستريح من لأواء يوم طويل، وعلى حيطانه عبّر بالرسم عن لواعج نفسه، وعن نظرته للوجود من حوله.

وأقام في جوفه مستقر أسرته، ومستودع ممتلكاته، ولمّا روّض النار اصطنع فيه مطبخه، واستأنس الحيوان فحرسه. والكهف.. بيت الإنسان الأول، قاتل دونه وقُتِل، إنه عالمه الأزلي، وخارطة رحلة حياته، ومنبعث دينه، وملحمة أساطيره، وبرزخه إلى العالم الأخروي.

الكهف.. منذ نشأة الإنسان الأولى هو جزء من تكوينه النفسي وبنائه الاجتماعي. فيه وارى أجساد موتاه، ومنه صعدت أرواحهم إلى السماء، وبقيت أبدانهم أديمًا في الأرض، يصدق فيها قول حكيم المعرة أبي العلاء المعري(ت:449هـ):

... وما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

وبحثًا عن أصول الإنسان وما اكتنفه من أحوال.. أصبح رفات الأقدمين في الكهوف مواد مختبرية لعلوم مهمة كالأنثروبولوجيا والحضارة والطب والجينات. ودرس علماء النفس الكهف، ففسروا به بعض حالات الإنسان النفسية كحب التملك؛ أساس خصائصه كلها. وكان للفلاسفة نظر في تأمله، فنسب إليه فرنسيس بيكون (ت:1626م) أحد حُجُب وعي الإنسان الأربعة؛ فأسماه «وهم الكهف»، وهو الذي يمثّل انعكاس شخصية الإنسان على تفكيره، وقد مشى في ذلك على درب أفلاطون (ت:347ق.م) في تمثيله بسجين الكهف؛ الذي لم يكن يعرف من الحياة إلا ما يعكسه الضوء من ظل الشخوص على جدار الكهف.

وبعد؛ فالمقال يتحدث عن نوع من كهوف مدينة كدم، التي تقع في محافظة الداخلية بسلطنة عمان، تضم معظم ولاية الحمراء وجزءًا من ولاية بَهلا. وهذه المدينة تعد بيئة خصبة لدراسة العديد من الظواهر التي صاحبت العماني في تطوره؛ سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بل تحتفظ بسجل طبيعي لأحوال البيئة وتقلبات الطقس بالمنطقة. تشتمل المدينة على مجموعة مستوطنات؛ بعضها هجر منذ مئات أو آلاف السنين، وآخر هجر في فترات متأخرة، واستمر العمران في بعضها حتى اليوم. واستيطان منطقة كدم يرجع إلى ما قبل اكتمال بناء المدينة بآلاف السنين، وهذا ما وجدنا مؤشره في أطلال معبد قديم بمنطقة المحمود «المنطقة الإدارية»؛ وهي الجزء الجنوبي لمدينة كدم المسوّرة، ربما يعود هذا المعبد إلى الألفية السادسة قبل الميلاد، أما المدينة ذاتها فهي مكتملة بنظامها السياسي في الألفية الثالثة قبل الميلاد.

جبال كدم غنية بالآثار، وأرى أن بداية الاستيطان في المنطقة كان عليها. وإحدى الظواهر التي رصدناها فيها ما أسميتها بـ«ظاهرة الكهف والحصاة»؛ فأمام كل كهف نُصبت حصاة. وهذه الكهوف وحصاها مختلفة الأحجام: الكبير والمتوسط والصغير، وغالبًا؛ يتناسب حجم الحصاة مع حجم الكهف وسعته، وكثير من الكهوف سويت أمامها الأرض وبسطت بالرمل، وعددها يبلغ العشرات بل المئات، منتشرة في أنحاء الجبال؛ تتوزع من أعلى الجبل إلى أسفله، وهي لا يمكن أن تكون من اتفاقات الطبيعة، فلكثرتها يكاد أجزم بأنها من عمل الإنسان. بل بعضها رسمت على جدرانه صور إنسان؛ أقدّر من هيئة يديه بأنه يتعبد. كما أنه توجد في «معبد ني صلت» بكدم أربعة كهوف بها آثار حرق، قد تشير الدلائل إلى أنها طقس لتقديم الأضاحي. [انظر: مقالي «قربان الأضحية بمعبد ني صلت»، جريدة «عمان»، 27/ 6/ 2023م].

لا أستطيع أن أحدد غرض هذه الظاهرة الكهفية؛ فقد ذهبت القرون بدلائلها وما يحف بها من آثار، ولم تبقَ منها إلا أشباح شاحبة، جامدة المعنى، صامتة البيان، تسفيها الرياح وتعرّيها الأمطار، وقصارى الجَهد أن نحاول استنطاقها؛ فلعلها تنبث ببنت شفة تحكي لنا طرفًا من قصة تلك الأمم البائدة، فنحاول أن نسيل قليلًا من حبر يراعنا بقدر ما نعرف عن حياة أسلافنا وعلاقتهم ببعضهم، وتزلفهم لمعبودهم، وصراعهم مع خصومهم.

فهل هي مستقر سكنى الناس وموضع حفظ أغراضهم؛ مما يتطلب أن يتخذ من الحصى مساند وأرفف، ولمّا أن الناس اعتادوا على تقليد بعضهم بعضًا؛ جعلوها على نمط واحد، ثم توارثوه عبر الأجيال، حتى كثرت، ثم انقرض أصحابها واندثر ما حولها؟ هذا ما لا أستبعده، خاصةً؛ إنْ صاحَبَه معتقدٌ نفسي ساذج، يحمل الناس على فعله، كمثل ما نرى اليوم عند بعض الأمم من تعليق بعض الثمار كالفلفل واليقطين على أبواب بيوتهم ومتاجرهم.

أم أن هذه الظاهرة عبارة عن «تعويذة من الجن» للكهف وساكنيه، فيضع الناس أمامه حصاة لترد عنهم أضرار هذه الكائنات الخفية؟ ربما، فلها شواهد بيننا، كمَن يضع رقعًا بالية لرد العين، أو يدفن تعاويذ لكف الأذى.

أم أن الحصى «نُصُبٌ سماوية» اتخذوها لتقربهم إلى الله زلفى، كما كانت عادة بعض العرب؟ فهذا تفسير مقبول أيضًا، فلا غروى في تلك الأمم الغابرة التي ارتبطت في عبادتها بالسماء وأجرامها، حتى انسل من معتقدهم هذا؛ الدينُ الفلكيُ الذي ساد جزيرة العرب ردحًا من الزمن، أن يحملهم معتقدهم على أن يجعلوا لكل مسكن يأوون إليه نُصُبًا يتقربون به لخالق السموات وأجرامها، التي بِنَوْئها تغيثهم في قحطهم، وبنجومها يهتدون في برهم وبحرهم، وبمنازلها يحسبون فصول سنيهم، وبأشعتها تنضج ثمارهم.

أم هي محاريب للصلاة والدعاء والتبتل؟ وقد تنوعت طرائق الناس في طقوس عباداتهم، فمنهم من يمارسها في مكان مخصوص، وآخر يقيمها في أي مكان، ومنهم يؤديها جماعة وبعضهم فرادى، ومنهم من يضع بين يديه تماثيل، وكثيرون يلزمون الخلوة؛ لاسيما في الجبال. وكل هذه المعتقدات قائمة حتى اليوم.

كل المقاربات السابقة محتملة في تلك الأزمنة الغابرة، وحتى إن كانت غير ذلك؛ فيلزمنا التفكير فيها، لفهم مسير الإنسان على الأرض العمانية. ومن المهم أن يلتفت نظرنا في تفسير الظواهر القديمة إلى المعتقد الديني، فهو من أهم ضوامن بقاء الإنسان في الحياة، وتحمّل لأوائها، والتخفف من هَمِّ مكابدتها. فحضارتنا العمانية سمتها دينية، وأقرب تفسير للظواهر الاجتماعية وغير الاجتماعية هو التفسير بالباعث الديني. وحتى يحل المستقبل ألغاز الماضي؛ علينا أن نقدم بعض المقترحات التأويلية لتلك الظواهر.

وبناءً على ما وقفنا عليه حتى الآن من آثار دالة على النظام الديني في مدينة كدم؛ وربما يشمل معظم عمان القديمة، أو هو تقليد ديني في العالم القديم، أن أماكن التعبد لها أكثر من نموذج، أبرزها نموذجان؛ وهما مترابطان:

الأول: المعابد الكبيرة، وهي قِبلة لمعتنقي تلك الديانة، يولون وجوههم شطرها أينما كانوا. ويمثلها في كدم معبدان: الأقدم.. نقدّره من الألفية السادسة قبل الميلاد على الأقل، وبقيت منه أحجاره الضخمة، ولعلها كانت إحرامات تعبدية أو مواقيت مكانية. والآخر «معبد ني صلت» من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهو الباقية العديد من معالمه.

الثاني.. دُور العبادة؛ وهي التي ينشئها المتعبِدون للتوجه إلى معبودهم الأعلى، وتكون غالبًا في الجبال أو الأماكن المرتفعة، ولعل «ظاهرة الكهف والحصاة» من هذه الدُور.

وتقريبًا للفهم.. يمكن أن أشبّه النموذج الأول بالبيت الحرام في مكة المكرمة، وأما النموذج الثاني فأشبهه بمعظم المساجد القديمة في عمان التي بنيت مرتفعة عن الأرض.

ختامًا.. ما يميل إليه القلب من محاولة فهم هذه الظاهرة العتيقة تفسيرها بأنها طريقة للتعبد، كان يقيمها الإنسان القديم لأداء صلاته وأدعيته، ونحن بانتظار الأيام أن تكشف عمّا عجزنا عن فهمه؛ فدرب البحث في أصولنا طويل، وأول الطريق خطوة، وأرجو أن نكون قد خطوناها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قبل المیلاد

إقرأ أيضاً:

وكيل الأزهر في حفل تخرج الوافدين من دفعة «شهداء غزة»: الأزهر حامل لواء تعمير الأرض

قال أحمد الشرقاوي وكيل قطاع المعاهد الأزهرية لشؤون التعليم، إنَّ الإسلام جاء مصدقًا للرسالات والشرائع السماوية السابقة عليه، فأكّد بناء الإنسان في نفسه وعقله، في فكره وعقيدته في سفره وحضره في تعليمه وتعلمه، في معارفه وثقافته، في أدبه وأخلاقه فالله عز وجل كرم الإنسان أعظم تكريم وحفظه بتعاليم الشريعة والدِّين، ومده بأسباب التزكية والتكوين العقلي والفكري والبناء المعرفي والنماء والعطاء، ورزقه من الطيبات المتنوعة، وفضله على كثير من خلقه، تكريمًا وتشريفًا له ورفعة به.

صون الإنسان من التعدي

وأضاف الشرقاوي، خلال كلمته بحفل تخرج الطلاب الوافدين بالأزهر دفعة شهداء غزة 2، أنَّه يجب صون الإنسان وحفظه من التعدي، على نحو يضمن له البقاء الآمن ليؤدي مهمته الرئيسة في الحياة والبناء متعدد الأطوار والمراحل، ويجعل من نفسه الواحدة أنفسًا متعددة، في حال النفع وفي حال الاعتداء على حد سواء، بحيث إذا أزيلت نفس واحدة كان ذلك بمثابة إزالة أنفس متعددة، وما كان ذلك إلا تجسيدًا لاستبقاء بناء الإنسان في أطواره المتتابعة ومراحله المتعاقبة، واستبقاء حصانته في بقاء التكامل الإنساني مع غيره وجنسه.

وتابع أنَّهفقد وجب أن يكون هناك وعي حقيق وعام وثقافة معتبرة من أجل بناء الإنسان وحفظه من التعدى والعبث بمختلف صوره وأشكاله، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية وهيئاتها المختلفة في تحقيق منظومة متكاملة لبناء الإنسان، تحقيقًا للنماء المعرفي والتكامل الإنساني في الأوساط المعرفية، والثقافية، والأخلاقية، والصحية، والمجتمعية، وغيرها من الأوساط والمجالات الأخرى، التى تمس الإنسان في سائر أنماطه المعيشية والحياتية.

نشر الوعي ببناء الإنسان

وأوضح إنه يجب أن تتسع دائرة الثقافة المعنية في المجتمع بنشر الوعي ببناء الإنسان واستبقاء حياته وصون حقوقه المعتبرة ومصالحه المشروعة، وهذا نوع عدل يجب أن ينشر، بيانًا لمقاصد الإسلام في بناء الإنسان، وبيان حرصه على تكامله وصونه، والتأكيد على كونه محلًا للتألف والتراحم، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وغير ذلك من الأيات القرآنية التى تدعو إلى نشر الرحمة في البلاد وبين العباد، وهذه الرحمة هي نوع بناء معرفي في الأنفس الصافية، الخالية من الشوائب المذمومة والتصرفات المقيتة، فالتراحم الإنساني المأمور به شرعًا يجب أن يكون له أثره في المجتمعات الإنسانية؛ ليمتزج هذا التراحم بأقرانه وأمثاله وأشباهه من الصفات الحميدة الأخرى.

واختتم وكيل قطاع المعاهد الأزهرية لشؤون التعليم حدثه بقوله إن الأزهر الشريف جسد في رسالته العميقة السامية الرسالات الدينية كلها، مؤكدًا أهمية تحصيل المقاصد العليا للإسلام، وهى مقاصد خمسة بمقابلة أضادها تصل إلى عشرة، فنقول حفظ الدين فلا إلحاد، وحفظ النفس فلا قتل، وحفظ العقل فلا سكر، وحفظ العرض فلا زنا ولا فاحشة، وحفظ المال فلا سرقة، فإذا ما توفرت هذه المقاصد مجتمعة في مجتمع ما فقد أضفت عليه رقيًا ساميًا، وتحضرًا عاليًا، وثقافة واسعة، ومعارف متكاملة من أجل بناء الإنسان وصون الأوطان، وبناء على ما تقدم، يأتي الطالب إلى قبلة العلوم والفنون جمهورية مصر العربية إلى الأزهر الشريف ليعود حاملًا التأكيد على المقاصد العليا للإسلام.

مقالات مشابهة

  • مفتي الجمهورية: التشييد والبناء وعمارة الأرض أحد أشكال العبادة
  • المفتي يُلقي محاضرةً حول "الإنسان في المنظور الحضاري الإسلامي" بمعهد أذربيجان
  • مفتي الجمهورية يُلقي محاضرةً حول "الإنسان في المنظور الحضاري الإسلامي" بأذربيجان
  • المدني: كثرة الدراجات النارية التي يقودها الأطفال ظاهرة خطيرة في طرابلس
  • لم يقرأوا أو يسمعوا، ماذا دها من قرأ وسمع؟
  • بالفيديو.. حكم الجلوس مع شارب الخمر دون الشرب معه؟
  • عالم بلا إنسانية
  • وكيل الأزهر في حفل تخرج الوافدين من دفعة «شهداء غزة»: الأزهر حامل لواء تعمير الأرض
  • المفتي في القمة العالمية لرؤساء الأديان بأذربيجان: «حماية الإنسان والطبيعة واجب ديني»
  • ما ظاهرة دانا التي أغرقت إسبانيا؟ وهل تطال دول البحر المتوسط؟