التجربة الرواندية فى التعليم
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
مع بداية العام الدراسى الجديد ومن خلال متابعة الاستعدادات التى سبقت انطلاق الموسم الدراسى يتأكد لنا أن كل ما كنا نحلم به للنهوض بالتعليم قد تبدد، على صخرة الدروس الخصوصية والسناتر التى تغولت وابتلعت كل أمل للتطوير.
فقد انتظمت الدروس الخصوصية بالسناتر قبل انطلاق العام الدراسى رسميًا بأكثر من شهر وبدأت فى حشو عقول التلاميذ بالمعلومات اعتمادًا على أسلوب الحفظ والتلقين، مع استنزاف الملايين من جيوب أولياء الأمور، فى ظل غياب وزارة التربية والتعليم عن القيام بدورها فى مواجهة هذه الظاهرة المتوارثة أو إعداد خطة حقيقية لتطوير التعليم.
فقد كتبنا كثيرا وطالبنا بإنقاذ الأجيال الجديدة من هذه الأساليب العقيمة وقلنا ان بداية طريق الإصلاح يبدأ من
الاعتراف بأن لدينا ازمة فى التعليم قبل الجامعى، وأن هذه الأزمة لا بد أن تحل من جذورها وأنه يجب على الدولة أن تنتبه جيدًا وتسخر لها كافة الخبرات والإمكانات المادية إذا كانت تريد نهضة حقيقية، وبناء دولة متقدمة.
فكل ما يقال عن خطط التطوير منذ سنوات ما هو إلا محاولات لتجميل واقع مزيف أشبه بمبنى متصدع لا بد من التخلص منه والبناء من جديد على أساس قوى للأجيال القادمة، ولدينا تجارب ناجحة لدول كانت تعانى من تدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية واستطاعت تجاوز أزماتها بالتعليم.
لن نتحدث عن التجربة الماليزية التى قادها مهاتير محمد الأب الروحى لماليزيا الحديثة وصانع نهضتها منذ فى الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضى ونقلها إلى مصاف الدول المتقدمة.
لكننا سنتناول هنا التجربة الرواندية فى النهوض بالتعليم والتى تعد واحدة من اكثر النماذج إلهامًا فى إفريقيا، فبعد صراعات وإبادات عرقية وصفت بالأبشع فى التاريخ المعاصر نتج عنها مقتل اكثر من مليون ونصف المليون إنسان، بين عام ١٩٩٠ و١٩٩٤ من القرن الماضى انطلقت روندا عام ٢٠٠٠ على يد زعيم الجبهة الوطنية الرواندية بول كاجامي من تحت الصفر بكثير وتجاوزت كل المحن وصارت خلال عشرين عامًا فقط واحدة من أفضل الدول فى النهوض بالتعليم والاقتصاد.
وكان من أهم التحديات التى واجهتها رواندا فى طريقها لتطوير التعليم فقدان أعداد كبيرة من المعلمين فى المذابح العرقية وفرار الناجين منهم إلى الدول المجاورة، وتدمير الغالبية العظمى من المدارس ولكنها نجحت فى إعادة بناء المدارس والكوادر البشرية
وحرصت روندا وهى تطور آلياتها واستراتيجيتها التعليمية واختيار مناهج وأسلوب تعليم يحارب العنصرية، كما أتاحت روندا التعليم المجانى للجميع، وقضت على ظاهرة التسرب من التعليم، وأقامت العديد من الورش والدورات التدريبية لتخريج معلمين قادرين على تقديم تعليم يواكب العصر ويلبى احتياجات سوق العمل وينهض بالبلاد اقتصاديًا، سواء أكان على مستوى التعليم الأساسى أو الجامعى.
كما اعتمدت روندا نظام تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أجل التعليمICT4E، وهو نظام يستبدل وسائل التعليم والكتب التقليدية، بمنصات إلكترونية لاب توب أو آيباد أو مشغل وسائط يمكن من خلاله متابعة الدروس، وفى فبراير عام 2019، أطلقت أول قمر صناعى لها فى الفضاء، بهدف ربط المدارس النائية فى الدولة بالإنترنت، وتوفير فرص كبيرة للتنمية للجيل الجديد من الروانديين.
واستحدثت رواندا التعليم التقنى والمهنى لتلبية احتياجات البلد من عمال مهنيين مؤهلين عبر تحويل بعض مراكز التدريب المهنى إلى مدارس مهنية تقنية، وتدريب عدد كبير من المدرسين المتخصصين فى تكنولوجيا المعلومات.
ونظرًا للتطور المذهل فى مجال التعليم حصلت رواندا على جائزة الكومنولث الأولى لأفضل الممارسات فى التعليم الأساسى الممتد لتسع سنوات عام 2012.
كما اعتبرتها اليونسكو فى تقريرها عن جودة التعليم لسنة 2014 من أفضل 3 دول فى تجربة النهوض بالتعليم.
أعتقد أن تجربة رواندا ليست مستحيلة وفرصتنا فى النهوض بالتعليم ما زالت موجودة، وإن كنا تأخرنا كثيرًا فى اتخاذ القرار فما زال الحلم والأمل فى اللحاق بركب التقدم يراودنا ولا سبيل إليه إلا التعليم.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: بداية العام الدراسي الجديد وزارة التربية والتعليم النهوض بالتعلیم
إقرأ أيضاً:
عنقاء الحداثة
د. عصام عبدالفتاح
ثمة كتب ثورية حينما يقرؤها الإنسان فإنه لابد أن يخرج منها بحصيلة فكرية عميقة تزوّده بإضاءات لامعة فى تفكيك الإشكاليات الحضارية التى تعانى منها المجتمعات المتخلفة، أى التى لم تطرق بعد باب الحداثة رغم أنها تغترف من ثمارها بل ـ وهنا تبدو المفارقة ـ تتباهى بكونها جمعت بين الأصالة والحداثة!.
إن مؤلفات عالم النفس الاجتماعى مصطفى حجازى هى من هذا الطراز الفريد الذى يغير من فكر قارئه ويمتعه بتحليلاته للمجتمع العربى وإشكالياته الكأداء. فمثلا كتابه الشهير «التخلف الاجتماعى: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» يعد من أهم الدراسات التحليلية فى علم النفس الاجتماعى «سيكولوجية الإنسان العربى المهدور». ففيه يتناول حجازى، بمنهجيته الاستقرائية الدقيقة، ظاهرة «العنف العربى» التى لم تتمكن المجتمعات العربية حتى يومنا هذا من الخلاص منها. لماذا؟ يجيبك حجازى بكلمة السر التى تتنوع مترادفاتها فى القاموس الدينى والسياسى والاجتماعى، بدءا من الطائفية والعصبية، مرورا بالتحزبية، وانتهاء بالأصولية والدوجمائية، فمثلا دولة كالسودان، منذ أبريل ٢٠٢٣، يعانى شعبها من حرب ضارية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع أدت إلى تفاقم الأزمات الطاحنة فى بلاده وأطاحت بكل استقرار سياسى فيها وأدخلتها فى دوامة لا نهاية لها من النوازل الاقتصادية والإنسانية. إن السودان يشكو حاليا من أزمة نزوح لا نظير له. فثلث سكانه نازحون مشردون فى العراء بلا غذاء ولا ماء ولا مأوى ولا رعاية طبية. امتدت عواقب هذا الصراع المروع بين المتحاربين إلى ما وراء حدود السودان. وحسب تقارير الأمم المتحدة سيرتفع عدد ضحايا الصراع العبثى إلى أكثر من مليون شخص فى عام ٢٠٢٥.
أطراف الصراع هم سودانيون!، إن تحليل حجازى لظاهرة العنف فى المجتمعات العربية ينطبق برمته على الحالة السودانية عندما يقول: «يعود العنف السياسى الاجتماعى فى المجتمعات العربية إلى تفشى العصبيات وترسخها جذريا فيه. فالأنظمة العربية الاستبدادية لم تبنِ مجتمعا مدنيا، إنما راهنت القيادات على العصبيات، والعصبيات فى طبيعتها تحتوى على مكوِّن العنف، وهذا العنف يتفجر من العصبيات التى تنمو فى أزمنة الصراع ولا تستطيع العيش من دون عدو. كما ليس بإمكان الأنظمة العرقية الاستمرار خارج نطاق الصراع وصناعة العدو المتخيل أو الفعلى، لكى تتمكن من الحفاظ على ثباتها الداخلى بقوة الجمهور». ولئن تركز تحليل حجازى على لبنان بوصفه عينة خصبة للطائفية وجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع العربى فقد أراد به الكشف عن الداء العضال الذى لم يبرأ منه هذا المجتمع منذ قرون خلت فأعجزه تماما عن بلوغ الحداثة، إن هذا الداء هو نفسه «جرثومة التخلف» التى تحدث عنها د. مراد وهبة فى كتابه الشهير تحت هذا العنوان.
وفى مؤلفه الأخير «النقلات الحضارية الكبرى. أين نحن منها؟» يرى حجازى أن قوى التخلف أو حسب تعبيره «قوى العطالة فى مجتمعاتنا العربية» لا تتمثل فقط فى العصبيات وحدها وإنما هى تتجسد فى تحالف ثلاثى: العصبيات والفقه السلفى والاستبداد الظاهر منه والخفى. هذا التحالف يستخدم سلاحا خطيرا فى الإجهاز على أى محاولة تسعى إلى إيقاظ العقل العربى من سباته، آلية هذا السلاح هى: التأثيم والتحريم والتجريم. تكمن فاعليته فى أنه يشل طاقات الإنسان العقلية تماما ويدخله فى حالة من الانقياد والتبعية والجبرية وفقدان السيطرة على الذات والمصير!.
إن الحداثة التى يحلم بها المجتمع العربى أشبه بطائر العنقاء الذى لا وجود له فى الواقع، لأن متطلباتها لم تتوافر فيه بعد. وتتجلى ازدواجية المجتمع العربى، كما يقول حجازى، فى أنه يستورد كل منتجات الحداثة المادية والفكرية من الأمم المبدعة، لكنه لا يملك مشروعا إنتاجيا وطنيا خليقا بأن يحدث فيه نقلة نوعية تتحرر فيها طاقات العقل المبدع وينضج فيها وعيه السياسى. فتحت غطاء الدستور فى لبنان مثلا وحكم المؤسسات المقتبس من الغرب تتسم العملية السياسية فيه بالمحاصصة واقتسام النفوذ والغنائم على حساب البلد وكأننا بصدد شركة تجارية بين أطراف مؤسسين يسعى كل منهم إلى زيادة حصته من النفوذ والغنيمة وتحولت النيابة فيه إلى نوع من الوجاهة أكثر مما هى عملية تمثيل بالتفويض من قبل الشعب، فتحول الانتخاب فيه إلى نوع من المبايعة!.
نقلا عن المصري اليوم