المكان بوصفه حلما وواقعا في رواية «الطواف حيث الجمر»
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
تظهر إفريقيا على وجه العموم وزنجبار على وجه الخصوص في الكتابات العمانية بصورة مستمرة نظرا للأهمية التاريخية التي تحتلها هذه البقعة في نفوس العمانيين، كونها إحدى الممالك التي أسستها الإمبراطورية العمانية في اتساع حضارتها وقوتها السياسية والتاريخية. ولئن كانت الكتابات التاريخية عن زنجبار مثلا قد قدّمت لمحة عن الحياة على الأراضي الإفريقية وعلاقة الناس والنشاط البحري المستمر والحركة الاقتصادية التي كانت تربط بين الجانبين الإفريقي والعماني؛ فإنّ للكتابات الأدبية أهمية لا تقل عن الكتابات التاريخية؛ فقد أعطت أنموذجا متخيلا للجانب الاجتماعي هناك، وقدّمت صورة تاريخية لمرجعية مهمة في الكتابة تستند على التغيرات الحياتية والعلاقات التاريخية والأنشطة الثقافية والاجتماعية القائمة في حياة الإنسان العماني/ الإفريقي في تلك الفترة.
وبما أنّ النصوص الأدبية التي تناولت إفريقيا عديدة فإني سأكتفي هنا بقراءة نصين أحدهما سردي، والآخر شعري قراءة استكشافٍ لمكنون تلك الأرض في النص الأدبي.
تظهر إفريقيا في رواية (الطواف حيث الجمر) لبدرية الشحي مبكرا، منذ الصفحات الأولى التي تُظهر فيها زهرة، الشخصية الرئيسة في الرواية، سخطها على أدوارها المنزلية واقتصار دورها على ذلك العمل اليومي، كما تسترجع رحيل ابن عمها وحبيبها سالم إلى إفريقيا وزواجه بإفريقيّة، وهنا تطل إفريقيا/ زنجبار على القارئ مُشكّلةً أداة تعجب لدى زهرة: لماذا اختار سالم الإفريقية عليها؟ وما الذي امتازت به الإفريقية عنها حتى يتزوجها سالم؟ أسئلة عديدة ظلّت حائرة في ذهن زهرة التي كلما ذُكر سالم أطلّت أسئلة مثل هذه في ذاكرتها حتى ينتهي الحديث إلى حادثة غرق سالم في البحر.
لم تكن زهرة تعلم أن الطريق لإفريقيا / زنجبار سيكون مشروعا قائما في يوم ما، أو خيارا مهما للهروب من التقاليد التي فرضتها حياة الجبل، كما لم تكن تعلم أن إفريقيا ستكون المستقبل -أيا كان شكله- لأنثى فرّت من أهلها ووطنها رافضة الزواج بزوج يصغرها بسنوات طويلة، كانت تداعبه في المهد يوما ما.
لقد تغيّرت كلّ أحلام زهرة بعد خطبتها لابن عمها الصغير، وصار المكان/ الجبل طاردا لأحلامها، وهنا ستُصبح إفريقيا واقعا وحلما في الوقت نفسه؛ واقعا تفرضه الظروف الاجتماعية، والعادات والتقاليد التي تعمل على تهميش المرأة وتقييد حريتها وإلزامها بقيود مجتمعية صارمة. وحلما كان يُطلُّ عليها بين الحين والآخر تحاول معه الكشف عن المكان البعيد الذي اختطف حبيبها منها، وجعله يفضّل أخرى عليها. إنّ المكان الإفريقي اقترن في أعماق زهرة بقوته الواقعية، ودوافعه المتخيّلة ليؤسس رغبة جامحة في نفسها، متحدية الصعوبات في الوصول إليه.
في رحلة الذهاب إلى الشرق الإفريقي يتسع الصراع، وتبوح الشخصيات بما في داخلها؛ إذ كل شخصية تضمر في داخلها أهواءً مختلفة، لتصبح الرحلة مضمارا واسعا لصراع الشخصيات، وسقوط الأقنعة، وانكشاف الحقائق، هنا تعيش زهرة الأحداث وهي مقسّمة في ذاكرتها إلى مكانين مختلفين: صورة الجبل التي تراودها بين الحين والآخر ومعها يُطل خنجر العادات والتقاليد مهدّدا إياها بالموت نتيجة تمردها على أصالة المكان. والمكان الآخر هو الشرق الإفريقي الذي يمثّل لزهرة حلما تحاول معه إنشاء مملكتها الخاصة بها كملكة تتسيد عرشها، وهنا تتبدّل صورة زهرة الفتاة الجبلية التي كانت تنتقد العادات والتقاليد والعنصرية وشراء العبيد، إلى الفتاة صاحبة أملاك خاصة في إفريقيا، ترى من خلالها سيادتها على الناس.
وتبعًا لذلك تتبدل صورة الأرض الإفريقية من كونها حلما يحقق العدالة والمساواة والبحث عن المستقبل إلى حلم السيادة والسيطرة والهيمنة. لقد كانت النظرة الأولى لتلك السواحل الإفريقية قائمة على الحياة المرحة، بعيدا عن أيديولوجيات وضعها المجتمع، تنظر زهرة إلى الطفولة على ساحل إفريقيا فتتذكر طفولتها في الجبل فتقول: «لا يختلفون عن أهل بلدي في شيء، اللهم إلا هذه الطفلة العارية الساقين الراكضة بحرية، فما كنت أعرف أن أركض بحرية مثلما تفعل هي بلا رقيب، تتعارك في التراب وتشد شعورهم ضاحكة، ما جرؤت على مظهر كهذا، كنت ابنة شيوخ، غير كل البنات.
-لم ألعب هكذا يا ربيع، كان ذلك عيبا، لم أعرف سوى المطبخ وبئر كئيبة في الجوار».
هذه النظرة ستخلُفُها نظرات أخرى تغير من الواقع الذي كانت تؤمن به زهرة، إلى واقع طبقي وعنصري، نجدها تخاطب (كتمبوا) قائلة: «يعجبني هذا التفاني، ولكنكم، أعني لكنهم أصبحوا عبيدا ولا مغيّر لذلك، العبيد هم العبيد، والأسياد هم الأسياد».
إنها لذة التحول المكاني ودهشته التي طرأت على الشخصية الرئيسة، وجعلتها تؤمن بما لم تكن تؤمن به. إنّ تبدلات المكان أعطت لشخصية زهرة زهوا مطلقا تجاه الآخر، وتجاه المكان الجديد، فها هي تعلن عن تبدّل حالها قائلة: «بعد أن عرفت لذتها، لن أتخلى عنها بعد اليوم لأي كان. أحب كثيرا هذه الحياة، فاليوم أحس حقا أنني في المكان الذي أريد، المكان الذي أكون فيه ملكة أحكم بصولجاني الخاص، حيث لا يجرؤ فرد -باستثناء كتمبوا السخيف- أن يعارضني أو ألا يخلص لي، سأصنع من كل هذا حلما من دون نهايات، حلما تحقق أخيرا من العدم. آه كم أتحرق شوقا لأرى نفسي أميرة حقيقية».
إن العبارة السابقة على الرغم مما تحويه من أنساق مضمرة فإنها تحاول أن تُقدّم صورة واقعية عن المكان الإفريقي، المكان الذي يشهد تحولا حضاريا وإنسانيا والتي تؤكد عليه الهجرات الإنسانية المستمرة من عمان إلى شرق إفريقيا دالة على صلات بشرية متنوعة وحياة مختلفة.
لكن الرواية تحاول طرح أسئلة مهمة على القارئ، عن المكان الذي يحاول في صراعه المكاني إثبات أحقيته بالوجود البشري، والذي معه تتبدّل مفاهيم البشر في النظرة الدونية إلى الآخر. إنّ الصراع الطبقي الدائر بين البشر ينسج خيوط أحداثه وفق المسار الزمني للواقع، وإن مفاهيم الألوان لم يعد لها أي أهمية، هكذا تحاول الرواية تأسيس نظرتها إلى المكان الذي يبدو أنه هامشي التكوين لكنه سرعان ما يبدأ في أخذ نقطة المركز حتى يصبح مركز الأحداث وبناءها المتوالي؛ إذ يعمل على ترتيب رغبات الشخصيات وتهذيبها. فزهرة التي كانت تنتقد زواج ابن عمها سالم بالإفريقية تضعها الظروف أمام طريقين: إما الهرب من إفريقيا والعودة إلى عمان وهناك سيكون في انتظارها خنجر الشرف. أو البقاء في إفريقيا ومعه تتخلى عن سيادتها وكبريائها وهو الذي تؤكّده زهرة من خلال خدمة والدة كوزي وأخواته التسع، وهنا تنتهي الحكاية بما بدأت به، وهو الفعل الذي كانت تتذمر منه زهرة بخدمة أهلها الآن تقوم به راغمة لغير أهلها.
إنّ صورة الصراع في الساحل الإفريقي أيقظ لدى زهرة صورة المكان/ الجبل في قريتها مما دفعها إلى العودة إلى ذاكرة ملتهبة كالتهاب النار والرصاص المشتعل في زنجبار، فنجدها تقول: «قريتي الصغيرة النائمة على كتف الجبل، ودمية الطين المعجونة بماء الورد، وصياحات الديك المسكون بالأرق.. آه وملاحقات الصبية في السنوات الأولى، وأمي المضببة وأبي بمسبحة الفيروز.. والفجر الأبيض الندي، وأمان حضن الجبل.. وسالم.. وسالم.. وسالم، مهد المأساة، مسمار جحا الناخر في العظام، ذريعة الثورة البائسة سالم. كل هذا أودى بي لهذه الجلسة الذليلة بانتظار الموت، سدت منافذ الفردوس كلها وبقي أن ألتمس طريقا لموت كريم».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المکان الذی التی ت
إقرأ أيضاً:
الهلال السوداني يهزم الشباب التنزاني بهدفين دون مقابل في بداية مشواره الإفريقي
حقق الهلال السوداني نصرًا مهمًا في بداية مشواره الإفريقي وهزم الشباب التنزاني بهدفين دون مقابل، وذلك عصر الثلاثاء في دور المجموعات لأبطال افريقيا وعلى ملعب الشباب.سجل للهلال في الشوط الثاني اداما كوليبالي وياسر مزمل، ليحصد الهلال أول 3 نقاط في مجموعته التي تضم مازيمبي الكنغولي ومولودية الجزائري.وكان مدرب الهلال الكونغولي فلوران إيبينجيوا قال قبل المباراة بإننا لم نأت للدفاع ومشاهدة يانج أفريكانز، لكننا هنا للعب والحصول على النقاط، نود العودة بنقطة أو ثلاث.رصد وتحرير – “النيلين” إنضم لقناة النيلين على واتساب