"فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
سالم بن محمد العبري
حين توفي الأخ محمد بن الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن حمد بن محسن العبري، قرَّر إخوته دفنه بمقبرة السيب وإقامة العزاء في المجلس الملحق بجامع السيد طارق بن تيمور- عليه رحمة الله- وحين انتهينا من الصلاة عليه بمسجد المقبرة وخرجت الجنازة، لم نكد نتعرف على أحذيتنا إلّا وعربة المقبرة قد أسرعت إلى حيث يوارى الثرى، فقلت لمرافقي علي بن عامر وحميد بن محمد وخميس بن سعيد الهطاطلة نسبًا: إذن لا شغل لنا؛ فأولاده وإخوته هم من سينزلوه إلى قبره، فهيا بنا إلى بهلا لتعزية الدكتور بدر العبري في أبيه.
وشققنا طريقنا لنصل مع أذان الظهر فإذا بمجلس بهلا العام يكاد يخلو من الواقفين فالصلاة تُشد والغداء بعدها يُترقب؛ لكن الدكتور بدر العبري مازال موجودا فسلمنا عليه وعرّفنا على أشقائه وبعض من أصهارهم الذين استناروا من نوره فإذا بهم في مواقع علمية مرموقة بجامعة السلطان قابوس وغيرها من هيئات التنوير العمانية التي نفتخر بها.
إلا أنَّ من طبيعتنا نريد أن نخفف ونتخفف مستغلين وقت الصلاة والغداء ففوجئنا بنفر من البحرين زملاء ومعارف أتوا للتعزية، فقلنا: فلنتريث وقد نأخذهم معنا للغداء؛ لكن الدكتور بدر العبري أصرَّ أن يبقوا في ضيافته.
ثم عدنا لمسقط قبيل الغروب وفي اليوم التالي خرجنا إلى الحراد للتعزية في الإعلامي قيس البوسعيدي- عليه رحمة الله- فوصلنا مجلس العزاء عند العاشرة، فلمّا أُذن لصلاة الظهر خرجنا إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة وكان موقع (سترة الإمام) خالٍ، فجلست عن يساره وجلس عن يمينه أخ كريم يبدو في مثل عمري فأشار لي أن أتقدم لموضع الوسط من (سترة الإمام)؛ فقلت له: أنت مقيم بالمسجد ومن أهل المنطقة ونحن من الزائرين عملا بقاعدة (لا يُؤَمُ رجلٌ في بيته) وبعد إلحاحي عليه توسّط الرجل موضع سترة الإمام، فلما رفع الإمام تكبيرة الإحرام رأيته (يكفت) غير (مُرسلٍ يديه)، فهممتُ أن لا أُرسِل يدي احترامَا له؛ لكن المتزلفين والمتفيقهين سيجعلون من هذا الموقف قصةً تتداولها الألسن دون وعي للقصد والحُجّة. وفي صلاة العصر تكرر الموقف نفسه؛ لكن الأخ الكريم ما إن ألححت عليه كما حدث في صلاة الظهر إلا ابتعد وتنحّي بعد ثلاثة أشخاص، عندها أخذت المكان الذي أكرمنا به تواضعًا وفهمًا عميقًا للقيم والسلوك بالصلاة مع من قد يختلفون معنا بالمدارس الفقهية.
فلما انتهينا من الصلاة وسلم الإمام وصلى على النبي المختار وجهر بدعاء ختم الصلاة بادرتهم بالحديث مُثنيًا على الأخ الكريم الذي أحس أنَّ جُلّ المصلين في المسجد من المدرسة الإباضية والبعض القليل من مدرسة فقهية أخرى لها كل الاحترام؛ فهو يتبع علمًا من علماء الأمة الإسلامية له نفس الوزن والاعتراف والاجتهاد. فقلت أنا أقدِّر رأيكم ومبادرتكم لكننا نحن مارون وأنت كما أظن من المجاورين للجامع والقائمين به فأنت أولى أن تتقدم، وأنا وددت أن أشاركك (هيئة الصلاة) احترامًا وإجلالًا فعدلت مخافة سوء الظن من البعض، ورغبت أن لا أتركك غير مرسل يديك وحدك؛ فلقد تعلمت هذا من (الشيخ عبد العظيم) أحد المشايخ الأزهريين، الذي أرسلته وزارة الأوقاف واعظًا بولاية الحمراء حين كنت عضوًا بمجلس الشورى وكنت معظم الأيام أقضيها بالولاية وذات يوم صلى الشيخ الأزهريّ معنا بمسجد (المنيزف) فلاحظته يرسل يديه ولا يكفت ولعلمي أن غالبية مصر على المذهب الحنفيّ، فسألته: لماذا لم تكفت يديك؟ فأجابني بسلوك العلماء العارفين والمجتهدين الذين يضعون كل المدارس الفقهية في منزلة واحدة من الاحترام والاعتبار وجلال مؤسسيها وعلمائها قائلا: "بعض المراجع الفقهية توصينا بمتابعة ومسايرة الكثرة أو أهل البلد في (صفتهم وهيئتهم) عند الصلاة احترامًا وإجلالًا لكل ذي علم واجتهاد"، وهو قول على الأرجح قال به الشافعية.
ومن هذه الزاوية الصحفية أدعو لتبني مثل هذه الرؤية العصرية وحري بنا نحن العمانيين أن تسود بيننا مثل هذه الروح؛ فكل ذي رأي ومدرسة واجتهاد قرأ النصوص واستنبط واستقرأ القواعد الفقهية له التقدير والتبجيل تحقيقا لقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. وإعجاب المرء بنفسه مُبطل لعمله كالرياء والشرك، ومهلِك له من حيث لا يدري، وجاء في "شُعب الإيمان" للبيهقي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ".
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل تأخير الصلاة لانتظار الجماعة أفضل من أدائها منفردا في وقتها؟.. الإفتاء ترد
أكدت دار الإفتاء المصرية، أن مراعاة صلاة الجماعة والحرص عليها في أول الوقت أعظمُ في تحصيل الثواب والأجر من صلاتها جماعة في آخر الوقت أو منفردًا في أوله، مشيرة إلى أنه إن تعذرت الجماعة في أول الوقت فالمستحب للمنفرد والأكثر ثوابًا له أن يبادر بالصلاة في أوَّلِ الوقتِ إبراءً لذمته.
وأضافت دار الإفتاء عبر موقعها الإلكتروني فإن تيسر له حضور الجماعة بعد ذلك استُحب له ألَّا يفوِّتها، اغتنامًا لفضلها، وتحصيلًا لعظيم ثوابها، فإن شق عليه الجمع بين الأمرين فله أن يختار أيَّهما شاء وما يناسب حاله، ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج.
بيان فضل أداء الصلاة في أول وقتهاوأشارت الإفتاء إلى أن الشرع الحنيف رغَّب في الإسراع والمبادرة لأداء العبادات والطاعات عامَّةً، ومنها: الصلاة على أول وقتها، فقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، وقال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].
وذكرت الإفتاء أقوال الفقهاء حول أفضلية أداء الصلاة في وقتها ومنهم ما قاله الإمام فخر الدين الرَّازِي في "مفاتيح الغيب" (4/ 115، ط. دار إحياء التراث العربي) عند تفسير هذه الآيات: [والمعنى: وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة، ولا شك أن الصلاة كذلك، فكانت المسارعة بها مأمورة] اهـ.
واستشهدت الإفتاء بأن أفضلية أول الوقت ظاهرة من حَثِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلاة فيه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» متفق عليه.
وأفادت الدار بما في رواية عنه رضي الله عنه: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» أخرجها الأئمة: ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين. وقد روي هذا اللفظ أيضًا من حديث أم فَرْوَة رضي الله عنها. أخرجه الإمامان: أبو داود والطبراني. كما روي عنها بلفظ: «الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا» أخرجه الأئمة: أحمد والترمذي والحاكم.
وهذه الألفاظ كلُّها متقاربةُ المعنى متحدةُ المفهوم من أن الصلاة على أول وقتها يُعد من أحب الأعمال إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وأَجَلِّهَا، وأكثرها ثوابًا وقُربةً، كما في "فتح الباري" للإمام الحافظ زين الدين بن رجب (4/ 207-209، ط. دار الحرمين)، و"مرقاة المفاتيح" للمُلَّا عليٍّ القَارِي (2/ 310، ط. دار الفكر)، و"ذلك لأن صيغةَ "أَحَبُّ" تقتضي المشارَكة في الاستحباب، فيحترز به عن آخِر الوقت"، كما قال الإمام سراج الدين ابن المُلَقِّن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (6/ 130، ط. دار النوادر).
كما أن الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي وسطه رحمة الله، وفي آخره عفو الله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَقْتُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّلَاةِ رِضْوَانُ اللهِ، وَالْوَقْتُ الْآخِرُ عَفْوُ اللهِ» أخرجه الإمامان: الترمذي والدار قطني.
قال الإمام شرف الدين الطِّيبِي في "شرحه على مشكاة المصابيح" (3/ 890، ط. مكتبة نزار الباز): [قوله: «مِنَ الصَّلَاةِ» بيان للوقت، و«رِضْوَانُ اللهِ» خبر، إمَّا بحذف المضاف أي: الوقت الأوَّلُ سببٌ لرضوان الله، أو على المبالغةِ، وأن الوقت الأول عَينُ رضى الله كقولك: رجلٌ صَوْم، ورجلٌ عَدْل "حس": قال الشافعي: «رِضْوَانُ اللهِ» إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون عن المقصرين] اهـ. والمقصود بـ"حس": كتاب "شرح السنة" للإمام أبي الحسين البَغَوِي.
ويروى عن سيدنا أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لَمَّا سمع هذا الحديث قال: "رِضْوَانُ اللهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ"، كما ذَكر الإمام الحافظ ابن حَجَرٍ العَسْقَلَانِي في "التلخيص الحبير" (1/ 460، ط. دار الكتب العلمية)، ذلك أن الرضوانَ أكبرُ الثواب؛ لقول الله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].