لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال.. ما هي؟ وكيف أحدث ثورة طبية؟
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
شكلت اللقاحات التي تعتمد تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) التي أبرزتها أزمة كوفيد-19 ذروة ثورة علاجية، وقد حصل مطوراها على جائزة نوبل للطب، الاثنين. وهو اكتشاف قد يستخدم أيضا لمحاربة بعض أنواع السرطان والأمراض المعدية، بعد عقود من البحوث والنكسات المتعددة.
ما هي؟و"الحمض النووي الريبوزي المرسال" هو عبارة عن جزيء ينقل الشفرة الجينية من الحمض النووي إلى الخلية لتنتج بروتينات.
وتعتمد اللقاحات التقليدية على مبدأ الفيروسات المعطلة، وتدرب هذه اللقاحات الجسم للتعرف على "المستضدات"، وهي بروتينات ينتجها الفيروس، ومن شأن ذلك أن يفعّل استجابة جهاز المناعة عند مواجهة الفيروس فعليا، بحسب فرانس برس.
وتنقل لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال تعليمات جينية لإنتاج هذه المستضدات مباشرة في الخلايا، ويتحول جسم الإنسان إلى مقر لإنتاج اللقاحات.
وفيما يتعلق بكوفيد-19، يتم إدخال "المرسال" إلى الخلية لجعلها تصنع "المستضدات" الخاصة بالفيروس التاجي المغلّف ببروتينات النتوءات الخارجية، وعند الاتصال بهذه البروتينات، يطور الجهاز المناعي أجساما مضادة لتُدافع عنه في حال تعرضه للفيروس.
واللافت أن نتائج التجارب على لقاحي "فايزر" و"موديرنا" فاقت التوقعات بكثير، فالحد الأدنى من الفعالية المطلوبة من قبل إدارة الغذاء والدواء الأميركية (أف دي إيه) هو 50 في المئة، في حين أثبت اللقاحان فعالية وصلت إلى أكثر من 90 في المئة.
خبير الأمراض المعدية، أنتوني فاوتشي، قال لصحيفة واشنطن بوست، من قبل، إن النتائج كانت "استثنائية".
ولقاحات كوفيد-19 هي أولى اللقاحات التي تستخدم هذه التقنية رغم أن العلماء كانوا يدرسونها منذ عقود لعلاج أمراض مثل السرطان، ومع ثبوت أنها فعالة وآمنة، زادت إمكانية استخدامها لإنشاء علاجات يمكن أن تغير طريقة علاجنا للسرطان وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) وأمراض أخرى.
من أين أتت؟أحرز أول تقدم كبير في هذا الشأن أواخر سبعينات القرن الماضي، عندما أدخل باحثون الحمض النووي الريبوزي المرسال في الخلايا مخبريا ونجحوا في جعلها تنتج بروتينات.
وبعد عقد، تمكن العلماء من الحصول على النتائج نفسها بعد اختبارها على فئران، لكن التوصّل إلى لقاحات بتقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال واجه عائقين رئيسيين: أولا، مقاومة خلايا الحيوانات الحية، ما يثار استجابة مناعية خطرة، وثانيا، جزيئات الحمض النووي الريبوزي المرسال غير مستقرة، ما يجعل وصولها إلى النظام من دون تعديل صعبا.
وفي عام 2005، نشرت المجرية كاتالين كاريكو، والأميركي درو وايزمان، اللذان فازا بجائز نوبل، هذا العام، وهما من جامعة ولاية بنسلفانيا دراسة رائدة تظهر أن الليبيد- أو الجزيء الدهني- يمكن أن ينقل الحمض النووي الريبوزي المرسال بأمان ومن دون آثار سلبية.
وأثار هذا البحث ضجة كبيرة في مجتمع صناعة الأدوية، وبدأت الشركات الناشئة المتخصصة في العلاجات بهذه التقنية بالظهور في كل أنحاء العالم.
وعلى مدار 15 سبقت جائحة كورونا، تعاونت كاريكو مع وايزمان، خبير الأمراض المعدية لتطبيق تقنية mRNA على اللقاحات.
كاريكو ووايزمان تعاونا لسنوات في تطوير استخدام تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال في اللقاحاتوأظهرت كاريكو بالتعاون مع وايزمان أن تعديل قاعدة النيوكليوزيد، وهي وحدات الجزيئات التي تحدد الشفرة الجينية لحمض النووي الريبوزي المرسال يمكن أن تبقي هذا الحمض تحت رقابة الجهاز المناعي.
واستثمرت شركات كبرى مثل "فايزر" و"موديرنا" في هذه التقنية، واستخدمتها لأول مرة في البشر بعد تفشي فيروس كورونا.
أهم مميزاتهامن أهم مميزات التكنولوجيا الواعدة إمكانية استخدامها لتصنيع لقاحات بسرعة نسبيا، ما يعني سرعة الاستجابة لطفرات قد تحدث لفيروس كورونا وأي أوبئة مستقبلية.
فان موريس، اختصاصي أورام الجهاز الهضمي في مركز أندرسون للسرطان بجامعة تكساس الأميركية، قال إن مكونات لقاح "المرسال" يمكن "إعادة تصميمها بسهولة وإعادة تشفيرها بطريقة تواكب الفيروسات أثناء تحورها".
"المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها" (سي دي سي) تشير أيضا إلى أنه "يمكن تطويرها في المختبر باستخدام مواد متاحة بسهولة، وهذا يعني إمكانية توسيع نطاقها، ما يجعل تطوير اللقاح أسرع من الطرق التقليدية لصنع اللقاحات".
لقاحات mRNA أيضا أكثر استهدافا للأمراض والفيروسات من اللقاحات التقليدية، وتمكن من تطوير لقاح واحد ضد سلالات متعددة. وتقول "سي دي سي" إن هذا الأمر يقلل عدد الجرعات اللازمة للحماية من الأمراض الشائعة.
وقال وايزمان في تصريح، في عام 2021، لشبكة "سي أن أن" في هذا الصدد: "إذا كنت ترغب في صنع لقاح جديد للإنفلونزا باستخدام الطرق التقليدية، فعليك عزل الفيروس، وتعلم كيفية نموه، وتعلم كيفية تعطيله وتنقيته، وذلك يستغرق شهورا. بينما مع هذه التقنية تحتاج فقط إلى التسلسل الجيني مواجهة المرض".
وأضاف "عندما أطلق الصينيون فيروس SARS-CoV-2، بدأنا عملية صنع "المرسال" في اليوم التالي، وبعد أسبوعين، بدأنا بحقن الحيوانات باللقاح".
على الرغم من أنها بدت ثورية، إلا أن الفكرة لم تكن جديدة على وايزمان وكاريكو وآخرين.
وقال العالم إن من أهم مميزات هذه التقنية الواعدة إمكانية استخدامها لتصنيع لقاحات بسرعة نسبيا، ما يعني سرعة الاستجابة لطفرات قد تحدث لفيروس كورونا وأي أوبئة مستقبلية، حيث كان إنتاج لقاح مضاد للفيروسات يستغرق في السابع سنوات عديدة. والآن لم يتعد تطوير لقاح لكوفيد-19، سوى أشهر قليلة بسبب هذه التقنية.
وفي تقرير حول استخدام التقنية لأمراض أخرى غير كوفيد-19، قال موقع "إينفرس" إن الخصوصية التي تتمتع بها هذه التقنية يمكن أن تؤدي إلى "خرق هائل" في علاج السرطان.
ويقود اختصاصي أورام الجهاز الهضمي في مركز أندرسون للسرطان بجامعة تكساس الأميركية، فان موريس، تجربة سريرية لاختبار لقاحات من هذا النوع بهدف تقليل مخاطر عودة السرطان للأشخاص الذين عولجوا منه، ويعمل فريقه على ملف تعريفي للطفرات الجينية الأكثر شيوعا المسؤولة عن المرض في الأورام التي يتم استئصالها من المصابين.
ويقول موريس إن ما يجعل لقاحات المرسال مفيدة بشكل خاص لهذا المرض أن الطفرات فيه فريدة ومحددة لكل شخص، حتى بين أولئك الذين لديهم النوع ذاته من السرطان، أي يمكن تخصيص لقاح لاحتياجات كل فرد.
ولا يوجد لقاد ضد فيروس متلازمة نقص المناعة المكتسبة "الإيدز" حتى الآن، وهذه التقنية تبعث بالأمل على إمكانية حدوث ذلك مستقبلا، لكن الأمر قد يحتاج إلى مزيد من الوقت، بحسب موريس.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الحمض النووی الریبوزی المرسال هذه التقنیة یمکن أن
إقرأ أيضاً:
الإسلاميون السودانيون: لم تعثروا وكيف ينهضون (4)
الدكتور الدرديري محمد أحمد
(حين نقضوا غزلهم أنكاثا)
إذا كان لمؤرخ، بعد عقود أو قرون، أن يحدد اللحظة التاريخية التي تنَكَب فيها الإسلاميون السودانيون الطريق التي اختطوها، فانه لن يجد أفضل من اليوم الثلاثين من يونيو 1989. ليس هذا تقييما للإنقاذ التي جاءت للبلاد بخير كثير لا ينكره الا مكابر. بل ليس فيه ما يُفهم منه أن الإسلاميين السودانيين استسهلوا الانقلاب على التجربة الديمقراطية أو أنهم لم يتدبرّوا عواقبه. بَيد ان ذلك اليوم – ومهما كانت دواعي الانقلاب وبغض النظر عن نتائجه – يؤرخ لمفارقة الإسلاميين السودانيين النهج والتنظيم المحكمين اللذين اقروهما بتوفيق كبير وعلى نحو متدرج منذ ستينيات القرن العشرين. وقد جاءت تلك المفارقة في ثلاث مسائل كبرى، الانقلاب نفسه كان أولها.
كان الدافع لتدبير انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 مزدوجا. فمن ناحية تخوف الإسلاميون من اجهاض التوجه نحو تطبيق الشريعة الذي بدأه نميري بإصداره ما سمي بقوانين سبتمبر 1983. ومن ناحية أخرى استشعروا أن اقصاءهم عن اللعبة الديمقراطية باستخدام القوات المسلحة كان وشيكا. فبعد سقوط نميري (أبريل 1985) بقليل، تقدم الجيش في 18 أغسطس 1985 بمذكرة طالبت بإيقاف مشروع القوانين البديلة لقوانين سبتمبر. ذلك المشروع الذي كان يرجى ان يعالِج ما ظهر في قوانين سبتمبر من غُلوٍ واشتطاط ويكون صدوره محلا لتوافق سياسي. توجس الإسلاميون من تلك المذكرة التي مثلت تدخلا سافرا من الجيش في الشؤون المدنية وعطلت مساعي التوصل للتوافق المنشود. بعد ذلك بأشهر قليلة حققت الجبهة الإسلامية نجاحا كبيرا في انتخابات ابريل 1986؛ اذ حصلت فيها على أكثر من خمسين مقعدا في الجمعية التأسيسية. تخوفت قوى داخلية وخارجية من أن يؤدي فوز الإسلاميين الكبير إلى إقرار الجمعية التأسيسية القوانين الاسلامية البديلة لقوانين سبتمبر. تسارعت الخطى في الظلام، على مدى عامين ويزيد، ولم تهدأ حتى تم ابرام اتفاق الميرغني/قرنق، في أديس أبابا في 16 نوفمبر 1988، متضمناً نصا صريحا بإلغاء قوانين سبتمبر 1983. حينها أدركت الجبهة الإسلامية أن هناك أطرافا خارجية تسعى لمنع استمرار المسيرة الديمقراطية إذا كانت ستفضي في النهاية لتأكيد القوانين الإسلامية. ثم تعززت مخاوفها حين تواترت الروايات عن انقلاب بعثي وشيك يخشى – إبان جبروت العراق وسطوته – ان يقمع الحريات ويوقف المسيرة الديمقراطية ويضيق على الإسلاميين خصوصا. لكل هذه الأسباب قدّر الإسلاميون السودانيون أنه ما دام تدخل الجيش في المشهد السياسي ضربة لازب، فليكن ذلك “بيدي لا بيد عمرو”. وهكذا تم تنفيذ انقلاب الثلاثين من يونيو 1989.
قبيل تنفيذ الانقلاب، تفاكر الإسلاميون السودانيون مليّاً حول كيفية وتوقيت نقل السلطة بعد نجاح الانقلاب من العسكريين للمدنيين. وكان ذلك موضوعا لسلسة من الاجتماعات تجاوزت العشرين، كان الترابي حاضرا فيها كلها. في النهاية حدث توافق على ان يكتمل انتقال السلطة للمدنيين في نحوِ العامين. غير أنه هناك دوماً فرق بين حساب الحقل وحساب البيدر. فالعوامل الداخلية والخارجية التي تكاثفت بعد الانقلاب جعلت الإسلاميين يقررون تأجيل نقل السلطة إلى العام 1996. بعدها انفلتت الأمور وتواجه العسكريون مع الدكتور الترابي ووقعت المفاصلة في ديسمبر 1999. غير أنه واتت من استمروا في الحكم بعد المفاصلة فرصتان لنقل السلطة للمدنيين ومن ثم تحقيق الانتقال من حال الانقلاب والثورة إلى حال المشروعية والدولة. وكانت أولها الفرصة التي أتاحتها اتفاقية السلام الشامل في 5 يناير 2005. وكانت الثانية هي الحوار الوطني الذي أطلق في 27 يناير 2014. إلا أن العقلية التي أوجدها الانقلاب، والتي تخلّت عن مبدأ نقل السلطة للمدنيين وعدّته مما يدخل فيما سُمي حينها “تصفية الإنقاذ”، قد تسببت في ضياع الفرصتين. ويقودنا ذلك لأن نتفحص قليلا هذه الذهنية الجديدة.
عند نجاح الانقلاب انساقت كوادر الإسلاميين وشبابهم وراء المشروع الانقلابي، دون أن يتبينوا أوجه الاختلاف بينه وبين مشروعهم الأصيل. وكان الاختلاف بين المشروعين جذريا. ففي الوصول للحكم على ظهر دبابة وليس عبر صندوق الانتخاب، اتخاذ لنهج ثوري متعجل بديلا للنهج الإصلاحي المترفق الذي كانت تقول به الحركة. وإذا كان البعثيون والشيوعيون يبيحون لأنفسهم الانقلابات، كونه ليس منظورا أن يصلوا للحكم بغيرها، فانه لم يكن من سبب يدفع الإسلاميين لاتخاذها وسيلة. وان جاز لهم ان يفعلوا ذلك، في ظروف مثل التي أشرنا اليها أعلاه، فإنما يكون استثناءً من باب الضرورة التي تقدر بقدرها. مهما يكن فقد اعترف الترابي عدة مرات بالخطأ الذي ارتكبته الحركة الإسلامية بتدبيرها انقلابا، رغم المبررات والمسوغات التي جعلتهم يتخذون ذلك القرار. وبالرغم من أن إدانة الشيخ الترابي للانقلاب جاءت بعد المفاصلة، إلا أنها تتجاوز الملابسات الظرفية لذلك الحدث لتكتسب قيمةً معيارية تهدي الأجيال القادمة من الإسلاميين.
غير أن أول من أنتبه لخطأ استمرار الانقلاب وللأخطاء التي تراكمت جراءه، كان جيل الشباب. فتكاثفت دعواتهم أفرادا وجماعات للعودة إلى خط الحركة؛ كل على شاكلته. ومن الذين كتبوا مبكرا من الجيل الثاني حسن مكي، والتيجاني عبد القادر. ثم تلت ذلك رؤى إصلاحية جماعية على فترات مختلفة؛ أبرزها مذكرة العشرة، ومذكرة الألف، ومذكرة مجموعة غازي صلاح الدين. ثم برزت أصوات ناقدة من قياديين بارزين أشهرهم أحمد عبد الرحمن وأمين حسن عمر. بعد المفاصلة تبنت بعض التكوينات مبادرات ذات أثر. ومن ذلك مجموعة الإحياء والتجديد، ومجموعة “سائحون”، ومنتدى ابن رشد، والتفسير التوحيدي. وقادت هذه المجموعات حوارات ونقاشات، بل تمايز بعضها عن جسم الحركة الرئيس. ووجدت هذه الرؤى والأفكار سبيلها لمن كانت بيدهم أعنّة الأمور. ومن ثم اختلط الصراع حول السلطة، عند المفاصلة، بالخلاف حول المبدأ والفكرة … والله يتولى السرائر.
من أهم ما ترتب على هذه العقلية الجديدة التي ولّدها الانقلاب تراجع الحركة عن شطرٍ من قناعاتها الفكرية المستقرة. اذ نتجت عنها، وكما قال محمد مختار الشنقيطي، فجوة بين المبدأ والمنهج. وفصّل الشنقيطي في ذلك بالقول: “ان الحركة الإسلامية السودانية أعظم حركة في الفكر الاستراتيجي وبناء التحالفات والعلاقات الخارجية، ولكنها أسوأ تجربة في الحكم في العالم السني، فهناك فجوة هائلة بين المبدأ والمنهج. نجحت في المناهج العملية والاستراتيجية العملية وفرطت تفريطا شديدا في المبادئ والقيم التي تأسست عليها”. هذه الفجوة بين الفكرة وبين النهج الذي تبع الانقلاب هي المسألة الثانية التي نعرض لها هنا.
بعد وصولها للسلطة غادرت الحركة مبدأها القديم الذي كانت تربط فيه الفعل بالواقع وتطور رؤاها وفقا لسياقاته. وحاولت بلورة نسق فكري أشبه ما يكون بأيدولوجية متكاملة. اذ شرعت في التخطيط لمرئيات عقائدية طويلة المدى. ففي ندوة مركز دراسات المستقبل الإسلامي التي عقدت بالجزائر في مايو 1990 قدّم الدكتور الترابي مساهمة بعنوان “أولويات التيار الإسلامي لثلاث عقود قادمات”؛ أي أنه كان يقدم خطة مستقبلية للتيار الإسلامي في الفترة من 1990 وحتى 2020! وقد تضمنت تلك الورقة مبادئ للتخطيط الإستراتيجي في جملة من المسائل منها كيفية تحكيم الشريعة، والطهارة من الفساد، وبسط الشورى. وقُدمت فيها رؤية للحركة بشأن المرأة أكثر راديكالية من الدعوة القديمة لإطلاق المرأة من قيود التقاليد. اذ هدفت الرؤية الجديدة إلى “تحرير المرأة”، “لإحداث ثورة ذات بال في حياة المسلمين”. كذلك تضمنت تلك الورقة أطروحة بشأن “التمكين المطمئن”. مهما يكن فانه من نعم الله أن هذا التوجه الأيديولوجي الجديد الذي برز في الجزائر في عام 1990 لم يجد أصداء كبيرة في الخرطوم، فلم تطور مرئياته هذه الا لماما.
الا أن الكثير من الأفكار والمصطلحات الجديدة التي ما كانت مألوفة في أدبيات الإسلاميين السودانيين قبلا، وما كانت مما يعرف من لغة الترابي، قد بدأت تتجذر وتأخذ مضامين فكرية جديدة يُقبِل الناس عليها دون كثير جدال. ومن ذلك “التمكين” الذي أُشتهر أمره، والذي بدأ تمكينا للمبادئ والفكرة في المجتمع ثم تحول الى تمكين للحركة وكوادرها في الدولة. ومن المصطلحات الجديدة التي ترسخت في العشرية الأولى للإنقاذ، مصطلح “الحاكمية”. فقد ورد في النظام الأساسي للمؤتمر الوطني أن الهدف الأول للحزب هو “إقرار الحاكمية في الدولة لله”. وجاء في المادة الرابعة من دستور 1998 ان “الحاكمية في الدولة لله خالق البشر”. وشتان بين هذا وبين ما قاله الترابي قبل نحوا من ثلاثين عاما في كتابه أضواء على المشكلة الدستورية، حين جعل للجمعية التأسيسية “الحاكمية غير المقيدة”؛ ثم ما عرف عنه لاحقا من القول إن “الحاكمية للشعب”. بتطاول العهد بالإنقاذ هُجرت هذه المنظومة الأيديولوجية عمليا، وتوقفت اجتهادات الدكتور الترابي فيها بعد المفاصلة. غير انه لم تتم العودة للنهج الإصلاحي القديم القائم على الربط بين الفكر والعمل. وربما، وكما قال التيجاني عبد القادر، انفسح المجال لاجتهادات لحظية لا تعبأ بفكرة.
ومن الأخطاء التي وقعنا فيها بسبب مفارقة النهج المبدأ، تكوين المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في عام 1991 كتنظيم عابر للحدود يعمل على مستوى الساحة الإسلامية والعربية. بالطبع كان ذلك مما يستغرب بشكل خاص من التنظيم الإسلامي السوداني الذي خرج عن التنظيم الدولي للإخوان بحجة ان “أهل كل بلد أدرى بشعابها”. وان للإسلاميين في كل بلد “أن يراعوا خصوصياتهم الظرفية دون افتتان بتقليد عالمي يقطعهم عن أصول التحديات الفعلية”. إضافة إلى ذلك فانه لم تسبق ذلك المشروع دراسة لردود الفعل الدولية المتوقعة على السودان. وحيث ان ذلك الكيان قد ضم في عضويته معارضين للأنظمة السياسية في نحوِ عشرين دولة، ولأنه شكل مشروعا للتقارب بين السنة والشيعة، ولأنه تبنى الحوار بين الأديان، فان ذلك ولد اجماعا عربيا واسلاميا ضد السودان؛ كونه يرعى “عالمية إسلامية” جديدة. بل توجس الغرب خيفة من ذلك. فاعتبر كتاب كبار ان المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي كيان ضرار يقام لسحب البساط من منظمة المؤتمر الإسلامي الخاضعة للهيمنة السعودية والناجحة، وفقا لمرئياتهم، في تدجين العالم الاسلامي. كانت تلك بعض شواهد المسألة الثانية التي نكصت فيها الحركة على عقبيها؛ والتي هي مفارقة المبدأ.
أما المسألة الثالثة، فكانت هي النُكول عن أهم قيمة تضمنها اتخاذ التنظيم وبناء الحركة على هيكل؛ والتي هي ابدال محورية الشيخ التقليدية في التاريخ الإسلامي بالنمط التنظيمي الحديث الذي يكون فيه للتلاميذ دور واسهام. فبعد خروج الترابي من السجن في عام الإنقاذ الأول تركزت الأمور في يده ونُشرت كوادر الحركة في الآفاق، تأتمر وتنفذ دون ان تُناقِش. بل ضاقت القيادة ذرعا بجسم الحركة المركزي نفسه وبهياكلها ونظمها. ففي سنة 1993 جُمع مجلس الشورى – وليس المؤتمر العام – ليتخذ أكبر قرار في تاريخ الحركة الإسلامية السودانية؛ والذي هو قرار تعليقها! لاحقا اُستدعيت الحركة الإسلامية للعمل في سياقات ما بعد المفاصلة.
وسواء كان ذلك في حد ذاته خيرا أم غير ذلك، فانه لم يعُد من الحركة للحياة الا اسمها ورسمها. اذ ذهبت مكانتها في النفوس الا قليلا، وتبددت فعاليتها السابقة، وانتقل مركز السلطة إلى خارجها.
بل قُضي هذا الأثناء على أهم مبدأ كان يمكن أن يدخل لرحاب العمل الإسلامي في ركاب التنظيم الحديث، ألا وهو مبدأ التداول الداخلي للقيادة. وقد قال محمد محجوب هرون عن ذلك، مستشهدا بصمويل هنتنغتون، “إن استمرار الرئيس مدة طويلة وكذا الترابي أمينا عاما للحركة مدة حياته أدى إلى غياب المؤسسية؛ فمقياس المؤسسية عند هنتنغتون هو أن يُسلِّم الجيل المؤسِّس السلطة للجيل الذي بعده وهو على قيد الحياة”. في تقديري إن السبب الأول لاستمرار الرئيس مدة طويلة كان هو بقاء الترابي في المنصب العمر كله – مثله في ذلك مثل شيوخ الإسلام التقليديين – وليس لدورات معلومة كما هو حال الأمناء العامين للتنظيمات الحديثة. اذ لو أن الحركة التزمت مقتضيات العمل التنظيمي وأحدثت تداولا داخليا لكانت قد قدمت المثال والنموذج لما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الدولة. حينها ما كان ليتأتى لرأس الدولة تجاوز ذلك المثال. وهكذا فان ضعف المؤسسية في الحركة أدى إلى ضعفها في الحزب والدولة؛ فتمكنت فيهما معاً ظاهرة “الرجل القوي”. وهي ظاهرة تنمحق بسببها الشورى، ويتراجع عندها الأداء الكلي، وتتصلب جراءها شرايين التنظيم، وتخفت لديها روح المبادرة، ويكثر فيها تناقل القيل والقال على المستوى الأفقي. بل تتحول معها المؤتمرات واللقاءات الجامعة إلى أيام زينة ومواسم تمجيد. وما كانت المفاصلة إلا تجلياً لهذه الظاهرة. إذ انه بضعف المؤسسة – وفي غياب النموذج – يكون التنافس فردانيا حول من يكون الرجل القوي.
سيتناول هذا المقال في حلقته الخامسة كيف أن العلمانيين السودانيين حرصوا على جعل الليبرالية شرطا للديمقراطية حتى يعرقِلوا ترسخ نظام ديمقراطي في البلاد تكون نتيجته هي تولي الإسلاميين السلطة عبر صناديق الاقتراع. غير أنه ما كان هناك ما يمنع الإسلاميين أنفسهم – وعلى مدى ثلاثين عاما – من ترسيخ الديمقراطية غير المرتبطة بالليبرالية؛ تماما مثلما فعلت بعض الأحزاب الحاكمة في افريقيا جنوب الصحراء. ففي تنزانيا نجح قادة حزب CCM، الحزب التاريخي الذي وحّد زنجبار مع تنجانيقا، في تداول السلطة داخليا فيما بينهم لثلاث مرات. بل تخلّت بعض الأحزاب الأفريقية الكبرى عن السلطة لغيرها في تداول انتخابي سلمي؛ كما حدث مرارا في غانا والسنغال وبنين.
ولربما لو قدمت الحركة الإسلامية النموذج، تداولا داخليا، فتولى الأمر فيها أمين عام تلو أمين عام، لكنا قد شهدنا تداولا خارجيا للسلطة يتولى فيه أمر البلاد رئيس تلو رئيس. ولكن هيهات … أو كما كان يقول ابن عطاء الله السكندري.
هذه هي المسائل الثلاث الكبرى التي نقض فيها الإسلاميون السودانيون غزلهم أنكاثا. وهي التي جرت الوبال على الفكرة، وعلى التنظيم، وعلى الدولة. ولعل فيما ذكرنا من خَبرِها العبرة لمن يُلقي السمع وهو شهيد.