قصة الثلاجة الكهربائية والسمكة التي أحبها السلطان سعيد بن تيمور
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
أثير – فاطمة بنت ناصر، مترجمة وصحفية
سأحدثكم اليوم عن قصة: السمكة والثلاجة. أما السمكة فكانت تعيش في مياه الولايات المتحدة الأمريكية وتحديدا في المحيط الأطلسي الذي يحد الولايات المتحدة الأمريكية من جهة الغرب، واسم السمكة Chesapeake Bay shad. وهي سمكة نالت على رضا ذائقة السلطان سعيد بن تيمور.
مؤخرًا صادفت موضوعًا يعود لعام 1938، نشرته صحيفة Evening Star التي كانت تصدر من واشنطن حول هذه السمكة التي كانت من أهم أسباب أن يقطع السيد سعيد بن تيمور نصف العالم ليتذوقها في أمريكا. كنت أظن أن هذه ليست سوى مبالغة صحفية لا بد منها في صياغة الأخبار، غير أن الأمريكيين يثبتون هذا بعدة أدلة منها:
– قيامهم بسرد تاريخ علاقة السمك الأمريكي بعمان، التي سبقت عهد السلطان سعيد بن تيمور، فعلاقة عمان والسمك الأمريكي ترجع لما قبل تولي السيد سعيد بن تيمور لعرش عمان، ففي عام 1832م وتحديدا في عهد حكومة الرئيس الأمريكي السابع Andrew Jackson ( 1829-1837)، قام سفير أمريكا المتجول Edmund Roberts بجولة حول العالم استغرقت 445 يوما قطع خلالها 45،000 ألف ميل أي ما يعادل (72420.48 كم)، ولم تفضِ جولته إلى مفاوضة أية اتفاقيات تجارية عدا تلك التي قام بها مع سلطنة عمان والتي كانت زنجبار حينها تابعة لها، وقد كانت السمكة الأولى التي تصل إلى أرض الخليج عبر بوابة مسقط.
هذه السمكة تحديدًا لا يختلف حول مذاقها الشهي أي رئيس أمريكي بدءًا من الرئيس الأمريكي الأول George Washington وحتى رئيسها السابع الذي عاصر عهد رئاسته فترة حكم السلطان سعيد بن تيمور.
100 عام
بعد مرور 100 عام على قصة الاتفاقية التجارية بين أمريكا وسلطنة عمان في 1832م، وتحديدا في عهد السلطان سعيد بن سلطان، جاءت الاتفاقية الثانية في عام 1932م؛ فقد استقبل السلطان سعيد بن تيمور وفد التفاوض الأمريكي وأكرمهم بمأدبة عشاء في مسقط. كانت مأدبة فاخرة لكن دون ملاعق ولا أشواك ولا سكاكين!. وهذا أمر متعمد بالطبع ففي ذلك الوقت كانت هناك ملاعق وغيرها من أدوات الأكل، لكن من المعروف اعتزاز السلطان سعيد بن تيمور بأصله العربي ورسائله الضمنية في رفض الانقياد للغرب حتى في أبسط الأمور.
بعد أن غادر الوفد السلطنة عائدا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قرروا أن يبعثوا بهدية تعبّر عن امتنانهم للسلطان سعيد بن تيمور، فكانت الهدية عبارة عن ثلاجة كهربائية حديثة.
الثلاجة
لم يكن حمل الثلاجة من الباخرة إلى القصر بمسقط بالأمر السهل، وذلك للطبيعة الجغرافية للميناء وبعد مرسى السفينة نسبيًا عنه، وقد تم الاستعانة بقارب لينقل الثلاجة إلى الشاطئ ومنه إلى قصر السلطان. كان القصر بمسقط قد زود حديثًا بالكهرباء وحين وصلت الثلاجة إلى القصر وتم فتحها أمام السلطان كانت المفاجأة، بوجود كمية من سمكة Chesapeake Bay shad. ومن هنا تأتي قصة أخرى تتعلق بعظام هذه السمكة.
سمكة بدون عظام
أراد الوفد الأمريكي إرسال هدية مميزة للسلطان لا تقتصر فقط على أول ثلاجة كهربائية تدخل إلى عُمان، لكن قرروا أن يملأوها بسمكتهم Chesapeake Bay shad الشهية التي كانت إلى جانب مذاقها اللذيذ معروفة بكثرة عظامها. وقد قرر الأمريكان أن يقدموا للسلطان سعيد بن تيمور أفضل تجربة لتذوق السمكة دون أن تشغله عظامها عن التلذذ بلحمها، ولهذا طلبوا طلبًا خاصًا من شركة الأسماك لتقوم بنزع كل العظام التي ستقدم هدية للسلطان سعيد، لتصل إلى مائدته بلحمها النقي لا تنغصه عظامها الكثيرة عن مذاقها الرائع.
من نزع العظام؟
يذكر المقال أن من قام بنزع عظام السمك المقدم للسلطان سعيد هو Cy Ellis وهو يعد أبرز من يتقنون هذا الأمر، وقد وصفت الصحيفة عمله بأنه “فن صعب ندرة من يجيدونه”. صورت الصحيفة Cy Ellis وهو يقوم بتجهيز السمكة تلو الأخرى لنزع عظامها، لم يكن يلبس لباس عامل في مصنع بل كان يرتدي بدلة فنان راقٍ. وقد أضافت الصحيفة أنه بلا شك فخور بأن توكل إليه مهمة تجهيز هدية سلطان عمان.
من كتب المقال؟
من قام بكتابة المقال ليس صحفيًا مبتدئًا يبحث عن الشهرة عن طريق المبالغة وكتابة العناوين اللافتة، بل هو صحفي مخضرم حاصل على عدة جوائز وله إنجازات كثيرة.
الشاعر والصحفي والمراسل والناقد John J. Daly وهو أحد أشهر الصحفيين في أمريكا. بدأ مسيرته الصحفية بالوقوف أمام والده مدافعا عن قناعته، فقد كان والده أحد العاملين في مطابع صحيفة Washington Post لمدة ١٠ أعوام (١٨٧٠- ١٨٨٠) وقد شهد النقلة في عالم الطباعة من الطباعة بواسطة آلة “الضرب بالقالب” وصولا إلى الطباعة بالكبس الحراري وأول آلة طباعة متنقلة عرفت باسم Linotype، وكان ذلك العمل الشاق سببا لرفض الأب نهائيا فكرة أن يعمل أي من أبنائه في عالم الصحافة، حيث قال صراحة: “لن يصبح أي من أبنائي صحفيًا”، وقد أنفق الأب مبالغ كبيرة حتى يتخرج ابنه من الجامعة الكاثوليكية في تخصص الهندسة الميكانيكية.
لم يخيّب الابن ظن والده لكنه تخرج من الجامعة وذهب للعمل في اليوم التالي في صحيفة Washington Post وعمل مراسلًا رياضيًا. أما سبب شهرته الكبيرة فتعود إلى تغطيته لحريق نشب في مسرح Knickerbocker – عرف بحريق واشنطن العظيم- في ٢٨-١- ١٩٢٢م، وقد كان من الناجيين من الحريق، وقام بكتابة قصة الحريق فور نجاته وكتب الليل بطوله تحقيقا كاملا من ٥٠٠٠ كلمة، ولم يتوقف عن الكتابة حتى تورمت أصابعه. بعد هذه التغطية الصحفية المميزة، انهالت عليه العروض من عدد كبير من الصحف والمجلات الأمريكية.
وما يعنينا هنا أن المقال كُتب في عام ١٩٣٨م أي بعد أن أصبح الكاتب أحد أشهر الصحفيين في أمريكا! ومن هنا تأتي أهمية المقال الذي كان مميزًا جدًا ويحمل العديد من الإضاءات التاريخية التي تدل على تمكّن ملحوظ وكتابة تجمع ما بين الرصانة والتشويق.
المصادر:
– أرشيف صحيفة Evening Star
- https://www.washingtonpost.com/news/capital-weather-gang/wp/2013/04/26/knickerbocker-snowstorm-the-washington-posts-john-jay-daly/
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: التی کانت
إقرأ أيضاً:
السلطان هيثم.. القائد الذي يصنع عُمان الجديدة
عندما نقرأ أحداث التاريخ ونتصفح مساراته نجد بشكل واضح أن الدول والشعوب تقف، دوما، عند مفترق الطرق، ويتحدد مصيرها في منعطفات الأحداث على أيدي قادتها الذين يصنعون التحولات الكبرى التي يتضح حجمها وأبعادها البنائية والتأسيسية بعد حين: بعد سنوات وربما عقود وأحيانا بعض نصف قرن أو أكثر؛ فليس سهلا أن يشكل الباحث أو المتأمل للأحداث التاريخية رؤية متكاملة في لحظة تداعي الحدث وتوالي تفاصيله.
في كتابه "الأبطال" يطرح المؤرخ الإسكتلندي توماس كارليل رؤية عميقة عن دور القادة العظماء في تشكيل مسار التاريخ فيعتبر "البطل" هو الشخص الذي يتمتع بصفات استثنائية، تجعل منه مصدر إلهام لأمته/شعبه، ويمنحه القدرة على التأثير العميق في مجريات الأمور وتوجيه الناس في اللحظات الحاسمة. البطل، في نظر كارليل، ليس مجرد شخصية تاريخية عظيمة، بل رمز للقوة الروحية والأخلاقية التي تشع منها أفكار وإلهام قادران على تحريك الشعوب وتغيير مصائرهم.
ويرى كارليل بأن التاريخ الإنساني هو في جوهره تاريخ الأبطال، وأن هؤلاء القادة العظام هم المحرك الأساسي للتغيرات الكبرى.
واللحظات الحاسمة في التاريخ تتطلب ظهور أبطال عظام يمتلكون القدرة على تحويل مسار الأمور، ويمثلون الأمل الأخير للشعوب في الأوقات العصيبة. والقائد البطولي هو الذي يظهر في هذه اللحظات ليوجه الأمة ويمنح الناس رؤية واضحة للمستقبل.
وهذه الرؤية التي يطرحها كارليل تبدو شديدة الوضوح في عهد حكام أسرة ألبوسعيد منذ الإمام المؤسس أحمد بن سعيد وإلى اليوم حيث يتسنم عرش عُمان العظيم جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، الذي تتجسد فيه بشكل واضح موصفات "البطل" الذي جاء لأمته في لحظة حاسمة وعند مفترق طرق وألهم فيها الأمل واستطاع بحكمته تحويل مسار الأمور في لحظة تحولات كبرى في المنطقة والعالم إلى حيث الاستقرار والقدرة على بناء يقين بالمستقبل.
كان المشهد الداخلي والخارجي في عُمان شديد التعقيد في اللحظة التي وصل فيها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه إلى سدة الحكم؛ فقد كانت عُمان، سليلة التاريخ والأمجاد تعيش في لحظة إقليمية وعالمية شديدة التعقيد، وفي لحظة داخلية صعوبة بعد رحيل السلطان قابوس الذي فُجع به الجميع.. كانت عُمان تعيش أزمة مالية خانقة أثرت على الاقتصاد ورفعت المديونية إلى رقم تاريخي، وتعيش أزمة صحية بسبب جائحة كوفيد19، وتعيش حزنا كبيرا على رحيل السلطان قابوس.. بدا الأمر شديد التعقيد، ومسارات حلوله صعبة للغاية لأنها ترتبط بالمشهد العالمي، حركته المالية وحركته الاقتصادية ومسارات التعافي من الوباء لم تكن واضحة على الإطلاق ليس في عُمان فقط ولكن في العالم أجمع. وأمام هذا المشهد كان لا بد من "بطل" يستطيع أن يصنع تحولا تاريخيا يبدأ من الداخل بإعادة اليقين إلى الناس ويجري إصلاحات اقتصادية ومالية وهيكلية في بنية الحكومة، ثم يمتد الأمر إلى الخارج للعمل على حفض حدة التوترات الإقليمية.
كانت هذه المواصفات متوفرة في السلطان هيثم، الرجل الهادئ وصاحب النظرة العميقة والمتأملة، وكان العمانيون على يقين أنه يملك القدرة على إحداث التغيير في لحظة تاريخية لا تقبل التجريب.
واستطاع جلالة السلطان المعظم أن يعيد بناء المشهد الداخلي وفق رؤية واضحة المعالم هي رؤية "عُمان 2040" التي لم تكن رؤية تجريبية ظهرت في لحظة حاجة ماسة ولكنها رؤية بنيت على أسس عالية الدقة من التخطيط المحكم والمشاركة الشعبية. رسخ السلطان هيثم منذ خطاباته الأولى مصطلح "النهضة المتجددة" واستطاع هذا المصطلح ومعطياته التطبيقية التي وظفها الإعلام العماني بشكل مهني من تجسير الفجوة بين مرحلتين وبين عهدين، وألهم المصطلح العمانيين الذين شعروا عمليا أن النهضة "تتجدد" وأن هناك متغيرات حقيقية تجاوزت التغييرات العابرة إلى تغيرات هيكلية عميقة طالت بنية الحكومة التي أعيد هيكلتها بعد أقل من ثمانية أشهر من تولي السلطان لمقاليد الحكم، وبعد عام كامل عند إصدار نظام أساسي جديد للدولة وضع مسارا محكما لعملية انتقال ولاية الحكم ورسخ لدولة العدل والمساواة والحقوق ورسخ لمبدأ الحوكمة وكذلك للقيم الثقافية والأخلاقية التي تنطلق منها مبادئ سلطنة عمان.
وكانت الإصلاحات التي طالت الاقتصاد ومسارات الانفاق المالي والتي حققت نتاج إيجابية بشكل سريع فاق التوقعات هي الأكثر تأثيرا في يقين العمانيين وألهبت طموحاتهم وتطلعاتهم نحو غد أكثر إشراقا وأيقنوا سريعا أنه القائد/ البطل القادر على صناعة مستقبل مختلف لعُمان وفق رؤية تجمع بين تاريخ عريق واستراتيجيات حداثة، تمثل النهضة الشاملة.
ولكي نفهم جوهر الفكر القيادي الذي يتمتع به جلالة السلطان المعظم لا بد من العودة إلى الجذور التي نشأت فيها جلالة السلطان والتي شكلت وعيه بعُمان وبتاريخها وشكلت وعيه بالمنطقة المحيطة بعمان والتي تؤثر في كل مسارات الأحداث.
القيادة الأخلاقية
ولد السلطان هيثم في بيت حكمة وسياسة وبطولة فهو سليل سلاطين البوسعيد الذين حولوا عُمان إلى واحدة من أعظم إمبراطوريات العالم في القرن التاسع عشر وراكموا أمجادها عبر قرون طويلة من الفعل الحضاري، وتربى، حفظه الله، على القيم التي جعلت عُمان دولة ذات حضور مستقل وصوت معتدل في المحافل الدولية. ومر السلطان هيثم بتجارب صقلت تجربته القيادية. فعلاوة على أنه كان قريبا من الناس ومن نبضهم فقد كان على مستوى كبير من الوعي السياسي بعد سنوات طويلة من العمل في وزارة الخارجية حيث مركز الدبلوماسية العمانية وتماسها من القضايا العالمية ومواقفها الممتدة من عمق مبادئها السياسية والتاريخية، وعبر ذلك أدرك المحركات الثقافية التي تحرك الأمم والشعوب وتنعكس على سياساتهم الخارجية. كانت تلك التجربة مهمة جدا في بناء شخصية القائد في فهم الأبعاد الخارجية للعالم أجمع. ثم كانت تجربة وزارة التراث والثقافة والتي لا تقل أهمية عن تجربة الخارجية. وعبر هذه التجربة تعمق وعي جلالة السلطان بتاريخ وطنه ومنجزه الحضاري ومواطن قوته الأمر الذي جعله تصوراته حول المستقبل أكثر يسرا وسهولة.
أدرك السلطان هيثم عبر قربه من نبض المجتمع وعبر فهمه العميق لثقافته ولوعي المجتمع المبني على وعيه التاريخي آمال العمانيين وخاصة أجيال الشباب منهم وبنى رؤيته على فكرة التوازن في الحفاظ على الهوية والانفتاح على العالم فكان يركز في كل مناسبة على البناء الأخلاقي والتمسك بالقيم العماني وبالوسطية والاعتدال رغم حديثه المستمر عن الدولة العصرية المتقدمة والانفتاح الاقتصادي.
هكذا تبدو شخصية السلطان هيثم واضحة المعالم، فالانفتاح من وجهة نظره لا يعني الانسلاخ من قيم المجتمع ومن مبادئه وهذا الرؤية هي رؤية القائد الذي لا يبني لحظة آنية تهمل البناء الحضاري، إنه قائد معني بالبناء الأخلاقي والحضاري الذي يمتلك صفة الاستدامة والبقاء والتأثير العميق.
رؤية عمان
لم تكن رؤية عمان 2040 التي يمكن أن ننظر لها باعتبارها مشروع حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم لعمان في لحظة تاريخية مهمة مجرد وثيقة تخطيط لتسيير العمل الحكومي في الدولة، إنما كانت انعكاسا لطموحات بلد بأسره كان يبحث عن رؤية في لحظة تحولات كبرى في العالم. كانت الرؤية تستند إلى تلك الطموحات التي تم بلورتها عبر دراسات معمقة واستشارات واسعة مع جميع فئات المجتمع. من يتأمل وثيقة الرؤية يدرك أنها تعزز فكرة أن الاستدامة والابتكار هما ركيزتان أساسيتان، وتستهدف تحويل التحديات إلى فرص واعدة، مع التركيز على العمانيين باعتبارهم الثروة الأهم والهدف والغاية النهائية من كل عمل.
وكان واضحا أن فكر السلطان هيثم الاستراتيجي المبني، كما سبق، على رؤية واسعة وعميقة لعُمان وللعالم يدرك خطر الاعتماد على النفط وحده في وقت لم يعد فيه النفط في المكانة العالية التي يمكن أن تضمن المستقبل في ظل التقلبات الاقتصادية العالمية؛ ولذلك، اتجه إلى تنويع مصادر الدخل، عبر تبني الاستثمار في الطاقة المتجددة وفي التكنولوجيا المتقدمة وفي قطاعات السياحة، والخدمات اللوجستية.. ورغم أن الطريق ما زال في عتباته الأولى في إطار إحداث تغيرات جوهرية في بنية اقتصادية إلا أن الأهداف بدأت تتحقق في الكثير من مسارات العمل وبدأت مساهمة القطاعات غير النفطية تنمو بشكل واضح. ومثل هذه الرؤية التقدمية ستصنع مع الوقت اقتصادا متينا ومستداما يستطيع يوفر حياة كريمة للأجيال القادمة.
إن ما يميز رؤية السلطان هيثم واستراتيجيته المستقبلية التي نقرأها في "رؤية عمان" هو ارتباطها الوثيق بالإنسان؛ فهي تهدف إلى تطوير التعليم والتدريب، ليكون أبناء عمان هم صناع المستقبل، وليس مجرد مستهلكين له.
لم تتوقف خطوات جلالة السلطان المعظم عند الخطط الاقتصادية من أجل الانتاج، بل امتدت لتشمل إصلاحات عميقة في بنية الاقتصاد وفلسفته وكذلك الإدارة وغاياتها. لقد شرع السلطان، أعزه الله، في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية، تعيد هيكلة المؤسسات وتحقق الاستدامة المالية، وتزيد من كفاءة الأداء الحكومي.. وكان هذا التوجه مبنيا على فهم أن الإصلاح الاقتصادي ضروري لبقاء الدولة قوية ومرنة أمام التحديات الكبرى التي تحدث في العالم وتقلبات الأسواق والحروب التي بليت بها المنطقة. ومن بين أهم الإصلاحات التي أقرتها رؤية السلطان هيثم للحكم تنظيم سوق العمل، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير القطاع السياحي ليكون مصدرا مستداما للدخل خاصة وأن سلطنة عمان تمتلك مقومات سياحية استثنائية.
وأمام هذه التغيرات الهيكلية والإصلاحات الاقتصادية العميقة برز إيمان جلالة السلطان هيثم بمبدأ الحوكمة باعتبارها أحد أهم ضمانات الكفاءة، وأعطى السلطان، حفظه الله، الشفافية والمساءلة أهمية كبرى باعتبارهما قواعد ثابتة في إدارة الدولة، مؤكدًا أن الولاء الحقيقي لعُمان يعني خدمة الوطن بكل تفان. وأكد على أهمية فتح قنوات تواصل بين الحكومة والمواطنين، ليكون المجتمع شريكا في رسم السياسات المستقبلية وهذا التوجه يعكس إيمان السلطان بأن النهضة لا تتحقق إلا بتكاتف الجميع.
ورغم إلحاح القضايا المالية والاقتصادية في اللحظة التي جاء فيها جلالة السلطان للحكم إلا أنه لم يتجاوز قيد أنملة الاهتمام بالقضايا الثقافية وبترسيخ الهوية الوطنية والتمسك بكل قوة بالقيم والمبادئ الأخلاقية التي تبقى صمام الأمان لأي مجتمع. ويبقى الحفاظ عليها أحد أهم أولويات القائد الذي تنطلق رؤيته من عمق مجتمع وثقافته.
كان هذا المسار الإصلاحي الهم الأول والأساسي الذي شغل جلالة السلطان هيثم المعظم منذ العتبات الأولى لعهده الميمون، لكنه لم يكن الهم الوحيد فقد كانت السياسة الخارجية ملحة جدا نظرا للأحداث الكبرى التي كانت تتشكل في العالم. حافظ جلالة السلطان المعظم على نظرية الحياد الإيجابي الذي تتبناه سلطنة عمان في سياستها الخارجية، وأضاف جلالته، أعزه الله، رؤيته الخاصة التي تعزز من دور عُمان كوسيط موثوق ومؤثر في الإقليم. ورغم الأحداث الكبرى والفاصلة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأربع الماضية إلا أن عُمان لم تفرط في مبادئها السياسية التي الراسخة بل زاد تمسكها بها ونستطيع فهم ذلك من خلال قراءة مواقفها من الحرب الظالمة على قطاع غزة. أكسب عاهل البلاد المفدى السياسة الخارجية العمانية زخما جديدا يجمع بين الحوار والسعي لتحقيق السلام في منطقة تعصف بها التوترات ولكن دون تفريط في المبادئ والقيم. لقد أعطى جلالة السلطان المعظم خلال أحداث كبيرة محيطة بعمان درسا مهما في الحفاظ على استقلال القرار السياسي وعدم التأثر بالأحداث ولكن، أيضا، دون تفريط في العلاقات الطيبة مع دول العالم.
المشهد جميل لكن التحديات موجودة
يبدو المشهد مشرقا جدا، وهو كذلك لكن التحديات لم تختفِ على الإطلاق والعالم ما زال يعيش لحظات من غياب اليقين في قضايا كثيرة.. ما زال الاقتصاد العالمي متذبذب، وما زالت التغيرات المناخية تفاجئنا بحجمها وعُمان من بين الدولة المتأثرة بهذا التغيير بشكل كبير، وما زالت أزمات المنطقة مشتعلة ومعقدة جدا وعصية على الحل.
لم يكن العالم في يوم من الأيام خاليا من التعقيدات ومن الأزمات والتخطيط الجيد والثقة من شأنها أن تفتح آفاقا لمسارات المستقبل، وهي مسارات ممكنة جدا عندما تتوفر الإرادة والعزيمة والعمل الجماعي.
هكذا بدا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم فيما نعتبرها سنوات التأسيس لعده الميمون قائد حمل قضايا وطنه على عاتقه وعاهد شعبه منذ اليوم الأول من يبقى مخلصا لقضاياه. لقد مزج بين عراقة الماضي التي تتمته به سلطنة عمان ورؤيته للمستقبل مستندا إلى إرادة صلبة وإيمان عميق بوطنه. ومرة أخرى لم تكن رؤيته مخطط اقتصادي بل حلم جماعي يسعى إلى تحقيق نهضة شاملة ومستدامة، يشارك فيها كل مواطن من أجل عُمان التي نحلم بها جميعا.
إنه "البطل" الذي تحدث عنه كارليل، قائد صادق مع نفسه ومع الآخرين، وقادر على مواجهة الحقائق ولديه عمق في فهم العالم وقدرة على رؤية الحقيقة ويملك القوة على اتخاذ القرارات المصيرية ومستعد للوقوف مع الحق مهما كانت التحديات.
* عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان