طبيعة الحرب الدائرة في السودان
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
د. الشفيع خضر سعيد
في مقالنا السابق، أشرنا إلى سببين رئيسيين وراء إستطالة أمد الحرب المدمرة في السودان، الأول هو توهم كل طرف بأنه سيحسمها بالضربة القاضية، في حين هذا غير وارد حتى الآن على الأقل، والثاني هو غياب الرؤية الواضحة حول كيفية إيقافها عبر التفاوض. وذهبنا أبعد من ذلك عندما قلنا بينما نجح منبر جدة في جمع الطرفين المتقاتلين للحوار والتفاوض إلا أنه لم يضع على مائدة التفاوض رؤية محددة لكيفية الوقف الدائم لإطلاق النار ووقف الحرب، واقتصر نشاطه على الهدن المؤقتة للسماح بمرور المساعدات الإنسانية، وحتى هذه لم يكتب لها النجاح.
أما الاتحاد الأفريقي ومجموعة الإيقاد، فأشرنا إلى أنهما توقفا عند المسائل الإجرائية والتنظيمية إضافة إلى خارطة الطريق التي اقتصرت على عناوين عامة وتأكيدات وتشديدات وتمنيات…الخ، دون أن يتقدما بأي رؤية حول كيفية وقف الحرب. وحتى يكون لإشاراتنا الناقدة هذه معنى ومعقولية، ضربنا مثلا ملموسا من الماضي القريب، قلنا فيه أن مبادرة الإيقاد لم تنجح في إيقاف الحرب الأهلية في جنوب السودان إلا بعد أن انتظمت المفاوضات بين الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل دكتور قرنق وحكومة الإنقاذ على أساس الرؤية التي وفرها إعلان المبادئ الصادر من مجموعة دول الإيقاد بتاريخ 20 مايو/أيار 1994. ونوهنا إلى أن تلك الرؤية المضمنة في إعلان المبادئ، والتي صاغتها دول الإيقاد وقدمتها جاهزة إلى الطرفين ليوقعا عليها، لم تكن من وحي بنات أفكار علماء السياسة الدوليين والإقليميين بقدر ما كانت إعادة صياغة وترتيب وضبط وتدقيق للأطروحات المتناثرة في أدبيات الحركة السياسية السودانية حول الأزمة في جنوب البلاد، وخاصة أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان.
ومنطلقا من قناعتي الراسخة بأن القوى المدنية والسياسية السودانية هي الأكثر تأهيلا لاجتراح الرؤية والمبادئ الموجهة لأي عملية تفاوضية لوقف الحرب، ووضع أسس عدم تجددها أو إعادة إنتاج الأزمة، وأن التوافق على هذه الرؤية الواضحة لإيقاف الحرب هي الأساس لانتظام هذه القوى في منبر يوحد أو ينسق نشاطها وخطابها، جاءت مناشدتي لمجموعات القوى المدنية والسياسية السودانية بأن تنتظم في حلقات نقاش بهدف التوافق حول الرؤية المشار إليها، وذلك من خلال طرح العديد من الأسئلة المتعلقة بكيفية وقف الحرب وما هي تداعيات ما بعدها، والتفاكر حول الإجابات المحتملة لهذه الأسئلة، آخذين في الاعتبار أن هذه الأسئلة ليست مجرد تهويمات نظرية بقدر ما هي نابعة من واقع البلاد المأزوم.
ولعل السؤال الأول، والذي تلعب الإجابة عليه دورا هاما ضمن آليات وقف الحرب، يتعلق بطبيعة هذه الحرب ومسبباتها الحقيقية. ومن جانبنا، نقول، إن السبب الحقيقي وراء إندلاع هذا الدمار لا يمكن اختزاله في الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج القوات الثانية في الأولى.
السبب الحقيقي وراء إندلاع هذا الدمار لا يمكن اختزاله في الخلاف بين قيادتي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع حول الترتيبات العسكرية ومواقيت دمج القوات الثانية في الأولى
فالقيادتان رضعتا من ذات الثدي، وصنعا معا تاريخا مشتركا في دارفور وفي حرب اليمن، وكذلك أثناء ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 وما صاحبها من أحداث جسام بدءا بما جرى في 11 و13 أبريل/نيسان 2019 ومرورا بمذبحة فض اعتصام ميدان القيادة العامة في 3 يونيو/حزيران 2019 وإنقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كما يتشاركان ذات العلاقة الخاصة مع حلفاء خارجيين، في الجزيرة العربية وفي شرق البحر الأبيض المتوسط. هذه السمات المشتركة، وغيرها كثر، كان من الممكن أن تجعل من الخلاف حول الترتيبات العسكرية أمرا يمكن معالجته بكل بسهولة، خاصة أن مسألة دمج القوات أصلا ليست بذلك التعقيد العصي على الحل.
وعلى عكس ما يروج له البعض من أحاديث مفخخة، فإن الحرب لم تندلع بسبب الخلافات حول الإتفاق الإطاري، وإنما إشتعلت لتحرقه ومعه مجمل العملية السياسية بصيغتها قبل الحرب، بل ولتصيب حراك الشارع بالشلل، تمهيدا لحرق ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وعودة تحالف الفساد والاستبداد إلى سدة الحكم، إما عبر عصابات الموت وكتم أنفاس الشعب، أو عبر عملية سياسية جديدة وفق صيغة «لا تستثني أحدا» في إشارة إلى حزب النظام البائد. أنظر إلى اقتحام السجون وإطلاق سراح أركان النظام المباد والمحكومين في قضايا قتل شباب الثورة وتعذيب السودانيين حتى الموت.
وأنظر إلى من يؤججون النيران ويرفضون الهدنة ووقف إطلاق النار ويرفضون أي وساطة بين الطرفين، ويوصمون القوى السياسية المدنية بالخيانة ويطالبون بإعدامها!!
منذ فجر استقلاله والسودان يعاني أزمة وطنية عامة، عميقة وشاملة، طبعت بميسمها كل أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية في البلاد.
وتعود جذور أسباب هذه الأزمة إلى قصور رؤى النخب السودانية وفشلها في إنجاز المهام التأسيسية لبناء دولة ما بعد الاستقلال الوطنية، فظلت هذه المهام مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت علي الحكم منذ الاستقلال، والتي لم تركز إلا على كيفية بقائها واستمرارها في السلطة.
وظلت هذه الأزمة تتجلى وتعبر عن نفسها بحالة الاضطراب وعدم الاستقرار في البلد، تعاقب الانقلابات العسكرية والانتفاضات الشعبية، النزاعات العرقية والحروب الأهلية وانفصال جنوب السودان، ثم جاءت هذه الحرب الأخيرة كشكل تجل آخر لهذه الأزمة الممسكة بتلابيب الوطن، ولكن وفق خصائص نوعية عنوانها تدمير البلاد وحرقها وربما تقسيمها. أما تلك المهام التأسيسية فتتضمن التوافق على نظام الحكم الذي يحقق المشاركة العادلة في السلطة بين مختلف الأعراق والإثنيات والمجموعات القومية والجهوية المكونة للكيان السوداني، ويحقق ممارسة سياسية صحية تستند على صيغة سودانية للديمقراطية التعددية توائم بين قيم الديمقراطية المطلقة والسمات الخاصة ببلادنا، وترتبط بتوفير لقمة العيش، والتوافق على كيفية التوزيع العادل للموارد والثروة بين ذات المكونات بما يحقق رفع معاناة المعيشة عن كاهل المواطن ورفع الإجحاف والإهمال عن الأطراف، والتوافق حول قضايا الهوية وعلاقة الدين بالدولة.
نقلا عن القدس العربي
الوسومد. الشفيع خضر سعيدالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: محاكمة حميدتي بين قانونين
بدأت محكمة الإرهاب في مدينة بورتسودان، الأحد محاكمة قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان “دقلو” وشقيقه عبد الرحيم دقلو وآخرين، غيابيًا بتهمة التورط في اغتيال والي غرب دارفور. وطالبت النيابة العامة، في وقت سابق، وقبل تسليم الدعوى إلى المحكمة، حميدتي وشقيقيه ونائب الوالي تجاني الطاهر كرشوم وآخرين، بالمثول أمامها حيث أعلنتهم متهمين هاربين. وقرر قاضي محكمة الإرهاب المأمون الخواض، استمرار جلسات المحاكمة، لسماع المتحري والمبلّغ على أن يمثل الشهود للإدلاء بشهادتهم في الجلسات القادمة.
في هذه الجلسات، قدّم النائب العام الفاتح طيفور خطبة الادعاء في أولى جلسات المحكمة، مشيرًا إلى أن القضية تشمل كافة البُنى التي بُنيت عليها الدعوى. وقال طيفور الذي بدأ عليه التأثر، إن القضية تكشف وقائع خيانة من قوات كان من المفترض أن تحمي البلاد. بدأ ذلك الهجوم الشرس على مطار مروي شمالي السودان، تلاه الهجوم على مقر رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
اغتيل والي غرب دارفور خميس أبكر في 14 يونيو 2023، بعد وقت وجيز من اعتقاله بواسطة مليشيا الدعم السريع التي اقتادته إلى مقرها بحضور قائدها في الولاية عبد الرحمن جمعة بارك الله، قبل أن تظهر مقاطع فيديو توثق مقتل الوالي والتمثيل بجثته. وقبلها، كانت قناة “الحدث” قد وثقت اقتحام مقر إقامته، وأفاد النائب العام بأن الدعم السريع اعتقلت الوالي المقتول وحرسه، بمشاركة جمعة بارك الله وتجاني كرشوم، واقتادته إلى مقرها ثم تمت تصفيته وسحل جثته.
وتتضمن القضية، التي تشمل 16 شخصًا، اتهامات بالتورط في اغتيال خميس ومخالفة 12 مادة من القانون الجنائي، منها المادة 186 الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى مخالفات لقانون مكافحة الإرهاب. كما تم تسمية قائد الدعم السريع متهمًا أول، وشقيقه عبد الرحيم متهمًا ثانيًا، بينما تم تسمية شقيق آخر يُدعى القوني، الذي يشغل منصب مسؤول المشتريات في الدعم السريع، متهمًا ثالثًا.
ومن بين المتهمين كذلك عبد الرحمن جمعة بارك الله والطاهر كرشوم الذي كان نائبًا لخميس أبكر، وبعد اغتياله انفرد بحكم الولاية التي سرعان ما سيطرت عليها المليشيا ، وعيّنت كرشوم رئيسًا للإدارة المدنية، حيث لا يزال يشغل المنصب. وتصل العقوبة في حال الإدانة إلى الإعدام.
إن محاكمة هذه الأسماء البارزة تمثل اختبارًا حاسمًا للعدالة السودانية ومدى قدرتها على مواجهة هذه الجرائم. ولكن يبقى التساؤل قائماً: هل ستكون هذه المحاكمة بداية لفتح ملفات أخرى شائكة مثل الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع بحق المدنيين في السريحة والهلالية وود النورة وغيرها، أم ستكون مجرد حلقة إضافية في مسلسل الإفلات من العقاب؟
وبحسب مواثيق القانون الدولي، اتفاقيات جنيف لعام 1949، فإن الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين تُعد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تستوجب المساءلة الجنائية الفردية، بما في ذلك بحق قادة المليشيا المسلحة.
بالرغم من هذه الإجراءات يظل هناك سؤال محوريا لماذا لا يُحاكم حميدتي وشقيقه وفقًا لقانون القوات المسلحة السودانية بدلا عن القانون الجنائي ؟ في جوهر الأمر، ما قام به محمد حمدان دقلو وقوات الدعم السريع بقيادته، هو انقلاب عسكري صريح على الدولة ومؤسساتها الدستورية، ومحاولة للاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة، وهو فعل ينطبق تمامًا على توصيف “الخيانة العظمى” والتمرد المسلّح” في قانون القوات المسلحة السودانية.
لكن عدم محاكمته حتى الآن بموجب هذا القانون يرتبط ربما بعدة عوامل متداخلة: أولاها أن الصفة القانونية لهذه القوات : رغم تبعيتها الشكلية للجيش بموجب قانون الدعم السريع لعام 2017، إلا أنها تمتعت بهامش استقلال تنظيمي وعملياتي، ما أدى إلى تضارب قانوني بشأن مرجعيتها الفعلية، وهو ما تستغله بعض الجهات لتبرير عدم إخضاع قادتها لقانون القوات المسلحة.
كذلك الفراغ الدستوري والمؤسسي: منذ التغير في 2019 وما تلاه من اضطرابات، دخل السودان في حالة سيولة قانونية ودستورية، جعلت من الصعب تفعيل مواد محاسبة الانقلابين التقليدية، خاصة مع غياب برلمان شرعي ومحكمة دستورية عليا فاعلة.
كذاك الحسابات السياسية الإقليمية والدولية: البعض يرى أن هناك تردّدًا دوليًا في تصنيف ما جرى كانقلاب رسمي، رغم وضوح الوقائع، وذلك لتجنّب تصعيد سياسي أو فتح جبهات قانونية. لذلك محاولة احتواء الجريمة ضمن الإطار الجنائي المدني: خطوة مهمة لكنها قد تُبقي الجريمة في حيز “الانتهاكات”، لا في حيز “الخيانة العسكرية والانقلاب” .
إن محاكمة حميدتي بقانون القوات المسلحة لا تعني فقط تصنيف أفعاله كخيانة عظمى، بل تعني أيضًا الاعتراف رسميًا بأن ما حدث كان انقلابًا مسلحًا مكتمل الأركان، ما يستدعي موقفًا سياسيًا وقانونيًا حاسمًا من الدولة السودانية.
اليوم، يقف السودان على أعتاب مفترق مهم: إما أن تُسهم هذه المحاكمة في استعادة الثقة في مؤسساته العدلية، أو أن تتحول إلى حلقة جديدة في مسلسل الإفلات من العقاب. ولئن كان النائب العام قد تعهّد بأن “سيف العدالة سيطال كل هارب”، فإن الشعب السوداني، وخصوصًا أهل دارفور، لا ينتظرون مجرد وعود، بل تطبيقًا صارمًا للقانون، واعترافًا صريحًا بالحقوق.
إن الصمت الدولي حيال هذه الجريمة لن يكون إلا ترخيصًا مستترًا بمزيد من القتل والانتهاكات، في بلد أنهكته الحرب، وتحتاج مؤسساته المدنية والعدلية إلى الدعم ، وبناء مستقبل مختلف، تُصان فيه كرامة الإنسان، ويُحتكم فيه للقانون . وكما قال الفيلسوف بليز باسكال: “العدالة دون قوة عاجزة، والقوة دون عدالة طغيان”.
هذا وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة إذا كانت المواثيق الدولية قد رسّخت الحق في المحاسبة كضمان أساسي لعدم تكرار الجرائم، فإن الواقع الميداني في السودان يشير إلى قيام العدالة وسط سطوة القوة الغاشمة المطلوبة لأنصاف الضحايا. وما بين هذا القيام المنصف وذاك الطغيان، يبقى مستقبل السودان مرهونًا بإرادة حقيقية تضع الإنسان أولًا، وتعيد بناء الدولة على أسس من القانون والعدالة والكرامة.. لأجل استدامة السلام وترسيخ مبدأ العدالة.
دمتم بخير وعافية.
إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 23 أبريل 2025 م