30 عاما في صحبة نجيب محفوظ.. كيف حوّل أديب نوبل حياة «الدكتور محمود»؟
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
لم يكن هناك شيء يشغل باله في طفولته وشبابه أكثر من الحياة ما بعد سن الستين، الطفل الذي أحب الدنيا من والديه وأجداده، ظل مهمومًا بحياته بعد التقاعد حتى أنه استعد لها جيدا- دون تخطيط أو قصد- منذ أن كان في التاسعة عشر من عمره، حين كافئه القدر بلقاء الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ، تلك الصدفة العابرة شكلّت ملامح حياته بأكملها وظل شغوفًا بالقراءة والأدب.
في أحد صباحات الجمعة الهادئة وتحديدا عام 1976، التقى المراهق محمود الشنواني البالغ من العمر تسعة عشر عاما- حينها- بالأديب الراحل نجيب محفوظ، على أحد الأرصفة القريبة من قهوة «ريش» التاريخية في وسط القاهرة، ذلك المكان المفضل للأديب وأصدقائه للنقاشات الثقافية والحياتية.
لم يتوقع المراهق الجامعي، حينها، بساطة التعامل ورقي الأسلوب حين بادر بالتعرف على الأديب ومصافحته، «أنا كنت من هواة القراءة للأديب الكبير ولما عرفت إنه بيقعد على قهوة ريش روحتله مخصوص وكان نفسي أقابله»، حتى شاء القدر أن يلتقي «الشنواني» بـ«محفوظ» صدفة وبادر الأول بالتعرف على الثاني، «لما روحت أعرفه بنفسي إني واحد من جمهوره مصدقتش بساطته في التعامل» حسب وصفه.
لقاء قهوة ريشاللقاء القدري الذي جرى على رصيف قهوة ريش امتدت أواصره ثلاثين عامًا بين «الشنواني» والأديب، حيث بادر الأخير بدعوة الأول للحضور والمشاركة في لقاء الجمعة الأسبوي الذي يحرص عليه وسط المثقفين من أصدقاءه، «من وقتها وأنا حريص على القعدة مع الأديب وأصدقاءه في قهوة ريش كل يوم جمعة»، يقول الطبيب الستيني مستكملًا حديثه.
الانبهار بمجتمع المثقفين وصحبة «عميد الرواية العربية» بدا جليًا على ملامح المراهق الجامعي حينها، كان أصغر الحضور سنًا وأكثرهم شغفًا بالأدب والروايات، لكن سرعان ما اندمج بينهم وتطبع بخصالهم واستفاد من علمهم، «مكانتش قعدة ثقافة فقط لكن صداقة كمان و بنتكلم في الأحوال العامة» حتى بعد تخرجه في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1981 وممارسته لمهنة الطب لم ينقطع «الشنواني» عن اللقاء الأسبوعي.
عام من بعده عام، لم تنل مشاغل مهنة الطب من شغف «الشنواني» بالأدب والثقافة، ارتبط ارتباطا وثيقًا بالأديب و«شلته» واستمرت الصداقة بينه وبين «محفوظ» ثلاثين عاما، حتى نال المرض ومنه ورحل: «في آواخر أيامه مكنش بيقدر يحضر قعدة القهوة كنا أوقات نزوره في بيته» مرات معدودة فقط هي التي وطأت أقدام «الشنواني» منزل الأديب وكعادته لم يجد منه إلا احتراما وتقديرا، حسب وصفه.
رحيل نجيب محفوظرحل محفوظ في عام 2006 ورحلت معه ذكريات المراهقة والشباب لطبيب الأطفال الذي كان في الأربعينات من عمره حينها، تلك العلاقة التي خطت ملامح تفكيره نقلها للجميع في كتاب أسماه «ثلاثين عاما في صحبة نجيب محفوظ»، وصف بين صفحاته ملامح شخصية الأديب الراحل وعلاقته به التي بدأت صدفة وتواضعه ورقي أخلاقه: «كان مثال للشخص المثقف الناضح المتواضع مع الجميع و رحيله أثر فيا لإنه كان جزء كبير من شخصيتي اللي أنا عليها دلوقتي»، حسبما جاء على لسان «الشنواني».
مرت سنين العمر سريعا، وتجاوز طبيب الأطفال الستين من عمره، وعاد التساؤل القديم الذي أستحوذ على تفكيره إلى ذهنه، كيف يقضي الأشخاص حياتهم بعد سن التقاعد، كيف لشخص كان يملأ الدنيا ضجيجا بشغفه أن تتحول حياته في ليلة واحدة إلى السكون والرتابة دون أن يستيقظ صباحا لينخرط في عمله الذي يحبه؟
الحياة ما بعد الستينهكذا كان يناجي الطبيب الستيني نفسه دوما منذ طفولته وحين تجاوز الستين من عمره، قرر أن ينقل تجربته كلها في كتابه الصادر هذا العام «الحياة ما بعد الستين»: «مفيش شك إن وجود شاب في السن ده في صحبة نجيب محفوظ والمثقفين أثر عليا وشكل حصيلة ثقافية عندي»، فانطلق في كتابة صفحات الكتاب الذي قدم فيه وصف وتحليل لنفس الإنسان في تلك المرحلة العمرية دون إلقاء مواعظ ونصائح محددة، أملا في أن تكون كتابته عاملا مساعدًا لبعض الأشخاص، حسب قوله.
كيف لمراهق انخرط في مجتمع المثقفين مبكرا لا يحب الكتابة والروايات؟ فكتابه الأول الصادر عن صحبة نجيب محفوظ وكتابه الأخير «الحياة ما بعد الستين» توسطهما كتاب في أدب الرحلات باسم «أهلا بكين» نقل فيه تجربته في الحياة في الصين باختلافها عن مصر ونظرتهم للمستقبل والمفارقة بينهما، إلى جانب إصداره مجموعة قصصية باسم «حلوان- المرج» تدور أحداثها في المترو كدلالة رمزية على رحلة الحياة، هحسب وصفه.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: نجيب محفوظ الاديب نجيب محفوظ سن الستين رواية الحیاة ما بعد من عمره
إقرأ أيضاً:
مَرسُول العِلم ، الصديق الدكتور محمد هاشم محمود
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: د. أمجد إبراهيم سلمان
في منتصف أغسطس من العام 2014 أرسل في طلبي الدكتور و الإداري الذي لا يشق له غبار د. أحمد عبدالكريم -إبن مصر المؤمنة - ومدير مركز أبوبكر الصديق الصحي آنذاك في مكتبه ، المركز كائن في منطقة نهاية شارع الفروسية في منطقة المناصير و هي منطقة ذات كثافة سكانية عالية ، و في ذلك الوقت كان المركز يقدم خدمات لأكثر من 100 ألف مريض يقوم بخدمتهم حوالي 41 طبيب و عدد كبير من الكوادر الصحية ، مثل الممرضين و تقنيي المختبرات الطبية و فنيي الأشعة و الصيادلة ، كنت حينها حديث عهد بقطر و لم يمضي لي سوى 4 أشهر و نصف منذ أن تسلمت عملي كطبيب أسرة قادماً من القارة الأوربية العجوز التي أمضيت فيها حوالي 24 عاما و نيف ، إعتراني إحساس عارم بالفضول و أنا أخفّ خطواتي إلى مكاتب الإدارة ، بعد السلام دلف الدكتور أحمد مباشرة في صلب الموضوع قائلاً:
يا دكتور أمجد لدينا مشروع طموح من قبل الإدارة لتجويد الأداء في الرعاية المنزلية في المؤسسة و قد رشحتك لهذا البرنامج أنا أعلم أنك قدمت حديثاً إلى قطر ، لكن بما أنك تدربت في الغرب لذا فمسألة زيارة المرضى خاصة كبار السن كانت جزء أساسياً من عملك هناك أليس كذلك؟
أومأت إيجاباً ، فأردف قائلاً
كما تعلم فإن مركزنا يغطي منطقة واسعة وفيه عدد كبير من المرضى ، لذا وقع الاختيار عليه كي يكون نموذجاً تجريبياً لبداية هذا البرنامج تمهيداً لتطبيقه في كل المراكز بعد وضع الضوابط العلمية لذلك ، لكنني وددت أن أنبهك أنها مسئولية كبيرة فنحن مطالبون بتحقيق نتائج ملموسة خلال 3- 4 أشهر ، و يجب علينا تجميع حالات كثيرة من المرضى كي نخرج من تجاربها بتوصيات عملية ، و أردف قائلاً كما تعلم فإننا في حالة نقص كبير في الأطباء لذا أتمنى أن تتطوع في هذا العمل من وقتك الخاص إذا أمكن و من ناحيتي سأحاول قدر الإمك ان أن أمنحك بعض أيام التفرغ إذا كانت حالة المركز تسمح بذلك.
كما أسلفت فإن للدكتور أحمد عبد الكريم حضوراً طاغياً و قدرة غير مسبوقة على الإقناع ، و من ناحية أخرى كنت أرغب بصدق في أن أقوم بعمل إيجابي في مكان عمل جديد بالنسبة لي فوافقت دون تردد ، فانفرجت أساريره و أردف قائلاً اطمئن ستكون في مساعدتك فريق ممتاز من التمريض و أخصائي اجتماعي و سائق متمرس ، و علشان تنبسط حيكون معاك أخصائي طب أسرة ممتاز من السودان أكمل برنامج طب الأسرة في قطر لذا فهو مطلع على ثقافة البلد و سيكون هو و بصحبته طبيب آخر إسمه بلال خان من بريطانيا المستشارين الطبيين الذين سيدعمانك اكلينيكياً في تقييم المرضي و ستقوم بمناقشة الخطة العلاجية معهما بصحبة الفريق المصاحب و مديرة هذه المرحلة من البرنامج ستكون السيدة ميريل وهي منوط بها قيادة هذا البرنامج في رئاسة المؤسسة.
خلال الأربعة أشهر التي تلت ذلك اللقاء خضت فترة من أصعب فترات العمل في قطر فقد كنا كفريق نقوم بحوالي 4 إلى 8 زيارات أسبوعياً للمرضى الذين كانوا كلهم من كبار السن حيث كان البرنامج معني بمن تجاوز عمرهم الستين عاما ، وكنا مع الفريق المصاحب نقوم بعملية تقييم كاملة لهم و نجري فحوصات دم و بول شاملة مع القياسات الحيوية من ضغط و فحوصات سريرية دقيقة ، و نتعرف على العوائق الصحية التي تواجههم كما كانت الاخصائية الاجتماعية تقوم بالتقييم الاجتماعي و تقدم النصائح الخاصة بموائمة المكان لحركة المريض كبير السن ، مثل حجم الباب الذي يسمح بمرور الكرسي المتحرك ، ووجود مقابض حائطية بجانب السلالم كي يتحرك المريض بسلام ، كما كنا نناقش المعينات اللازمة للمرضى مثل الكراسي المتحركة و حتى الأسرة الطبية التي تقدم للمريض من مستشفى حمد في الحالات التي تستدعي ذلك ، و على الرغم من الوقت الضيق جداً و محدودية البدايات إلا أننا تمكننا من عمل 75 زيارة في تلك الفترة القصيرة ، و أسهم ذلك المشروع التجريبي و نتائجه الإيجابية في بسط و تنفيذ الفكرة في كل المراكز الصحية في قطر.
في تلك الظروف التي كانت تضج بالعمل والتقاريرالمتتالية تعرفت على الدكتور محمد هاشم محمود حيث كان قد أكمل تخصص طب الأسرة في مؤسسة حمد الطبية والذي يستمر لمدة أربعة سنوات و تم تعيينه كمدرب في برنامج طب الأسرة بمركز الخليج الغربي التعليمي لما لمسته الإدارة فيه من شغف بالعلم و انضباط عال في الأداء و التجويد المهني. و قد استمر تعاوننا في نفس البرنامج لعدة سنوات و لكن لحسن الحظ ليس بنفس كثافة تلك الأشهر الأولى.
علمت لاحقاً أن الدكتور محمد تخرج من جامعة بحر الغزال في العام 2005 تقريباً و لأن والده و أسرته يقيمون في الدوحة فقد قدم لها لعمل فترة الإمتياز و الذي أكمله بنجاح و بعد امتحانات المنافسة المحتدمة نجح في الحصول على المعدل اللازم كي يتم قبوله في برنامج تدريب أطباء الأسرة ، و من نافلة القول ذكر أن والده الذي رحل عن عالمنا في العام 2016 كان خبيراً في نظم الجودة ، وقد تخرج من جامعة الخرطوم قسم الكيمياء كلية العلوم في العام 1970 و أكمل درجة الماجستير في علوم الجودة و المقاييس من جامعة مانشستر ببريطانيا و عمل في هيئة المواصفات و المقاييس السوداني و تدرج فيها حتى تقلد منصب المدير العام للهيئة في السودان في الثمانينيات إلى أن تم نقله إلى قسم آخر في العام 1991 لتعيين أحد أهل الحظوة مكانه ، مع أن الراحل لم يكن ناشطاً سياسياً لكنه كان إداريا مقتدراً و صارماً ، و لمهنيته العالية عُهِد إليه انشاء إدارة نظم المعلومات بوزارة الصناعة القومية للإستفادة من خبراته الكبيرة و شاءت الصدف أن انتقل الي الدوحة للعمل كخبير نُظم جودة وللمساهمة في تأسيس هيئة المواصفات القطرية التي تطورت من مكتب بسيط إلى هيئة كاملة خلال سنوات ، و قد أمضى الراحل المقيم في عمله هذا كخبير لمدة 13 عاماً حسوماً عمل فيها بجد و التزام و لكن إصابته المبكرة نسبياً بمرض الشلل الارتعاشي عجل بنزوله إلى المعاش. لكنه أورث إبنه محمد تلك الخصال الحميدة و كما يقول أهلنا في السودان " الفي أبوك بقالدك" ، و تعني أن خصال والدك تنعكس فيك.
في يناير من العام 2019 أخطرني د. محمد بأن أرافقه في السفر إلى مؤتمر طب الأسرة في جامعة هارفارد العريقة في مارس من ذلك العام ، و أطنب في ذكر مناقب ذلك المجمع العلمي لوجود أميز الأطباء الأمريكيين العاملين في تلك الجامعة العريقة ، و بعد أن تحصلنا على الموافقات اللازمة من مؤسستنا الغرّاء ، قمنا بطلب التأشيرات مدعومين بوثائق التسجيل لذلك المؤتمر ، و قد كان أن وصلنا في مارس من ذلك العام بصحبة كوكبة من الأطباء القطريين المميزين و منهم د. هاشم السيد ، د. علي البدر ، د. عبد الله النعمة و د. أحمد باوزير ، و قد كان ذلك المؤتمر فعلاً سياحة معرفية مكتملة الأركان ، تميز بمحاضرات بديعة في الأداء عميقة في المحتوى العلمي مستشرفة لكل ما هو قادم من التطورات العلمية المتوقعة. أدهشتني جداً معرفة د. محمد هاشم بشوارع مدينة بوسطن و معالمها السياحية ذاكراً تفاصيل الكثير من الأحياء و كأنه من سكانها ، و ذكرني ذلك بلقاء قديم بإبن أمدرمان الموهوب الباشمهندس عُبادة معاذ السرّاج و الذي قابلته في لندن في صيف 1992 إبان عطلة أثناء دراستي الجامعية ، وقد كان يتمشى في شوارعها ذاكراً تفاصيل تاريخية عميقة عن المدينة أذكر منها ميدان (ترافالجار سكوير) حيث قال لي تخيل أن هذا الإسم مشتق من اللغة العربية و أصله ميدان الطرف الأغر.. و كان د. محمد كصنوه الباشمهندس عُبادة محباً جداً للمشي على الأقدام و لمسافات طويلة و أذكر أنه شجعني للعودة راجلاً من منطقة كامبريدج الجامعية إلى وسط مدينة بوسطن حيث مكان المؤتمر لمسافة حوالي 7 كيلومترات تجاذبنا فيها أطراف الحديث عن شغفه بالمدينة و جامعتها المتميزة عالمياً و التي حصل منها على شهادة في طرائق البحث العلمي تحت اشراف البروفيسور فيليبي فريغني و هو استشاري مرموق في طب الأعصاب و الطب التأهيلي و له اهتمام خاص بالصحة العامة التي تحصل فيها أيضا على درجة الدكتوراة و هي الثانية له بعد الدكتوراة الأولى في أبحاث المخ و الأعصاب و كلاهما أعقبا 4 درجات الماجستير في ضروب مختلفة من العلوم الطبية و كل ذلك قبل بلوغه الأربعين من العمر (ما شاء الله) ، الجدير بالذكر أن البروفيسور فيليبي يحمل الجنسية الأمريكية و البرازيلية و ينحدر من أصول إيطالية و هو رجل ذو كاريزما عالية و يتميز بأريحية العلماء و تواضع العارفين و قد حظيت بلقائه بصحبة الدكتور محمد أكثر من مرة آخرها يوم الأربعاء الماضي الموافق 29 يناير 2025.
خلال الفترة التي تلت المؤتمر الأول في العام 2019 زرت مع الدكتور محمد مدينة بوسطن مرتين لحضور مؤتمرات مختلفة ، كما حضرنا مؤتمراً في نفس المدينة على البعد لطب الأسرة في مارس من العام 2021 و ذلك بسبب جائحة الكورونا التي عطلت السفر لطلب العلم لكنها من ناحية أخرى أحدثت ثورة في التعليم عن بُعد نقطف ثمارها إلى الآن فالعطايا في طي المنايا، بعد ذلك تمكننا من حضور مؤتمر الباطنية للإخصائيين الذي تنظمه جامعة هارفارد في شهر يناير من كل عام ، وقد سافرنا إلى هناك في العام 2024 ، و الآن أكتب هذه السطور و أنا عائد إلى الدوحة بعد أن حضرنا مؤتمر هذا العام في نهاية يناير 2025 والذي كان كنزاً معرفياً بكل معنى الكلمة.
بيد أن ما دفعني لتوثيق هذه التجربة مع الدكتور محمد هاشم ، هو الكثير من الجهد و البذل و الشغف العلمي الذين يتمتع بهم صديقنا الحبيب ، فهو بجانب شخصيته المنضبطة و أخلاقه الدمثة يتمتع بروح دعابة و سخرية عاليتين و تواضع جم لا يمكنك إلا أن تحبّه ، لأنه كما يقول بروفيسور أحمد أبو شوك نقلاً عن نبينا الكريم في وصف أمثاله ، أنه من موطئي الأكناف يألفون و يؤلفون ، و من مزاياه المتعددة استعداده الدائم للعطاء العلمي دون توقع أي مردود عن ذلك ، لذا سعى لأن يجلب برنامج كورس مبادئ ممارسات البحث العلمي إلى قطر بمساعدة زملاء آخرون ، و قد أجتهد عبر علاقاته الطيبة في الجامعة المرموقة أن يشجع الكثير من الأطباء على التقديم للكورس عن بعد ، و قد كلفه ذلك عناءً كثيراً فلفرق التوقيت بين بوسطن و الدوحة كانت محاضرات ذلك الكورس عبر الزووم تعقد ما بين الساعة الحادية عشرة ليلا يوم الخميس و الساعة الثانية صباحاً من يوم الجمعة ، و قد واظب الدكتور محمد على ذلك العمل الدؤوب لمدة أربعة سنوات ، و عاونه في ذلك لاحقاً عدد من الأطباء الذين تخرجوا من البرنامج ، هذا بجانب عمله الإضافي في قسم التدريب والتطوير في مؤسسة الرعاية الصحية الأولية الأمر الذي يجعله يفرغ ما بين 3-4 ساعات في أيام عطلة نهاية الأسبوع كي يساهم في ورش التدريب المتعددة التي تنظمها مؤسستنا لكوادرها الطبية و الصحية.
رغماً عن برنامج عمله المكثّف فلم يرد الدكتور محمد لزملائه الأطباء و لرابطتنا طلباً ، فقد ساهم معنا خلف الكواليس في إنجاح ورشة استدامة النظم الصحية في مركز الجامعة الصحي في نوفمبر من العام 2019 التي نظمناها عبر رابطة الأطباء السودانيين في قطر دورة 2019 و 2021 ، كما أسهم مع صديقه و دفعته د. خالد محمود السكرتير الأكاديمي الحالي لرابطة الأطباء السودانيين في قطر في جعل الجهات العلمية في وزارة الصحة العامة تعتمد جلسات مؤتمر الأطباء السودانيين في نوفمبر 2024 كنقاط علمية رسمية لتجديد الترخيص المهني ، كما ساهم مع وحدة أطباء الأسرة في تقديم محاضرة بعنوان " القيام بالبحث العلمي خلال عمل العيادات اليومي" في سمبوزيوم أطباء الأسرة السودانيين في ديسمبر من العام 2023، و بجانب ذلك كله يحرص على حضور الأسبوع الختامي لكورس هارفارد في الكتابة العلمية والبحوث و الذي يقام في ولاية باهيا في البرازيل سنويا ًمع صديقه البروفيسور فيليبي ، و لقد ساهمت مجهودات طبيبنا الأريب المتواصلة في تخرج الكثير من الطلاب عبر هذا الكورس و الذي ساهم بعلاقاته في أن يُنظّم بتكاليف معقولة جداً مقارنة بالمستوى العلمي الرفيع للكورس. و لا ننسى الجهد الكبير لزملائه في مواصلة الدعم للمجموعات التي تلت و أخصّ بالذكر د. خالد محمود و د. وليد كرار و د. محمد منير و د. أسامة النور و د. أحمد الرمادي و د. أحمد الياس و القائمة تطول.
برغم تلك النجاحات العلمية الباهرة ظل الدكتور محمد خلال السنوات العشرة التي عرفته فيها ، قمّة في الذوق و الأدب و التواضع و العطاء اللامحدود و حب الخير لزملائه و لطلابه الذين كانوا يمنحونه دائماً أعلى الدرجات في تقييمات الأساتذة السنوية في مركز تدريب أطباء الأسرة في قطر ، و إحقاقاً للحق و كما يقول هو دائماً و أوافقه الرأي ، أنه شديد الإمتنان لهذه المؤسسة التي منحه إداريوها الثقة و الدعم اللازمين للمضي قدماً في التطور المهني و البحث العلمي أثمرت خلال السنوات العشرة الماضية عن حوالي 20 ورقة علمية منشورة في دوريات قيّمة حققت له نسبة عالية من الاقتباسات العلمية وصلت إلى معدل عال ، قد يعجب المرء ما الدافع من كتابتي لهذه الحروف في حق الصديق محمد و أجيب على ذلك بمقولة عميقة لفت نظري إليها إبن قرية دميرة في شمال كردفان الصديق الدكتور الصاوي يوسف عبد المنان ويقوم بها بمواظبة يحسد عليها الطبيب الحاذق و الكاتب النحرير الصديق د.عبد الرحمن حمد " إننا في السودان نتأخر كثيراً في التعبير عن تقديرنا لأحبائنا و أصدقائنا حتى يفوت الأوان" ، لذا أحاول قدر الإمكان الإشادة بالمجتهدين و الموهوبين ممن جمعتني بهم دروب الحياة و هم كُثُر ، و أمثال هؤلاء يمنحوننا الأمل أن بلادنا لا زالت بخير و أن حوائنا حبلى بكل جميل ، و كما تغنى الفنان حسن خليفة العطبراوي بكلمات الشاعر محي الدين فارس
غداً نعود حتماً نعود
للقرية الغنّاء للكوخ الموشح بالورود.
د. أمجد إبراهيم سلمان
استشاري طب الأسرة بمؤسسة الرعاية الصحية الأولية في قطر
3 فبراير 2025
ملحوظة: اقتبست عنوان المقال مرسول العلم من أغنية "مرسول الحب" وهي أغنية عاطفية للفنان المغربي القدير عبد الوهاب الدوكالي و التي تعتبر من كلاسيكيات الغناء المغربي العاطفي في السبعينيات و الثمانينيات.
amjadnl@yahoo.com