"لم أعرف شخصا يتعلم ويدرس بكل هذه الجدية مثلها، كنا نُطلق عليها مازحين المُتحمِّسة المَهووسة بسبب دأبها على مذاكرة الأشياء، فهي تُكرِّس نفسها كُلِيَّة لكل شيء تفعله وكأن كل ليلة ليلة امتحان".

 

"نيكولا بروكاتشيني"، عضو البرلمان الأوروبي عن حزب "إخوان إيطاليا" متحدثا عن جورجيا ميلوني (1).

ربما لا يذكر المتابعون العرب عن رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني شيئا مثل مقاطعها القديمة التي انتشرت كالنار في الهشيم قبل أشهر، وانتقدت خلالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وشنت هجوما حادا على سياسات باريس الاستعمارية في أفريقيا قائلة إن الأفارقة يفرون من بلادهم إلى أوروبا لأن فرنسا تنهب خيراتهم، ومؤكدة أن الحل هو تحرير البلدان الأفريقية من بعض الأوروبيين وليس نقل الأفارقة إلى أوروبا، وفتح أبواب الهجرة على مصراعيها، في تأكيد متجدد على نظرتها الخاصة للعلاقة بين أوروبا وأفريقيا وعلى توجهاتها المناهضة للهجرة في الوقت نفسه.

 

لكن سياسات ميلوني، التي توصف زعيمة اليمين المتطرف في البلاد والتي هندست جزءا لا بأس به من صعودها السياسي على وعود السيطرة على الهجرة، بدت أكثر واقعية بعد وصولها إلى السلطة في ظل تناقص أعداد الإيطاليين وارتفاع معدلات أعمارهم واحتياج البلاد إلى العمالة الشابة (2)، إلى درجة أن خصوم ميلوني الأكثر تطرفا باتوا يتهمونها بالتساهل مع المهاجرين، إذ تضاعف عدد المهاجرين غير النظاميين الذين يأتون بالقوارب من أفريقيا في عهدها، وتجاوز عدد الوافدين إلى جزيرة لامبيدوزا عدد السكان الإيطاليين في الجزيرة أنفسهم.

 

اقتربت الآن جورجيا ميلوني، البالغة من العُمر 46 عاما، من إتمام عام كامل في حُكم البلاد بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تاريخ إيطاليا، وقد بات ينظر إلى تجربتها طيلة العام الماضي باعتبارها تجربة فاصلة في تاريخ اليمين الأوروبي لما تُمثِّله من تطور جذري في رؤيته وسياساته. فعلى مدار عامها الأول، استطاعت ميلوني أن تكتسب شعبية لم يتوقعها كثيرون، كما أدهشت العديد من المتابعين داخل إيطاليا وخارجها بتصرفات غير متوقعة من زعيمة يمينية وُصِفَ فوزها بأنه ناقوس خطر للديمقراطية الأوروبية وحقوق المرأة والأقليات.

 

كارهو الأمس يؤيدونها اليوم.. خريطة الأرقام منذ يومها الأول في السلطة استطاعت ميلوني أن تُظهِر "العين الحمراء" لحلفائها "بِرلسكوني" و"ماتيو سالفيني" اللذين يختلفان معها في بعض المواقف السياسية، وتحديدا فيما يخص الحرب الروسية على أوكرانيا. (مصدر الصورة: غيتي)

حين تولَّت جورجيا ميلوني رئاسة وزراء إيطاليا يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2022، كانت أغلب التوقعات تشير إلى فشلها المُحتمَل، وإلى أن إيطاليا ستشهد استقطابا حادا في عهدها. ففي بلد شهد تغيُّر 68 حكومة منذ الحرب العالمية الثانية بمتوسط حكومة كل 11 شهرا (أكثر من ضِعف عدد الحكومات في بريطانيا وألمانيا طيلة المدة نفسها)، وفي بلد يصعب أن يلتف فيه الشارع حول شخص واحد وحيث يوجد واحد من أقل معدلات الثقة بين الشعب والأحزاب السياسية في أوروبا؛ لم يكن يتوقع المحللون أن تتمتع زعيمة اليمين المتطرف على حد وصفهم بشعبية تؤهلها لخلق استقرار واضح على الساحة السياسية. ولذا مثَّلت أرقام استطلاعات الرأي الخاصة بشعبية ميلوني على مدار العام مفاجأة مدوية بالنسبة لكثيرين (3).

 

بعد فترة قصيرة من تولي ميلوني الحكم، أصدرت شركة "مورنينغ كونسالت" بيانات مؤشرها الشهير الخاص بتتبُّع شعبية القادة في بلادهم، وأظهرت أن ميلوني أكثر قائد يتمتَّع بشعبية داخل بلاده على مستوى القارة الأوروبية كلها، إذ أشاد 49% من الإيطاليين بأدائها، وهي نسبة مثَّلت حينها أكثر من ضِعف ما تمتَّع به ماكرون في فرنسا وشولتس في ألمانيا (4). وفي يونيو/حزيران، أي بعد مرور نحو سبعة أشهر على حكمها، أظهر استطلاع للرأي أجرته القناة الإخبارية الثانية في إيطاليا (سكاي تي جي 24) أن معدلات تأييد ميلوني والرضا عن أدائها تزايد بوتيرة سريعة (5). واتفق ذلك مع إحصاءات مركز "بيو" الأميركي عن الفترة نفسها، إذ أشارت إلى أن ستة من كل عشرة إيطاليين لديهم رأي إيجابي تجاه ميلوني. بحلول هذا الوقت كانت نسبة الإيطاليين الذين ينظرون لأحزاب اليمين نظرةً إيجابية قد ارتفعت إلى 44% من المواطنين بعد أن كانت 32% فقط قبل تولي ميلوني منصبها (6).

 

في السياق ذاته، يشير استطلاع أجراه "رادار إس دبليو جي" في صيف 2023 إلى أن الأغلبية المطلقة من الإيطاليين صارت تنظر لميلوني باعتبارها زعيمة جيدة (7). وقد أظهر الاستطلاع أن ميلوني استطاعت أن تكتسب شعبية بين الأوساط التي لم تدعمها في الانتخابات، ولعل الأهم في هذا الصدد أن 62% من الناخبين الإيطاليين كانوا ينظرون إلى ميلوني قبل عام على أنها تُمثِّل اليمين المتطرف، في حين تغيَّر هذا الانطباع جذريا هذا الصيف، إذ انخفضت نسبة مَن يصنفونها على أنها يمينية متطرفة إلى نحو 15% فقط. كما أن 40% من الإيطاليين الذين لا يميلون للأحزاب اليمينية صاروا يمتلكون رأيا إيجابيا حول ميلوني، أما الأغرب فهو أن 12% من الناخبين الإيطاليين الآن يصنفون ميلوني على أنها يسارية أو تُمثِّل يسار الوسط (8) (9).

 

جدير بالذكر هنا أن أحد الأسباب الرئيسية في حصول ميلوني على هذه الشعبية الكبيرة هو قدرتها على توحيد المواطنين ذوي النزعة اليمينية وراء حكومتها. فمنذ يومها الأول في السلطة استطاعت ميلوني أن تُظهِر "العين الحمراء" لحلفائها "بِرلسكوني" و"ماتيو سالفيني" اللذين يختلفان معها في بعض المواقف السياسية، وتحديدا فيما يخص الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد بيَّنت لهما ميلوني أنها هي زعيمة اليمين الآن، وأنها لن تخضع لضغوطهم أو إملاءاتهم. لقد استطاعت ميلوني أن تضاعف شعبيتها بين أنصار اليمين على حساب برلسكوني وسالفيني، حتى بات 9 من كل 10 إيطاليين منحازين للأحزاب اليمينية يملكون رأيا إيجابيا تجاه ميلوني (10).

 

ميلوني المفاجأة.. من اليمين الشعبوي إلى الوطنية المُحافِظة أظهرت ميلوني دعما صريحا وثابتا لأوكرانيا بخلاف الكثير من نظرائها اليمينيين في العواصم الأوروبية. (مصدر الصورة: غيتي)

"المفاجأة" هي الكلمة التي استخدمتها الصحف الليبرالية الكبرى الناطقة بالإنجليزية لوصف أداء ميلوني هذا العام، إذ فاجأت الزعيمة الإيطالية العالم بنسخة يمينية مختلفة كثيرا عما اعتدنا رؤيته من اليمين طيلة العقد الأخير، وهي نسخة يرى البعض أنها لو أتمَّت نجاحها فستُمهِّد الطريق لرسوخ اليمين الجديد واستيعابه سياسيا وثقافيا في أوروبا. في الواقع لطالما اشتكت ميلوني من أن الثقافة الغربية المعاصرة مسكونة بفوبيا غير مُبرَّرة من الأحزاب اليمينية، وقد استطاعت هذا العام أن تجعل الكثير من وسائل الإعلام الليبرالية تتعامل مع تجربتها على أنها تجربة يمينية لا تخلو من الملامح الإيجابية.

 

في مُستَهِل فترتها الحكومية، تعاملت ميلوني مع ملف الهجرة ببراغماتية مختلفة عما توقَّعه المراقبون من سياسية تميل تقليديا إلى أصحاب الخطاب اليميني الشعبوي، ومن ثمَّ تركت اليسار الإيطالي والاتحاد الأوروبي في حيرة. ثم أقرَّت ميلوني ميزانية طمأنت بها الأسواق والجهات الدولية حيال قدرة إيطالية على الوفاء بديونها، كما نجحت دبلوماسيا في توطيد علاقاتها مع زعماء أوروبا عبر لقاءات ودية مُثمرة استكملت عبرها المنح الخاصة بصناديق التعافي من وباء كورونا، التي تُقدَّر بمليارات الدولارات المُخصَّصة من الاتحاد الأوروبي لإيطاليا (11).

 

في الوقت نفسه، امتنعت ميلوني في معظم الأوقات عن الخطاب الاستقطابي الموجَّه للمهاجرين أو الأقليات أو النخب الأوروبية، ما وفَّر لها بيئة هادئة استطاعت أن تُعزز فيها علاقاتها مع كل الأطراف. وقد أظهرت ميلوني دعما صريحا وثابتا لأوكرانيا بخلاف الكثير من نظرائها اليمينيين في العواصم الأوروبية، وشمل دعمها أسلحة عسكرية متقدمة رغم وجود معارضة شعبية لذلك، كما سافرت إلى كييف ووضعت الزهور في مدينة "بوتشا" الأوكرانية التي شهدت مذبحة كبيرة، وصرَّحت بأن مصير الديمقراطية الغربية مرتبط بانتصار أوكرانيا على "مَن لا يحترمون القانون الدولي" (12).

ومن جهة أخرى، أدارت ميلوني جبهة اليمين في بلادها بخطوات حازمة أكَّدت فيها قيادتها واقتطعت من شعبية أحزاب اليمين المنافِسة لحزبها، في وقت بات فيه اليسار أكثر انقساما وتشرذما. ورغم أنها حاولت تجنُّب المعارك الثقافية لتمنح المواطنين شعورا بالاستقرار وانعدام الاستقطاب، فإنها لم تنسَ أن تمنح أنصارها اليمينيين انتصارات ثقافية شكلية من خلال مراسيم قوانين تُعاقِب تنظيم الحفلات الصاخبة وتمنع استخدام الكلمات الإنجليزية داخل الوثائق الرسمية، فضلا عن هجومها الخطابي على المنظمات غير الحكومية التي تقدم المساعدة للمهاجرين غير النظاميين (13). ودفع أداء ميلوني زعيم يسار الوسط السابق نفسه "إنريكو ليتا" للاعتراف بأنها قدَّمت أداء أفضل كثيرا مما توقعه في الملفات الاقتصادية والمالية. ومع مرور الوقت، بدأ العديد من خصوم ميلوني السابقين يُقِرُّون بأنها ابتعدت عن المنحى الفاشي الذي حذَّروا منه، وأنها لم تنتهج حتى الآن أي سياسات ضارة بالأقليات أو المهاجرين أو النساء (14).

 

تميَّزت نسخة ميلوني في سنتها الأولى من الحكم بسِمتَيْن أساسيتين، الأولى هي البراغماتية في التعامل مع المواقف الطارئة دون الجمود الأيديولوجي، والثانية هي الميل إلى الوسط أكثر في سياساتها بدلا من التشبُّث برؤى اليمين، ومن ثم استطاعت ميلوني توسيع شعبيتها خارج حدود قاعدتها الشعبية اليمينية. وتُعبِّر عن ذلك صاحبة شركة صغيرة في روما في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية قائلة إن بعض معارفها الذين يميلون إلى اليسار يقولون لها إنهم معجبون بميلوني. نجحت ميلوني إذن في إعطاء انطباع عام في الشارع الإيطالي بأنها امرأة قادرة على ترسيخ الاستقرار بعد سنوات طويلة من الحكومات المتخبطة (15).

 

ويرى الكاتب الأميركي "لي هوكستادر" المتخصص في الشؤون الأوروبية بصحيفة "واشنطن بوست" أن سياسة ميلوني المفاجئة تجاه المهاجرين تماثل تقريبا سياسة الرئيس الأميركي "جو بايدن"، وأن رئيسة الوزراء الإيطالية تتصِف بالذكاء وسرعة التحرُّك والقدرة على الفوز بالمناظرات واختيار التوقيت المناسب لخطواتها، كما أن لديها فرصة استثنائية كي تكون نموذجا لليمين الأوروبي إذا استكملت نجاحها (16).

 

ميلوني والفقراء بنت ميلوني جزءا كبيرا من شعبيتها على وعودها بمكافحة الهجرة غير النظامية (رُغم تبدُّل موقفها في النهاية)، وهو خطاب وجد صداه عند الفقراء في جنوب البلاد ممن يعتقدون بأن المهاجرين يقاسمونهم خيرات بلادهم. (مصدر الصورة: رويترز)

لقد كانت واحدة من السِّمات الأهم لخطاب اليمين في العقد الأخير هي الميل لصياغة "خطاب يساري" فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية، فقد جنح اليسار في السنوات الأخيرة إلى التركيز على ما يعتبره "مظالم ثقافية" مثل مسائل الأقليات، مُتجاهلا القضايا الاقتصادية أكثر فأكثر. ولذا، كانت الأرضية سانحة لليمين كي يتبنَّى خطابا موجها للمواطنين الفقراء المنسيين، ومن ثمَّ تنامت عالميا ظاهرة تصويت العمال البيض لليمين رغم أنهم تاريخيا كانوا كتلة تصويتية ثابتة لليسار.

 

لم تكن ميلوني استثناء في هذا الصدد، فقد بنت جزءا كبيرا من شعبيتها على وعودها بمكافحة الهجرة غير النظامية (رغم تبدُّل موقفها في النهاية)، وهو خطاب وجد صداه عند الفقراء في جنوب البلاد ممن يعتقدون بأن المهاجرين يقاسمونهم خيرات بلادهم، واستخدمت في خطاباتها لغة يسارية كلاسيكية ضد العولمة والمؤسسات المالية الكبرى. ففي إحدى خطبها الشهيرة قالت ميلوني بوضوح إن ذوي النفوذ في العالم يريدون أن يُدمِّروا مفهوم الأسرة وكل مفهوم يتصل بالهوية الوطنية أو الدينية، لأنهم يريدوننا "عبيدا مُستهلِكين": "إنهم لا يريدونني أن أُعرِّف نفسي بوصفي امرأة إيطالية مسيحية، إنهم يريدوننا أن نصبح المواطن إكس والمواطن واي، بحيث لا نقدر على تعريف هوية لأنفسنا ولا حتى هوية جندرية" (17). وتجدر الإشارة إلى أن ميلوني تدرس بدأب أدبيات خصومها بحسب ما قاله مقربون منها، ولا تجد مشكلة في اقتباس ما يفيدها عندهم، بل وتُعبِّر أحيانا في دائرتها الصغيرة عن إعجابها بشخصيات شيوعية إيطالية، لكن نقدها الذي اتخذ شكلا يساريا دَغدغ مشاعر الفقراء قبل فوزها في الانتخابات تحوَّل إلى سياسات مختلفة على أرض الواقع حين أصبحت رئيسة للوزراء (18).

لقد كانت أولى خطوات ائتلاف ميلوني في الحكم هي خفض المزايا الحكومية التي يتمتع بها المواطنون من محدودي الدخل والعاطلين عن العمل، فضلا عن إلغاء الحد الأدنى العالمي للدخل واستبداله بحزمة مساعدات أخرى. ويرى بعض المحللين أن ميلوني رضخت لرجال الأعمال الذين يدعمونها بالتساهل في التعامل مع ملف الهجرة لتوفير الأيدي العاملة الرخيصة لهم (19). وهنا تحديدا يبدو واحد من أكبر تناقضات الخطاب اليميني المعاصر، فهو من جهة يحاول أن يغازل الفقراء الذين نسيهم اليساريون، لكنه من جهة أخرى مرتبط بأصحاب المصالح وبعض رؤوس الأموال، ومن ثم نجد هنا تناقضا بارزا عند ميلوني التي تشن هجوما لاذعا دائما على العولمة، لكنها تؤمن بالنظرية الليبرالية التي تسعى لنزع يد الدولة من الاقتصاد (20).

 

سياسة خارجية فعَّالة ووطنية ومُحافِظة

لربما كانت المفاجأة الكبرى التي حققتها ميلوني هي إدارتها لملف السياسة الخارجية، فلم تكتفِ ميلوني بتهدئة المؤسسات الدولية المتوجِّسة من صعودها، بل استطاعت أن ترسم لإيطاليا دورا رياديا لم تلعبه منذ سنوات، حتى صارت سياستها الخارجية محل إشادة واسعة في إيطاليا، وسط اعتقادات بأنها تحاول رسم مكانة دولية جديدة لروما (21). لقد طمأنت ميلوني الاتحاد الأوروبي وانتهجت سياسة فعالة أوروبيا حتى بدأ البعض يلقبها بـ"أنغِلا ميركل" الجديدة (22). وحاولت ميلوني أن تقتنص وضعا قياديا داخل حلف الناتو عبر التقدُّم الملحوظ في العلاقات مع الولايات المتحدة (23)، وعبر المبادرة الدائمة بالدعم المكثف لأوكرانيا في حربها مع روسيا، فضلا عن الشروع في خروج بلادها من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع الهند واليابان (24).

ميلوني خلال قمة الناتو. (مصدر الصورة: غيتي)

لم تركن ميلوني لدور إيطاليا المحدود في أوروبا مثل مَن سبقها، وإنما بدأت ترسم تصوُّرا جديدا لأوروبا ينافس التصورات الموجودة، حيث وعدت الإيطاليين منذ توليها أن تقف بلادهم مرفوعة الرأس داخل القارة الأوروبية، وأن تلعب دورا يتخلص من "عُقَد التبعية"، وبدلا من الخطاب اليميني المعتاد المُشكِّك في جدوى الاتحاد والساعي للخروج منه، تُقدِّم ميلوني رؤية مختلفة مفادها أن تغيير الاتحاد ينبغي أن يحدث بإصلاحه من داخله وليس بهدمه.

 

ترى ميلوني أن الاشتراكيين والخُضر حدَّدوا أجندة وأولويات الاتحاد منذ سنوات، ما فاقم المشكلات من وجهة نظرها وخلق فراغا في أهداف أوروبا ملأه بيروقراطيون يديرون القارة من بروكسل. ومن ثم تسعى ميلوني إلى إنشاء تحالف ضخم من الأحزاب اليمينية الأوروبية بما في ذلك اليمين ذو الهوى الليبرالي (25). ولا تخطط ميلوني لأن يكون صوتها مسموعا في أوروبا فحسب، بل أن تكون هي قائدة أوروبا الجديدة. وفي ظل عدم قدرة "أولاف شولتس" و"إيمانويل ماكرون" على ملء الفراغ الذي تركته "أنغلا ميركل" بالكامل حتى اللحظة، تطمح ميلوني إلى تشكيل إطار جديد للاتحاد الأوروبي يكون أقل مركزية بحيث يترك هامشا أكبر من الاستقلالية والسيادة الوطنية للدول الأعضاء (26).

 

على صعيد القارة الأفريقية قدَّمت ميلوني خطابا ليس من المعتاد أن يستخدمه سياسيون يمينيون، إذ تحدثت عن الغطرسة الغربية، وعن أن الأوروبيين يَعِدون الأفارقة ولا يَفون بوعودهم ولا يعطونهم الاحترام اللائق. وقد قالت بوضوح إن الأوروبيين يهتمون بإعطاء الدروس للأفارقة بدلا من مساعدتهم بجدية في حل مشكلاتهم، مؤكِّدة أن سياستها الجديدة في القارة عِمادها أن يصبح التعاون مع أفريقيا "غير مُفترِس وغير إمبريالي" على حد تعبيرها (27).

كانت الجزائر أول محطة لميلوني في أفريقيا، وهناك زارت مقام الشهيد الجزائري والنصب التذكاري لحرب الاستقلال الجزائرية ضد فرنسا. وقد وصفت الجزائر بأنها الشريك الإستراتيجي الأقرب لإيطاليا في شمال أفريقيا، كما أعلنت أثناء زيارتها عن رؤيتها الجديدة للتعاون غير المُفترِس مع القارة كما تسميه. ولم تزُر ميلوني مقام الشهيد وحده، وإنما زارت أيضا حديقة "إنريكو ماتي" في الجزائر، وهو مؤسس شركة "إيني" الإيطالية وأحد الرموز الذي يشار إليه بوصفه واحدا من أبرز أصدقاء الثورة الجزائرية على الاستعمار الفرنسي، وكان من المُنادين باتفاقيات عادلة لتوزيع أرباح الطاقة بشكل لا يفترس ثروات البلاد الضعيفة.

 

لقد خلصت اجتماعات شركة إيني الإيطالية لاستخراج النفط وشركة "سوناطراك" الجزائرية بعد زيارة ميلوني إلى خطط لتنمية البنية التحتية لقطاع الطاقة في الجزائر، فضلا عن عقد مبادرات لتحديث البنية الصناعية (28). باختصار قدَّمت ميلوني نفسها من أول يوم لأفريقيا باعتبارها بديلَ فرنسا الذي يُقدِّر كفاح القارة في وجه الإمبريالية، وأنها تريد تعاونا مبنيا على المنفعة المتبادلة لا الاستغلال، ومن ثمَّ استطاعت بعد أسابيع من زيارة الجزائر أن تجني انتصارات دبلوماسية في مجال الطاقة لبلادها عن طريق ليبيا التي زارتها هي الأخرى واهتمت بتقوية علاقتها بالأطراف المختلفة فيها (29). أما في تونس فلم تستطع ميلوني أن تعقد شراكة إستراتيجية فحسب، بل نجحت في لعب دور أوروبي قيادي حين ذهبت مع رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا ڤون دِر لاين" بُغية الوصول لاتفاق إطلاق حزمة مساعدات مالية لتونس في مقابل التعاون على مكافحة الهجرة غير النظامية.

 

جدير بالذكر أن ميلوني تحاول صياغة مبادرة شاملة للتعامل مع أفريقيا تحت اسم "خطة ماتي"، وهي تستغل هنا اسم "إنريكو ماتي" المُناهض للإمبريالية (30). ويُعتَقد أن المبادرة ترتكز على هدفين فيما يخص المصالح الإيطالية، وهي تحويل إيطاليا إلى مركز لتصدير الطاقة بين أفريقيا وأوروبا، ومنح مساعدات تنموية لأفريقيا تُحسِّن الأوضاع في القارة وتعالج الأسباب الجذرية للهجرات المتكررة مقابل اتخاذ إجراءات أكثر صرامة من الدول الأفريقية مع الهجرة غير النظامية. ويمكن اختصار الخطة في أنها تهدف إلى تقليل أعداد المهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا مع زيادة حجم الطاقة المنقول إليها (31). باختصار ينظر العديد من الإيطاليين الآن إلى رئيسة الوزراء الجديدة ويرون بلدهم ذا القدرات المادية المحدودة مقارنة بالقوى الكُبرى وهو يتوسَّع في مكانته العالمية ويتمدَّد دبلوماسيا نحو المناطق التي أخفقت فيها جارتهم فرنسا.

 

المرأة والأم.. ميلوني على وسائل التواصل الاجتماعي ميلوني تحتضن ثلاثة أطفال أفارقة خلال زيارتها إلى أديس أبابا. (مصدر الصورة: صحيفة ريبوبليكا الإيطالية).

تعرف ميلوني جيدا قوة وسائل التواصل الاجتماعي، وتعرف كيف تدغدغ مشاعر الجماهير بأشياء غير تقليدية. ففي هذه الصورة التي التقطت لها تظهر في أديس أبابا وهي تحتضن ثلاثة أطفال أفارقة وعلى وجهها ملامح محبة أمومية. الذكاء في الصورة هو أنها لا تظهر فيها بوصفها امرأة بيضاء مع أطفال أفارقة يقفون بجوارها وهي مبتسمة على نحو نمطي، وإنما حرصت على أن تظهر فيها وكأنها أم تحتضن أبناءها. تعلم ميلوني أن صورة ذكية مثل تلك تأثيرها سيكون أقوى بكثير من خطب مطولة تحاول أن تنفي فيها عن نفسها تهمة العنصرية. ولا تستخدم رئيسة الوزراء الإيطالية تلك المنصات للترويج لأيديولوجيتها فحسب، أو لنشر صور ساكنة تُظهِر نشاطاتها على نحو روتيني؛ وإنما تستغل تلك المساحة لتقديم زوايا أخرى من حياتها، مثل حياة أسرتها التي تركز على تحديات تُواجِهها باعتبارها أُمًّا عاملة (32) (33).

 

يتفق "ميكيلا كوليانو"، شاب إيطالي يبلغ 29 عاما، ويعمل في شركة اقتصادية في روما ويصوِّت عادة لليسار، على أن ميلوني تجيد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بفعالية وترسم صورة لنفسها بوصفها أُمًّا إيطالية مسيحية. وتبث ميلوني مقطع فيديو أسبوعيا على منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" تقول فيه تعليقاتها السياسية على مذكرات ابنتها الطفلة، ويقول ميكيلا مازحا إنه يمكن بسهولة ملاحظة أن تلك المذكرات مفبركة وليست مذكرات طفلة عمرها 6 سنوات، لكنها بهذا النوع من المقاطع تحاول أن تُقدِّم صورة رقيقة لنفسها، وأن تُذكِّر الجميع بأنها امرأة وأم مثلها مثل ملايين السيدات الإيطاليات.

 

إن طريقة استخدام ميلوني لوسائل التواصل جزء من إستراتيجيتها لخلق صورة أكثر ذكاء وتطوُّرا لليمين. فعلى سبيل المثال، لا تقع ميلوني الآن في فخ الإشادة بموسوليني أو ذِكره على نحو إيجابي، وبدلا من ذلك تستخدم أسماء فلاسفة محافظين كبار محسوبين على اليمين باعتبارهم مرجعيتها، مثل الفيلسوف الإنجليزي الشهير "روجر سكروتون". وقد حسَّنت ميلوني في الفترة الأخيرة من لغتها الإنجليزية كي تُظهِر نموذجا مغايرا للسياسي اليميني التقليدي المنغلق. وبدلا من استخدام نظريات المؤامرة اليمينية الخاصة بالاستبدال العظيم لسُكان أوروبا عن طريق الهجرة واختفاء العنصر الأبيض، نجد ميلوني توجِّه خطابها نحو ضرورة اعتماد خطط قومية لزيادة المواليد الإيطاليين، حيث تشهد البلاد أزمة كبيرة بسبب نقص عدد المواليد.

 

بعد عام من حكم ميلوني، نجحت الزعيمة الإيطالية في تجاوز معظم التحديات التي لم يظن كثيرون أنها ستعبرها، وهو أمر يشهد به الكثير من خصومها. لقد أصبحت ميلوني الآن في وضع يؤهِّلها لتسيير دفة الأحداث القادمة باستقلالية كبيرة، ويبدو أنه على رأس قائمة طموحاتها أن تحكُم لفترة طويلة كي تُخلَّد فيما بعد بوصفها قائدة تاريخية لإيطاليا، ولعل الأهم هو رغبتها في تحويل النظام السياسي الإيطالي إلى نظام رئاسي أو شبه رئاسي بحيث يؤهِّلها لجمع سلطات أكبر في يديها (34).

———————————————————————————————————

المصادر

1- ‘She plays the moderate but winks at those who are not’: the many faces of Giorgia Meloni.

2- كيف تخلَّت ميلوني اليمينية عن قلقها من الهجرة والمهاجرين إلى براغماتية محبة لملف يقض مضجع إيطاليا.

3- Italy has its 68th government in 76 years. Why such a high turnover?

4- Meloni Is Off to a Strong Start in Italy as Europe’s Most Popular Leader.

5- Giorgia Meloni è la preferita dagli italiani nei sondaggi, davanti a Giuseppe Conte ed Elly Schlei.

6- Ahead of U.S. visit, about 6 in 10 Italians view Prime Minister Giorgia Meloni favorably.

7- Perché Meloni è più popolare?

8- Ahead of U.S. visit, about 6 in 10 Italians view Prime Minister Giorgia Meloni favorably.

9- Perché Meloni è più popolare?

10- المرجع السابق.

11- Italy’s Hard-Right Leader Vexes Europe by Playing Nice, Mostly.

12- Opinion Italy’s Giorgia Meloni has surprised her critics.

13- Six months in power: Italian PM Meloni ‘collides with reality’.

14- Italy’s Hard-Right Leader Vexes Europe by Playing Nice, Mostly.

15- ‘She plays the moderate but winks at those who are not’.

16- Opinion Italy’s Giorgia Meloni has surprised her critics

17- Giorgia Meloni speech on family, identity, becoming consumer slaves.

18- ‘She plays the moderate but winks at those who are not’.

19- مرجع سابق. (كيف تخلَّت ميلوني اليمينية عن قلقها من الهجرة).

20- Giorgia Meloni’s long game.

21- Giorgia Meloni’s Foreign Policy and the Mattei Plan for Africa.

22- How Giorgia Meloni is remaking Europe.

23- One year later: taking stock of Meloni’s foreign policy.

24- المرجع السابق ذاته.

25- Giorgia Meloni’s long game.

26- How Giorgia Meloni is remaking Europe.

27- Italy’s Meloni seeks broad cooperation to stanch flows of migrants to Europe with aid to Africa.

28- What Italy’s New Proactive Foreign Policy Means for Gulf and North Africa.

29- Giorgia Meloni’s Foreign Policy and the Mattei Plan for Africa.

30- المرجع السابق.

31- Italy in Africa: Reasons, Projects and Questions on a Possible Relaunch.

32- Called a danger, now Giorgia Meloni is EU’s most popular leader.

33- Giorgia Meloni’s long game.

34- Italy’s Meloni likes one French idea: Its presidency.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الهجرة غیر النظامیة التواصل الاجتماعی جورجیا میلونی وسائل التواصل من الإیطالیین میلونی على فی أوروبا میلونی فی الکثیر من م میلونی على أنها فضلا عن التی ت ومن ثم على أن أنها ت إلى أن من الم

إقرأ أيضاً:

احتفالية شعبية بعيد بورسعيد القومى الـ68 فى ميدان الشهداء

تواصلت الاحتفالات بالذكرى الثامنة و الستين لعيد بورسعيد القومي ، حيث شارك اللواء أركان حرب محب حبشي محافظ بورسعيد ، أهالي بورسعيد ، حضور الاحتفالية الفنية التي أقيمت بحديقة المسلة مغرب اليوم ، وذلك بحضور الدكتور عمرو عثمان نائب المحافظ والاستاذ محمد عبد العزيز مدير مديرية الشباب والرياضة واللواء اسامة زعفان مدير مديرية الشباب والرياضة و عدد من القيادات التنفيذية والشعبية .

وشملت الاحتفالية تقديم عددا من الفنون الشعبية والأغاني الوطنية تحت اشراف المخرج عمرو عجمي وكرنفال والعاب للأطفال بالتزامن مع إضاءة مبنى الديوان العام ، وتقديم عروض لفرق الكشافة والطلائع ،و فقرات للشعر و وعرض لفريق الكاراتيه وسهرة مع فقرات السمسية .

اللواء محب حبشي يجدد التهنئة لأهالي بورسعيد بعيد النصر 

من جانبه، أشاد محافظ بورسعيد بالعروض الفنية والرياضية المقدمة من أبناء بورسعيد ، مؤكدا فخره و اعتزازه بمشاركة أهالي المحافظة هذه الذكرى التي تثري في الوجدان معاني الاخلاص وحب الوطن ، وتعكس قوة وصمود و تضحيات أبناء المدينة الباسلة ، قائلا أن بورسعيد تمتلك تاريخًا حافلًا بالفخر والعزة، و لم تكن بورسعيد مجرد ساحة معركة، بل كانت رمزًا للوطنية والوحدة، حيث امتزجت دماء المصريين على أرضها دفاعًا عن الكرامة والسيادة،  كما كانت هذه المدينة الباسلة عنوانًا للصمود في وجه التحديات على مر العصور .

هذا وكان اللواء أركان حرب  محب حبشي محافظ بورسعيد ، و اللواء تامر السمري مساعد وزير الداخلية مدير أمن بورسعيد ، و العميد مروان محمد قائد الفرقة 18 قد وضعوا اكليلاً من الزهور على النصب التذكاري صباح اليوم احتفالا بذكرى عيد النصر.

مقالات مشابهة

  • تسلل مُسيَّرة يمنية إلى أجواء الاحتلال.. وانطلاق صفارات الإنذار
  • بنيحيى وزيرة الأسرة: الأسر المغربية أصبحت تديرها النساء أكثر من الرجال
  • دراسة بحثية.. الهجرة غير النظامية والأزمة الديموغرافية في أوروبا «تحديات وفرص»
  • منتخب الجودو يختتم معسكر جورجيا ويغادر إلى فيينا
  • احتفالية شعبية بعيد بورسعيد القومى الـ68 فى ميدان الشهداء
  • مظاهرات شعبية في مديرية مودية تندد بانقطاع الكهرباء
  • ختام فعاليات البرنامج التدريبي للتوعية بمخاطر الفساد
  • بالأرقام.. "سناب شات" التطبيق الأكثر شعبية في السعودية
  • "سوبرمان الجديد يحطم الأرقام القياسية.. أكثر من 250 مليون مشاهدة للتريلر في يوم واحد!
  • أكثر انتشاراً.. استاذ أوبئة يحذر من متحور كورونا الجديد (فيديو)