تداعيات من ثنايا الذاكرة حول مخاطر سد النهضة الإثيوبي
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
ظهيرة ذلك اليوم الغائظ في شهر من شهور صيف العام 2016م ، تركت علي مكتبي كل ما كان علي إنجازه من مهام ، وتوجهت مسرعاً الي جامعة إفريقيا العالمية قاصداً المحاضرة التي سيلقيها الخبير ومستشار وزير الري وقتها بروفسير سيف الدين حمد. كانت المحاضرة من تنظيم معهد دراسات الكوارث و اللاجئين بالجامعة ضمن الانشطة والبرامج الراتبة التي تلي تخصصات الكوارث التي كان يقدمها المعهد.
كانت القاعة الفخيمة تغص بلفيف من هيئة التدريس بالجامعة، وحشد من طلاب الدراسات العليا ممن يدرسون دراسات الكوارث.... وكان أزيز مكيفات الهواء يصدر صوتا أشبه بحفيف الأشجار ، تبعث المكيفات هواء منعشاً يلطف الحنايا المرهقة من فرط الحر الذي كان يفرض نفسه علي العالم الخارجي ..
وصلت متأخرا بعض الشئ ، بالدرجة التي لم احصل فيها علي مقعد ، ولصلتي الممتدة لأكثر من عشر سنوات بمعهد الكوارث إذ كنت لآخر عهدي رئيس قسم به توجهت لأبعد نقطة وسط الطلاب حيث اجلسوني بينهم كنوع من الاحتفاء باستاذ قديم.
سارت المحاضرة بتركيز خاص علي فوائد السد وايجابياته علي السودان ، فقد كان يؤكد المحاضر بحماس دافق كأنه لاعب فريق كرة للقدم يلعب في ملعبه ووسط جماهيره. و بلهجة تتعالي ثقة كلما تحدث عما سيجنيه السودان من فوائد جمة من السد ، وقد تبين من خلال السرد المحفوظ عن ظهر قلب أن المحاضر قد القي هذا العرض لأكثر من جهة من الدوائر الحكومية وغير الحكومية.
كان دافعي نحو الحضور مزيج من هموم أكاديمية ومعرفية لجهة إهتمامي الخاص بالسد من حيث العواقب علي السودان ، ولفضول في نفسي لمعرفة تفاصيل موقف السودان من جهة فنية رسمية... في المجمل كانت المحاضرة تبشيرا بهذا الفتح الإثيوبي الذي (سيحمل الخير الوفير علي السودان ويكفيه شر مستطير).
كلما كنت أستمع للرجل كنت أتبين أن الذي يجري أمامي لا يعدو أن يكون حملة علاقات عامة لمناصرة السد. وأن الإيجابيات التي كانت تطرح علي مسامع الحضور لا تقوي علي دفع خطر ماثل قوامه الفناء الماحق من وجهة نظر مخاطر الكوارث.... لذلك قررت مهاجمة المحاضر ومحاصرته بلغة قد يفهمها أكثر الحضور من الدارسين لمخاطر الكوارث. فلما أتيحت الفرصة لي كي أدلي بدلوي بوصفي مختصا بتحليل المخاطر ... سألته مباشرة عن القدرات الفنية للكادر السوداني المفاوض في شؤون السدود... فما كان منه إلا أن قال بفخر إن الجانب السوداني أبدي بعض الملاحظات الفنية علي جسم السد ، وقد استجابت إثيوبيا لهذه الملاحظات التي كلفتها مبلغا قدّره بالملايين من الدولارات. بينما كنت استمع لرد المحاضر طرق اذني تعليق من أحد الطلاب لزميله ( الدكتور ده لاعب ضاغط شديد).
ولما شعرت بأن الأمر متجه نحو المماحكة والتبرير غير المنطقي.... قررت في دخيلة نفسي أن استعمل أسلوبا تعبوياً أزعم بأنني أجيده وقد تمرست عليه كثيرا بقلب الطاولة علي المحاضر ، فقلت له إذا كان لديكم كل تلك القدرات الفنية العالية التي تمكنكم من إجراء تعديلات على سد بهذه الضخامة، فلم استعنتم اذاً بالخبرات الصينية لبناء سد مروي ؟ ؟! ثم ذكرته بأنه لا يتحدث في دائرة حكومية ولا وسط العامة من الجماهير ، وإنما أمام باحثين في مؤسسة علمية تمنح الدرجات العليا في قضايا الكوارث .. هنا ضجت القاعة بالتصفيق حتي اضطر رئيس الجلسة للتنويه بعد التصفيق. ثم اردفت بسؤال مباغت كنت اعلم انه لا تجوز فيه المراوغة والتملص ، حيث وجهت له سؤالاً مباشراً .. هل تم استشارة مختصين بعلم المخاطر ليجروا لكم كلجنة فنية أي تحليل لمخاطر السد. أو هل يوجد وسط لجنتكم الفنية اختصاصيون في تقييم المخاطر؟ ؟! هنا تبدت أمام الملأ سوءات لم يكن بمقدور المحاضر أن يسترها ، فهو في ضيافة مؤسسة اختصاصها الأساسي تحليل المخاطر ، وأمام مجموعة من الأساتذة يعلمون تمام العلم أنه لم تجرَ أي تحليل لمخاطر السد. فما كان منه إلا الإعتراف بأنه لم تجرِ اللجنة الفنية أي تحليل أو تقدير للمخاطر. غير انه وعد بلهجة محتشمة علي غير النبرة التي كان يبشر فيها بفوائد السد، قال :(بأن اللجنة الفنية ستسأنس بآراء بعض المختصين في تحليل المخاطر).
وعند هذا الإعتراف أيقنت أن الإستراتيجية التي كان ينطلق منها المحاضر تنبع من الموقف السياسي أكثر من الفني ، وأن الغرض الأساسي من المحاضرة لم يكن إلا تعبئة لصالح الموقف الحكومي . وحين لحظة اليقين تلك تملكني شيء من الخوف وكثير من الحزن حتي أخذت أردد في نفسي... قلبي علي وطني.
د. محمد عبد الحميد
نشر هذا المقال بصحيفة سودانايل الالكترونية بتاريخ ٤ نوفمبر 2019
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التی کان
إقرأ أيضاً:
تحليل الوضع الراهن في السودان وتحديات مستقبل الدعم السريع
يوسف عزت مستشار حميدتي السابق..
????
*تحليل الوضع الراهن في السودان وتحديات مستقبل الدعم السريع*
*إعداد: يوسف عزت*
⸻
*مقدمة:*
يواجه السودان مرحلة دقيقة من تاريخه الحديث، حيث تعكس المواجهة المسلحة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني صراعًا أكثر تعقيدًا من كونه نزاعًا عسكريًا. فعلى الرغم من النجاحات الميدانية التي حققتها قوات الدعم السريع في بداية النزاع، إلا أنها تعاني حاليًا من تراجع ملحوظ على الأصعدة السياسية والاجتماعية والعسكرية.
يهدف هذا التحليل إلى دراسة الأسباب الجوهرية لهذا التراجع، مع التركيز على العوامل البنيوية، والسياسية، والقيادية. كما يسعى للإجابة على السؤال المركزي:
هل تمتلك قيادة الدعم السريع استراتيجية واضحة لحماية المجتمعات وضمان بقائها وسط هذا التصعيد؟
*أولاً: غياب الانضباط والانفلات الأمني*
تعدّ السيطرة على الأمن والنظام أحد العناصر الأساسية للحفاظ على الشرعية والقبول الشعبي. غير أن الواقع في مناطق نفوذ قوات الدعم السريع يُظهر اختلالًا أمنيًا خطيرًا انعكس في انتشار أعمال النهب، وانتهاكات حقوق المدنيين. ويمكن تحليل آثار هذا الانفلات من خلال بعدين أساسيين:
1. فقدان التأييد الشعبي:
• أسهمت الانتهاكات الميدانية في تقويض الثقة الشعبية بقوات الدعم السريع، خاصةً في المناطق الحضرية التي كانت أكثر تضررًا من عمليات النهب والاعتداءات.
• انعكست هذه الانتهاكات على صورة القيادة باعتبارها غير قادرة على السيطرة على عناصرها، مما أدى إلى عزلة متزايدة في الأوساط المجتمعية.
2. تعزيز الفوضى وانعدام السيطرة:
• أدى غياب المحاسبة الداخلية إلى بروز مجموعات منفلتة تعمل خارج السيطرة المباشرة للقيادة، مما كرّس بيئة من الفوضى وصعوبة استعادة النظام.
*الخلاصة:*
أضعف الانفلات الأمني قدرة الدعم السريع على تقديم نفسه كفاعل منظم ومشروع، وخلق حالة من الاستقطاب السلبي ضده داخل المجتمعات المحلية.
⸻
*ثانياً: تراجع الرؤية السياسية وانعدام المصداقية*
بدأت قوات الدعم السريع مسارها السياسي بعد اندلاع الحرب عبر طرح رؤية الحل الشامل دات النقاط العشر، والتي لاقت قبولًا داخليًا وخارجيًا باعتبارها محاولة لصياغة مشروع سياسي مدني. إلا أن هذا الزخم تلاشى بسبب تضارب الخطاب السياسي مع الواقع الميداني.
1. التناقض في الخطاب السياسي:
• اعتمدت القيادة خطابًا يركز على مواجهة الإسلاميين (“الكيزان”)، مما أكسبها دعمًا مؤقتًا من القوى المدنية المناهضة للنظام السابق.
• غير أن وجود عناصر محسوبة على الإسلاميين داخل صفوف الدعم السريع قوّض مصداقية هذا الخطاب، وكشف عن تناقض جوهري بين الشعارات والممارسات.
2. تأثير الحرب على الأولويات السياسية:
• فرضت الحرب أولويات جديدة على قيادة الدعم السريع، حيث أصبح الحشد القبلي والاجتماعي أولوية تفوق الالتزام بالمشروع المدني، مما أدى إلى تراجع الرؤية السياسية إلى مجرد أداة تكتيكية.
*الخلاصة:*
غياب خطاب سياسي متماسك يعكس رؤية مستقبلية واضحة أدى إلى فقدان الدعم الشعبي والانكشاف أمام المجتمع الدولي كفاعل غير قادر على الالتزام بمبادئ التحول المدني.
⸻
*ثالثاً: ضعف القيادة وتعدد مراكز القرار*
تعاني قوات الدعم السريع من أزمة قيادية بنيوية تتجلى في غياب مركز موحد لاتخاذ القرارات الاستراتيجية. وتظهر هذه الإشكالية في النقاط التالية:
1. تعدد دوائر صنع القرار:
• يشكل التداخل بين القائد الأول (محمد حمدان دقلو – حميدتي) ونائبه (عبد الرحيم دقلو) مصدرًا لتضارب القرارات وتباطؤ الاستجابة للأحداث.
• تسهم تأثيرات المحيطين بالقيادة من أفراد الأسرة والمقربين في خلق ديناميكيات معقدة تُعيق اتخاذ قرارات حاسمة.
2. غياب التخطيط طويل الأمد:
• تفتقر القيادة إلى رؤية استراتيجية بعيدة المدى، حيث يعتمد اتخاذ القرارات على ردود الفعل الآنية دون تحليل معمق للعواقب المستقبلية.
*الخلاصة:*
انعكس غياب القيادة المركزية الموحدة على كفاءة إدارة الحرب، وتسبب في قرارات متضاربة، مما أضعف الموقف السياسي والعسكري للدعم السريع.
⸻
*رابعاً: أزمة التحالفات السياسية والعسكرية*
تورطت قيادة الدعم السريع في تحالفات متباينة مع قوى سياسية وعسكرية، خلال السنوات الماضية آخرها تبني مشروع “السودان الجديد”. لكن هذه التحالفات تعاني من تناقضات بنيوية واضحة:
1. التناقض مع التركيبة الاسرية والاجتماعية للدعم السريع:
• يتطلب مشروع السودان الجديد إعادة هيكلة الدعم السريع كمؤسسة قومية ديمقراطية، في حين أن بنيته القائمة تعتمد على قيادة الأسرة والولاءات القبلية.
2. الطابع التكتيكي للتحالفات:
• تتعامل قيادة الدعم السريع مع التحالفات كأدوات مرحلية فرضتها ظروف الحرب، دون التزام فكري أو سياسي حقيقي بالمبادئ التي تقوم عليها هذه التحالفات.
*الخلاصة:*
غياب رؤية استراتيجية للتحالفات والثبات عليها جعل الدعم السريع يبدو كفاعل انتهازي، مما يهدد استمرارية هذه التحالفات ويؤدي إلى عزلة سياسية متزايدة.
*خامساً: الصدام مع الدولة المركزية وتأثيره على الاصطفاف القبلي*
أدى الصدام المباشر بين قوات الدعم السريع والدولة المركزية إلى إعادة تشكيل الاصطفافات القبلية في السودان بصورة غير مسبوقة فللمرة الأولى في تاريخ السودان الحديث، أصبحت المجتمعات العربية منقسمة بين دعم الجيش أو الدعم السريع، مما أدى إلى حالة استقطاب حاد والدخول في حرب اهلية مباشرة.
• دفع هذا الاستقطاب المجتمعات إلى تسليح نفسها بشكل مستقل، مما حول الحرب لحرب أهلية واسعة النطاق ذات قوى متعددة.
*الخلاصة:*
ساهم الصدام مع الدولة المركزية في تفكيك التحالفات القبلية التقليدية وأدى إلى تعميق الانقسامات المجتمعية واعاد المكونات العربية في غرب السودان إلى محيطها التقليدي والتحالف مع قوى الهامش التي كانت تستخدم هذه المجتمعات لقمعها ،كأداة لسلطة المركز .
يمكن تطوير هذا التحول لحل صراع المركز والهامش بتبني مشروع دولة خدمية بدلا من التعريف التقليدي للصراع بأن المركز هو عروبي إسلامي والهامش إفريقي زنجي وهو تعريف غير صحيح كرست له سلطة الحركة الإسلامية وعمقتها وتبنتها كسياسات حتى الان ، وكنتيجة لذلك انفجر الصراع بهذه الصورة التي نشهدها الان ، ولكن يمكن وفق المعادلات الراهنة الوصول لحلول لصالح جميع السودانيين من خلال التفكير الواقعي والاعتراف بالأزمة وحلها حلا جذريا وذلك يحتاج لعقول تنظر إلى ابعد من مصالحها.
*الإجابة على السؤال الجوهري:*
هل تمتلك قيادة الدعم السريع استراتيجية واضحة لحماية المجتمعات التي تقع في مناطق سيطرتها وضمان بقائها؟
بناءً على التحليل السابق، لا تمتلك قيادة الدعم السريع استراتيجية متكاملة لتحقيق هذا الهدف، وذلك للأسباب التالية:
1. الارتجالية بدل التخطيط الاستراتيجي.
2. التناقض في الخطاب السياسي والممارسات.
3. غياب قيادة موحدة لاتخاذ القرارات.
4. الاعتماد على تحالفات ظرفية غير مستدامة.
5-عدم القدرة هلى التخلص من ارث الماضي والتكيف مع التحولات التي تستدعي اعادة تشكيل القيادة وصياغة مشروع وطني يمثل مصالح قطاعات واسعة تتبناه وتشارك في تنفيذه.
*توصيات*
1. إعادة هيكلة القيادة: إنشاء مركز موحد لاتخاذ القرارات الاستراتيجية.
2. ضبط الأمن: فرض انضباط صارم على القوات ومحاسبة المتجاوزين.
3. صياغة رؤية سياسية متماسكة: تطوير مشروع وطني يعكس المصالح الحقيقية لجميع الفئات.
4. تعزيز المشاركة المجتمعية: إشراك الكفاءات المحلية في صنع القرار.
5. تبني استراتيجية طويلة الأمد: التركيز على حلول مستدامة تربط بين الأمن والسياسة والتنمية.
*خاتمة*
يتضح أن قيادة الدعم السريع تواجه تحديات بنيوية تهدد بقاءها كفاعل سياسي وعسكري مؤثر. إن غياب التفكير الاستراتيجي والارتباك في الخطاب والممارسة يجعل مستقبلها مرهوناً بقدرتها على إصلاح هذه الاختلالات واعتماد رؤية متماسكة ومستدامة.