إن السلام والإسلام شيئان متلازمان فالإسلام بقدر ما دعا إلى الجهاد ومقاتلة الأعداء وبذل الأموال والأنفس رخيصةً من أجل هذا الدين بقدر ما كان حريصاً على سلامة وحقن وأحترم حقوق الإنسان بصفته أكرم وأفضل المخلوقات في هذه الأرض فقد مد الإسلام ذراعيه للبشرية جمعا ليكونوا من أتباعه المخلصين، ومد يد الصفح والعفو لهم حتى أعداء هذا الدين الذين ضلوا يحاربونه السنين والأيام وضلوا يكيدون له ويتآمرون عليه ويحاولون بكل الوسائل والطرق لإطفاء نور الإسلام والقضاء عليه وحاربوا المسلمين أينما كانوا واذاقوهم ويلات التنكيل والعذاب واستخدموا ضدهم أبشع الجرائم الإنسانية وأشنعها ومع هذا كله عندما تمكن المسلمون منهم وأصبحوا تحت قبضتهم ورحمتهم لم يقابلهم بمثل ما قابلوه من التنكيل والتعذيب وسفك الدماء وانتهاك الحرمات ونهب الأموال بل حفظوا لهم كرامتهم الإنسانية وحببوا لهم الدين ليكونوا من أبنائه وجنوده المخلصين ولم يثأر المسلمون من أعدائهم بل كانوا أرفع من ذلك وأعلا ليعلنوا للإنسانية اجمعها إن هذا الدين دين الرحمة والسلام وليس كما يزعم الأعداء إن الإسلام انتشر بحد السيف وانه أذل الشعوب والأمم وانه دين التشدد والإرهاب.
بالعكس بل كان هذا الدين حريصاً على أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً تسودهم الرحمة والسلام والأمن والآمان والاستقرار والتاريخ شاهد على هذه الحقائق والوقائع فهؤلاء مجموعة من المشركين في فتح مكة عندما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يمشون في مكة فالتف المشركون عليهم وأغاروا عليهم وأرادوا القضاء عليهم ولكن الله حفظ رسوله والمؤمنين ووقع المشركون في قبضتهم فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن عفا عنهم وقابل الإساءة بالصفح والعفو والغفران قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) [الفتح آية: (24)]، والسلام كلمة مشتقة من الإسلام والله تعالى من أسمائه السلام والجنة دار السلام والإسلام عندما حمل السيف واستخدم القوة لا ليقهر الأمم ويذل الشعوب إنما حمل السيف ليدافع به عن المستضعفين في هذه الأرض الذين ضلوا ردحاً من الزمن تحت وطأة الطغاة يذلونهم ويسفكون دمائهم ويستحلون حرماتهم ويشردوهم عن أوطانهم لم يرحموا دمعات الأطفال الأبرياء وصرخات النساء والثكالى لم يرحموا شيخاً عجوز وطفلا رضيع حتى لم تسلم منهم الدواب والأنعام والزروع والأشجار فعاثوا في الأرض الفساد والطغيان حتى استفحل شرهم وعظم خطرهم ولم تنفعهم موعظة ولا نداء ولا ضمير من هنا حمل الإسلام السيف ودافع عن هؤلاء المظلومين في مشارق الأرض ومغاربها واستخدم مع الطغاة والأعداء القوة المادية والروحية فانتصروا عليهم بفضل الله تعالى (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) [النساء آية: (75)]، كذلك حمل الإسلام السيف للدفاع عن الدعوة الإسلامية وتبليغها للعالمين فأعداء الإسلام وقفوا حجر عثرة أمام الدعوة إلى الله فكان واجب المسلمين التصدي لهم قال تعالى ( وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال آية: (39)] ، وقبل أن يحارب الإسلام الأعداء يدعوهم إلى الإسلام أو دفع الجزية أو القتال فهذه سياسة المسلمين في الحروب والمعارك فكان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يبعث السرايا والجيوش يأمرهم بدعوة الأعداء إلى الثلاث الأمور المذكورة ويقول لهم أغزوا بسم الله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا وليداً ولا شيخ عجوز ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً ولا تهدموا صومعة فهذه هي رحمة الإسلام الشاملة لأفراد البشرية جمعا وقبل الإسلام الصلح والهدنة والسلام مع الأعداء بشرط الغلبة والهيمنة للمسلمين وان يطلب الأعداء السلام قبل المسلمين وألاَّ يسمى استسلام فالله تعالى قد ذكر أنهم إذا جنحوا للسلم فاجنح لها بقوله سبحانه وتعالى (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [الأنفال آية: (61) إذاً فالإسلام حريص على حقن الدماء وقد استجاب الكثير من الأعداء (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [التوبة آية: (11)
إن الإسلام قد أثر على الأعداء وسرى في نفوسهم فهؤلاء التتار قد اجتاحوا بلاد المسلمين وجاءوا بحقدهم وحديدهم فأكثروا فيها الفساد ومكثوا فيها الأعوام والسنين ولما احتكوا بالمسلمين ورأوا أخلاق المسلمين ومعاملتهم الحسنة تأثروا بهذا الدين ودخلوا فيه طائعين وراغبين بل عامل الإسلام الأسرى معاملة حسنة فكفل لهم الإسلام الحماية وداواهم من جراحاتهم ودعاهم إلى هذا الدين قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنفال آية: (70)، إن الإسلام قد أعطى كل ذي حق حقه وحفظ لهذا الإنسان حقوقه وكرامته والإسلام حريص على سلامة النفوس وجمع القلوب وتوحيد الصفوف وجاء هذا الدين ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة والرسول صلى الله عليه وسلم كان الرحمة المهداة والسراج المنير والهادي البشير فكان ليناً في كلامه حتى أسر القلوب والنفوس فهذا جبير بن مطعم كان في قومه ذا سمعة وشهرة وأبوه من أجود العرب وأكرمهم فجبير كان من ألد أعداء الإسلام والمسلمين طيلة حياة الدعوة الإسلامية ولكن المشيئة والأقدار جعلت من ذلك الرجل يقترب من هذا الدين فعندما كان جبير بن مطعم يحاول أن يخلص مجموعة من الأسرى واقترب من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وسمع الرسول يقرأ القرآن ويرتله من قوله تعالى (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) الطور) فوقف لحظة من الزمن متأمل في تلك الآيات القرآنية ورجع إلى قومه وهو يصارع في نفسه بين نور الإسلام وظلام الكفر رغم أن جبير بن مطعم كان من أشد الناس عداوة للرسول وأصحابه ومع ذلك قابله الرسول بطلاقة الوجه ولين الكلام وعرض له الإسلام ولم يأخذه بجرمه وذنبه .
إن رحمة الإسلام وسماحته شاملة لأفراد البشرية جمعا، بل شملت المخلوقات الأخرى وخاصة الحيوانات فالإسلام نادى بالرفق بالحيوان وعدم إيذائه وتعذيبه واتخاذه غرض وهدف للرمي واللهو، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى مجموعة من الناس قد نصبوا حيوان هدف للتعليم فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال [ لعن الله من اتخذ هذا غرضاً] كذلك وجد طير تبحث عن أبنائها فقال [ من فجع هذه بولدها] حتى جذع النخلة يأنّ ويبكي بكاء الصبي فضمه النبي حتى هدأ حتى استطاع الرسول اسر النفوس ، قال تعالى ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة آية: (128)] ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع عندما كان الرسول تحت شجرة وسيفه معلق فيها فهجم عليه رجل مشرك وسيفه مصلت وقال للنبي من يمنعك مني يا محمد فقال الله فسقط سيف المشرك فقام الرسول وأخذ السيف وقال للمشرك من يمنعك مني فقال كن خير آخذ فقال الرسول تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال لا ثم قال أعاهدك ألاَّ أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فرجع إلى قومه فقال لهم جئتكم من عند خير الناس ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم عندما كان يقسم الغنائم جاء إليه أحد الأعراب واخذ بتلابيبه حتى أثر حول عنقه وقال له يا محمد أعطني من مال الله لا من مال أبيك وأمك والصحابة حوله فهموا أن يقتلوه ، فأشار لهم الرسول أن يهدؤوا من روعه ثم ابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم في وجه ذلك الإعرابي وقال لأصحابه أعطوه فأكثروا له العطاء فتأثر ذلك الإعرابي ودخل في دين الله وقال إن محمد يعطي عطاء من لا يخشى الفقر فصدق الله القائل (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران آية: (159)].. نتابع القراءة بإذن الله تعالى من كتاب في رحاب الحبيب المصطفى
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: الرسول صلى الله علیه وسلم الله تعالى قال تعالى عندما کان هذا الدین
إقرأ أيضاً:
خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
مكة المكرمة
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته: “اتقوا الله رحمكم الله، طهروا قلوبكم قبل أبدانكم، وألسنتكم قبل أيديكم، عاملوا الناس بما ترون لا بما تسمعون، اسمعوا من إخوانكم قبل أن تسمعوا عنهم ظنوا بإخوانكم خيرًا، واتقوا شر ظنون أنفسكم، ومن أدب الفراق دفن الأسرار، من أغلق دونكم بابه فلا تطرقوه، واكسبوا إخوانكم بصدقكم لا بتصنعكم، وكل ساق سيسقى بما سقى: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَعُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوا مُّبِينًا).
وأضاف فضيلته أن الإيمان والعبادة، وعمارة الأرض، وإصلاحها أركان متلازمة، والمسلم يقوم بالإعمار قربة لله ونفعًا لنفسه ولعباده، فيستثمر في كل ما ينفع العباد والبلاد، الإيمان فينا مقرون بالعمل الصالح، والقراءة مقرونة باسم الله مستشهدًا بقوله تعالى (أقرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، والعلم مربوط بخشية الله، والإيمان هو قائد العقل حتى لا يطغى العقل فيعبد نفسه، والإيمان هو الضابط للعلم حتى لا تؤدي سلبياته إلى اضطراب تنهار معه البشرية.
وأفاد الشيخ بن حميد أن القرآن الكريم تكلم عن الأمم السابقة، وما وصلت إليه من القوة، والبناء، والإعمار، ثم بين ما كان من أسباب هلاكها وفنائها من أجل أن نعرف سنته سبحانه، فقد أخبر عن عظمة ما وصل إليه قوم عاد، فقال جل وعلا: (إرم ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في البلاد)، مما يدل على عظمتها، وجمالها، وتقدمها، ولكنه في مقام آخر، قال جل وعلا: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ )، غرتهم قوتهم وكذبوا رسل الله، وتنكروا لدعوة الإيمان استكبارًا وجحودًا، ومن أعرض عن ذكر الله يبقى مرتكسًا في الظلمات مهما أوتي من العلوم والقوى، حيث خاطب الله نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم – بقوله: ﴿ كِتَبُ أَنزَلْتَهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ )، وقال جل وعلا: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنزِلُ عَلَى عَبْدِهِ وَايَتٍ بَيِّنَتِ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، فالقوة والعزة بالإيمان والتقوى، والانتصار والبقاء بتعظيم شعائر الله، والعلوم مهما كانت قوتها، والصناعات مهما بلغت مخترعاتها وتقنياتها فإنها لا تجلب حياة سعيدة، ولا طمأنينة منشودة، مبينًا أن الدين الإسلامي ليس ذمًا للعلوم واكتشافاتها، ولا للصناعاتها وأدواتها، ولا للمخترعات وتطويرها، ولا تنقصا من مكانتها وقيمتها، وإنما هو التأكيد على أنه لا بد من نور الوحي لتزكية النفوس، وهداية البشرية، واستنارة الطريق.
وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن الازدها الذي أحرزته التراكمات المعرفية من بيت اللبن والطين إلى ناطحات السحاب وشاهقات المباني، وما حصل في وسائل النقل عبر التاريخ من التحول من ركوب الدواب إلى امتطاء الطائرات مرورًا بالسيارات والقاطرات، وفي بريد الرسائل: من الراجل والزاجل إلى البريد الرقمي، كل ذلك على عظيم اختراعه وعلى جماله، والراحة في استعماله لكنه لم يقدم البديل عن الإيمان، وتزكية النفس واحترام الإنسان، وتأملوا ذلك -حفظكم الله- في ميدان الأخلاق، وحقوق الإنسان، وضحايا الحروب، والتشريد، والتهجير، والفقر، والتسلط، والاستبداد، واضطراب المعايير.
وأوضح فضيلته أن القوة الحقيقة هي الربط بين الإيمان والأخذ بالأسباب، وليس التعلق بالأسباب وحدها، لأن الرب سبحانه هو رب الأرباب، ومسبب الأسباب ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، ومن ثم فإن صدق التوكل على الله هو المدد الحقيقي في كل مسارات الحياة ودروبها، بل التوكل عليه سبحانه هو معيار الإيمان (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، والعزة الله ولرسوله وللمؤمنين، ونور الوحي أعظم النور وأعلاه وأغلاه، وعلى المؤمن أن يعرف قيمته ومنزلته وقوته، ولا يستصغر نفسه أمام الماديات، أو يشعر بالحرج تجاهها.
وأبان الشيخ بن حميد أن الإيمان هو القائد للعقل، وهو الحامي للعلم، وحين ينفصل العقل عن الإيمان ينهار العمران البشري، وحين يعبث العقل بالعلم تنهار الحواجز بين الحق، والباطل، والصالح، والفاسد، والظلم والعدل، وتضطرب المعايير، وتتحول السياسات من سياسات مبادئ إلى سياسات مصالح، وبالعلم والإيمان يستقيم العمران، وتسير القاطرة على القضبان، والله غالب على أمره.
وأفاد إمام وخطيب المسجد الحرام أن بناء العمران وانهياره مرتبط بالإنسان، فالله سبحانه استخلف الإنسان ليقوم بعمارة الأرض، ومن ثم فإن أسباب تقدم المجتمع وتأخره يعود -بإذن الله- إلى الإنسان نفسه، فالتغيير في الخارج لا يكون إلا حين يكون التغيير في النفوس (وإِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيْرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، وسنة الله أن الصالح يبقى لان فيه نفعًا للبشرية، وغير الصالح لا يبقى لأنه لا نفع فيه، واعلموا أن الصلاح لا يكون إلا بالإيمان الصحيح، فهو الذي يطبع النفوس على الصدق، والإخلاص، والأمانة، والعفاف، ومحاسبة النفس، وضبط نوازعها، وإيثار الحق، وسعة النظر، وعلو الهمة، والكرم، والتضحية والتواضع، والاستقامة، والقناعة، والسمع والطاعة، والتزام النظام.
كما أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ، المسلمين بتقوى الله تعالى، والمسارعة إلى مرضاته، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
وقال: “أن من التوفيق الأعظم، والسداد الأتم، أن يحرص العبد على حفظ طاعاته لربه عز وجل، فيكون حريصًا أشد الحرص على حفظ طاعته، يجاهد نفسه على السلامة من حقوق الخلق، ويجاهدها على البعد التام عن الوقوع في ظلم المخلوقين، بأي نوع من أنواع الظلم القولية والفعلية، يقول تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)”.
وأوضح فضيلته، أن من أعظم البوار، وأشد الخسارة، ترك العنان للنفس في ظلمها للآخرين وانتهاك حقوقهم، قال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الظلم، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القيامة)، مبينًا أن أعظم ما يجب على المسلم حفظ حسناته، وصيانة دينه والحفاظ عليه، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَسِينَ).
وأكّد الدكتور آل الشيخ، أن الإفلاس الحقيقي والخسارة الكبرى، أن توفّق للخيرات والمسارعة للطاعات، وتأتي يوم القيامة حاملًا حقوق الناس متلبسًا بظلمهم فتلك البلية العظمى والخسارة الكبرى، مستشهدًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ من المُفْلِسُ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فَإِن فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ) رواه مسلم.
ودعا إمام وخطيب المسجد النبوي المسلمين إلى المبادرة بأداء حقوق العباد، والتحلل منهم، وكف اللسان عن شتم الخلق، وقذفهم، وغيبتهم، والطعن في أعراضهم، محذرًا من الظلم والاعتداء على الخلق، وأكل أموالهم، والتهاون في إرجاعها، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
وختم الخطبة، مبينًا أن الواجب على كل مسلم أن يجتهد في براءة ذمته من حقوق الخلق، فقد ورد في الحديث الصحيح أن الجهاد في سبيل الله يكفر الخطايا إلا الدين، وأن التساهل به يورد العبد الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة، مستشهدًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يُريد أداءها أدى الله عنه، ومَن أخذَ يُرِيدُ إتلافها أتْلَفَهُ الله) رواه البخاري.