أثير- د. سعيد بن محمد السيابي، كاتب وأكاديمي في جامعة السلطان قابوس

ما أحوج أيامنا لمن يشعل الشموع فيها، لينير ذلك الضوء الظلام الذي يلف الأمكنة القريبة منا، والبعيدة التي نتطلع إلى رؤيتها في النور، فالفنون تشعل داخل أرواحنا مسارات نجهلها وتزيح أحمالًا أثقلتنا، وأوقات سلام روحي نتطلع إلى اكتسابها، ومساحة من الطمأنينة نبحث عنها بانشغالاتنا الكثيرة.

افتتاح قشيب في أكتوبر شهر (المرأة العمانية) بانطلاق الموسم الفني 2023-2024 لدار الأوبرا مسقط بعرض أوبرالي بازخ بالمعاني والقيم، فعرض (حلاق إشبيلية) قدم عشرات المرات في مختلف دول العالم، وهو عرض ينتصر للحب والإخلاص والتفاني والوقوف أمام كل الصعاب لتنتصر الأرواح المعلقة وتتألف لتصل لمبتغاها بتوقيع عقد الزواج.
إن رؤية دار الأوبرا السلطانية مسقط في أن تكون مركزًا متميزًا للمشاركة الثقافية والشراكات الفنية جعلها في قلب العالم، باستقطابها لعروض وفنانين ومخرجين كبار لهم وهجهم ومتابعوهم وقوة حضورهم في الساحة الثقافية والفنية ويحظون بتغطية إعلامية في جميع وسائل الاتصال الجماهيرية، فالضيوف من الفنانين الكبار الذين قدموا هذا العرض من طاقم الممثلين النجوم كأنطونيو سيراجوسا، وكارلو ليبوري، وماريا كاتايفا، وفيتو بريانتي، ونيقولا أوليفييري وغيرهم من الفنانين، وتقود هذه الشهرة والشعبية العالمية لأوبرا (حلاق إشبيلية) المؤلفات الموسيقية لجواكينو روسيني الذي تنبض ألحانه بالحياة والمرح، فالعرض فيه من الجدية الكثير ومن المرح بالمثل، والعرض سر محبته اجتمعت على نجاحه فكرة تعيش بيننا ولا تنتهي فالحب يبقى رسولا للقلوب ونهاية للزواج الذي يقوده الصدق والتفاهم، فالعرض الذي قدم في روما عام 1816م ما يزال يقدم باستمرار ليصل إلينا في مسقط بذات البذخ الفني والفكر الإخراجي والأداء الغنائي المتجدد والأصيل بقوته وحضوره على خشبة المسرح التي أبهجت الحضور الذي امتلأ به المكان من مختلف دول العالم.
الانتصار الذي قدمه عرض (حلاق إشبيلية) للمرأة هو قيمة كبيرة كانت وما تزال الدافع نحو وجود استقرار عاطفي وانجذاب وجداني وتكوين أسر مستقرة، وهذا الموضوع على عدد مرات تناوله في الأعمال المسرحية والأوبرالية إلا إن له من المتابعين الكثير، والعديد من المتلقين الذين أشغلتهم معرفة الصعوبات الحاصلة بين الوقوع في الحب والوصول إلى الزواج، فالحياة باستمراريتها ومنعطفاتها توجِد ذلك التحدي الأبدي الذي استمر وسيتواصل ما بقي الإنسان ينشد الحب في أسمى معانيه، وحظوظ المرأة في هذا العرض هو الوصول إلى السعادة، وتصل في نهاية الأوبرا بأن تتذلل أمامها كل الصعاب، لتكون قوية بإرادتها، وبالأصدقاء الصادقين الذي يقفون حولها.
الإنتاج الفني والطاقم الإخراجي منح هذه الأوبرا حقها من العمل المتقن، والتنوع في الحلول والتقنيات المستخدمة، فالديكور المسرحي كان واقعيا لدرجة أننا وقفنا أمام أبنية تاريخية عظيمة وشوارع تقليدية وشرفات حملت الممثلين على أسطحها وغرف المكتب المؤثثة بأرفع الأثاث وزجاج للصالات الكبيرة وأنوار وضعتنا في جميع الأجواء الزمنية من تغير حركة الشمس في اليوم الواحد، وقد بدأ العرض بالشموع والمصابيح الليلية الخافتة التي كانت تحملها المجاميع لننطلق مع تطور الأحداث نحو النور الكاشف فذلك التكامل والتكاتف يقول عنه جلال الدين الرومي” لا تفقد الشمعة شيئًا من نورها، إذا ما أُشعِلَت منها شمعة أخرى”، وهذا ما كان يقود التسلسل في الأحداث بانكشافها بتدرجات مدروسة فنيا ودراميا وموسيقيا.
(حلاق إشبيلية) عرض أوبرالي رفيع في دار الأوبرا السلطانية مسقط يستكمل مسيرة البناء والتطور لمواسمها الثقافية والفنية، ويضع الشموع الكبيرة والمضيئة بالبهجة والسرور في مقدمة مواسمها، وينهض مع باقي العروض التي خطط لها وهي سبعة وعشرون عرضًا، بما فيها أربعة أعمال أوبرالية شهيرة. بهذا العرض المميز والكبير كسبنا الرهان في واحدة منها، وننتظر الباقي بشغف المحب الذي ينتظر أن يهل عليه القمر لينعكس في صفائه وجماله وجه من أحبهم ويستبشر برؤيتهم ويسعد بلقائهم.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: حلاق إشبیلیة

إقرأ أيضاً:

قيس سعيد من عُهدة الزعامة إلى عُهدة الرئاسة

يبدو أن قيس سعيد قد ختم مرحلة "صناعة الزعيم" ليدخل مرحلة "مسؤولية الرئيس".

1- مرحلة نحت الزعامة

ظل قيس سعيد منذ انتخابه في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 يروّج لنفسه كمُخلّص وكزعيم وطني وإنساني، وظل "يراكم" مفردات الوصم والوشم والذم والبخس لإرباك كل الطبقة السياسية التي حكمت أو عارضت، فقد ابتدع من المفردات ما لم يسبقه إليها أحد في وصم الآخرين (لا حاجة للتذكير بتلك المفردات في زمن يبدو "ساكنا").

وبقدر ما كان يهاجم خصومه كان يجتهد في تمثّل سيرة الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فيُعبّرُ بالكلام وبالأحضان عن حبه للناس وعطفه على الفقراء الذين "نكّل" بهم الفاسدون والمفسدون و"الكارتيلات"، أصحاب "مسالك التوزيع والتجويع". كان يجد خطابُه الهجومي استحسانا لدى طيف واسع من عامة الناس، فيزيد هو من ذاك الهجوم على الطبقة السياسية ويرسل تهديداته ضد اللصوص ويتوعدهم بالملاحقة في البر والبحر وفي السماء.

حتى لا يقاسمه أحد "المجد" ولا يمنّ عليه أحد بدور في نحت "زعامته"، فقد اتخذ مسافة من كل من تقرّبوا منه وحتى ممن بالغوا في التعبير عن مساندته والدفاع عن "مشروعه"، مما اضطر عددا منهم للتراجع واتخاذ مسافة نقدية أو قاطعة، إنها فكرة "الزعامة" التي لا يقبل صاحبُها بأن يكون مدينا لأيّ كان
لقد كان يحاول أن ينحت لنفسه صورة "زعيم" مختلف عن بقية زعماء تونس، فلا يحتفل لا بعيد استقلال ولا بعيد شغل، بل ولا يُلقي على التونسيين خطاب معايدة في المناسبات الدينية، إنما ظل وفيا لمنهجه في "تجريف" كل مكونات المشهد القديم؛ لرسم "مسار" جديد يقول إنه يخدم التونسيين الطاهرين ويساهم في خدمة الإنسانية.

وحتى لا يقاسمه أحد "المجد" ولا يمنّ عليه أحد بدور في نحت "زعامته"، فقد اتخذ مسافة من كل من تقرّبوا منه وحتى ممن بالغوا في التعبير عن مساندته والدفاع عن "مشروعه"، مما اضطر عددا منهم للتراجع واتخاذ مسافة نقدية أو قاطعة، إنها فكرة "الزعامة" التي لا يقبل صاحبُها بأن يكون مدينا لأيّ كان ولا يقبل بتقاسم "المجد"، بما هو غنيمة اعتبارية، مع الآخرين.

2- مرحلة هيبة الرئاسة

منذ كلمته أمام وزيرة العدل يوم 22 أيار/ مايو 2024، وبعد إقالة أهم وزيرين في "حكومته"، لم يتكلم قيس سعيد كلاما سياسيا ولم يهاجم معارضيه، رغم استمرار لقاءاته بعدد من الوزراء والمسؤولين، إذ كانت اللقاءات مرفوقة بموسيقى خاصة بصفحة الرئاسة.

يوم 24 حزيران/ يونيو 2024، وهو ذكرى تأسيس الجيش الوطني، ألقى قيس سعيد كلمة، والملاحظ فيها:

أولا: أنها كانت كلمة مكتوبة، وقد اعتاد الارتجال أو الاستعانة بجذاذة لتذكّر بعض النقاط المسجلة عليها مما قد يكون حريصا على ذكرها.

ثانيا: أنه، على غير عادته، لم يتوجه بأي شتيمة أو تهديد أو اتهام لأطراف داخلية، وإنما كان الخطاب لتأكيد جاهزية القوى الحاملة للسلاح لحماية الوطن بما هو تراب وماء وسماء وثروات، وللتصدي لكل من يحاول "تمزيق" وحدتنا، وللتذكير ببطولات جيشنا منذ مراحل الاستقلال الأولى، وبعد 2011 في تأمين الامتحانات الوطنية والانتخابات، مع التذكير بمؤسسة "فداء" وواجبها تجاه شهداء وأبناء القوات الحاملة للسلاح، ودعوة الشعب إلى تحمل مسؤوليته تجاه جيشنا الوطني.

قيس سعيد دخل مرحلة "التعاقد" لا بمفهوم "العقد الاجتماعي" لروسو، وإنما بمعنى تحديد المهام والمسؤوليات في نص مكتوب يذهب مباشرة الى الأهداف العملية، بعيدا عن الأسلوب الإنشائي التقليدي الذي كثيرا ما أوقع صاحبه في أخطاء تواصلية أو في سوء فهم أو سوء تأويل
ثالثا: تأكيد الخطاب على السيادة الوطنية ورفض أي قواعد عسكرية على ترابنا الوطني، دون امتناع عن تعاون تقليدي مع دول أخرى ضمن مبدأ السيادة (ردّا على ما قيل من تواجد قوات روسية بالجنوب التونسي)، ورفض "التوطين" غير القانوني (تفاعلا مع انعاج عدد من المواطنين من تواجد كثيف لأفارقة بعدد من المدن التونسية).

ما يمكن أن يستنتجه أي مشتغل على اللغة/ الخطاب هو التالي:

- أن قيس سعيد دخل مرحلة "التعاقد" لا بمفهوم "العقد الاجتماعي" لروسو، وإنما بمعنى تحديد المهام والمسؤوليات في نص مكتوب يذهب مباشرة الى الأهداف العملية، بعيدا عن الأسلوب الإنشائي التقليدي الذي كثيرا ما أوقع صاحبه في أخطاء تواصلية أو في سوء فهم أو سوء تأويل.

- أن موضوع الرئاسة في عُهدتها القادمة قد حُسم وفق قاعدة "بقاء أو فناء"، وأن هذا الحسم ليس بعده تراجع، بل "انتصار" أو "استشهاد".

- أعتقد أن قيس سعيد، وبداية من تاريخ كلمته تلك بحضرة قادة الجيش، قد أعلن مرحلة "العبور"، وكان قد قال هذه الكلمة في خطاب شفوي سابق، وأن دورة ما بعد 2024 هي ضمن مسار 25 تموز/ يوليو مهما كانت احتجاجات المعارضة وضغوط الخارج.

3- عناد سعيد وتردد المعارضة

العقل السياسي لا يعبر عما يشتهي وإنما بعبر عما يرى وعما يقوله الواقع وتشهد به الوقائع، ولا يكفي مواجهة من "يفعل" ويصنع الأحداث ويفرض طبيعة المعركة بالسخرية والشتائم، فذاك سلاح الضعفاء لا يغير موازين قوى ولا يؤثر في مسار التاريخ، كما أن الاعتماد على المنظمات الحقوقية الأجنبية أو على الاتحاد الأوروبي وأمريكا، سيسمح لخصوم المعارضة باتهامها في مبدئيتها وفي وطنيتها، خاصة وقد انكشف بعد طوفان الأقصى زيف القيم الكونية لدى القوى الغربية؛ بما هي لوبيات وأنظمة حكم رغم معارضات شعبية واسعة خاصة في الجامعات.


المعارفي الوقت الذي تبدو فيه المعارضة مترددة وغير منسجمة، يتابع التونسيون نشاطا ميدانيا مكثفا يقوم به قيس سعيد، وقد يُفهم على أنها حملة انتخابية سابقة لأوانهاضة التونسية ما زالت في وضع تردد وحالة انقسام، خاصة وأن قيس سعيد يعتمد معها أسلوب "الغموض" من ناحية، ولا يكف من ناحية أخرى عن جرّ منافسيه إلى المحاكم لإرباكهم ولوضعهم تحت طائلة القانون الانتخابي الذي يمنع ترشح من هو في حالة تتبع قضائي.

وفي الوقت الذي تبدو فيه المعارضة مترددة وغير منسجمة، يتابع التونسيون نشاطا ميدانيا مكثفا يقوم به قيس سعيد، وقد يُفهم على أنها حملة انتخابية سابقة لأوانها، خاصة بعد اتخاذ قرار الترفيع على دفعتين بنسبة 14.5 في المائة في الأجور المضمونة في القطاع الخاص تشمل مجموعة من النشيطين والمتقاعدين.

وقد ورد في صفحة الرئاسة بعد لقاء جمع قيس سعيد بوزير الشؤون الاجتماعية يوم 27 حزيران/ يونيو ما يلي: "وتناول هذا اللقاء جملة من المحاور من بينها الترفيع بنسبة 7 في المائة في الأجور الدنيا المضمونة في القطاع الخاص بالنسبة للنشيطين وذلك انطلاقا من الشهر القادم مع أثر رجعي بداية من 1 أيار/ مايو 2024، وزيادة ثانية بنسبة 7.5 في المائة بداية من أول كانون الثاني/ يناير 2025، وهو ما سيترتب عليه آليا الترفيع في جرايات المتقاعدين في القطاع الخاص بأثر رجعي أيضا بداية من 1 أيار/ مايو 2024 وكذلك بداية من أول يناير 2025 والذي سيشمل حوالي مليون متقاعد".

ويُتوقعُ أن تُتخذ إجراءات أخرى تتعلق بالفئات الاجتماعية الضعيفة، وهو سيوفر خزانا انتخابيا لمترشح ليس له حزب ولا يؤمن بدور للأحزاب ولا للمنظمات والكيانات الوسيطة.

x.com/bahriarfaoui1

مقالات مشابهة

  • عبدالرحيم علي يكتب: روح يونيو.. ما أشبه الليلة بالبارحة
  • قيس سعيد من عُهدة الزعامة إلى عُهدة الرئاسة
  • صفوت دسوقي يكتب " شيرين وقعت في فخ أحمد زكي"
  • أحمد عز يتحدث عن الحب.. هل يستعد للزواج قريباً؟
  • لماذا كل هذا الرهان على مفاوضات مسقط الإنسانية الاقتصادية؟!
  • تداعيات خطيرة لإيواء وتشغيل المتسللين .. والشرطة تحذر
  • إشبيلية يعرض النصيري على أربعة أندية سعودية
  • عبد ربه يوسف غيشان / سعيد الصالحي
  • ثمن نهائي اليورو.. إيطاليا توقد نيران الثأر من سويسرا وألمانيا تواجه الدنمارك العنيدة
  • معالي عبدالسلام المرشدي يكتب عبر “أثير”: كان سيدًا بأخلاقه قبل نسبه