أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتربوية في مجلس الدولة

يأتي تناولنا لهذا الموضوع في ظل القناعة بما يشكله التعليم عالي الجودة من ركيزة أساسية لتنمية مستدامة قادرة على التفاعل مع معطيات الواقع المعاصر واستشراف مستقبله، وبناء منظومة الوعي في سلوك مجتمع التنمية وتعزيز اقتصادياته، وترسيخ مفاهيم إيجابية تنقل الفرد إلى مستويات عليا من الرقي الفكري والممارسة الناجحة والفهم المعمق لطبيعة الدور المطلوب منه تحقيقه، حتى أصبحت جودة التعليم مرتبطة بمستوى ما تحققه من أمن إنساني شامل وابتكارية في أدوات معالجة التحديات، من خلال ما يمنحه للفرد من فرص التمكين وفتح بدائل عديدة في تناول قضايا التنمية، تضمن قدرته على استيعاب اتجاهات التنمية وتعظيم الاستفادة من المميزات التي أوجدتها لبناء ذاته ومجتمعه، وما يمكن أن يقدمه التعليم من خلال مناهجه وأساليبه وأدواته في ترسيخ قناعة الإنسان بمفاهيم التنمية ومصطلحاتها وتعميق فهمه بمتطلباتها واتجاهاته نحوها لتصبح حياته قائمة على تعميق مفهوم الانتماء للتنمية وإضافة التجديد فيها بلغته وبما يعكس خصوصيته الوطنية ويستجيب لمحددات التطوير الذي رسمته له سياسات الدولة في ظل محددات رؤية عمان 2040 في محور “التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية” وعبر التوجه الإستراتيجي “تعليم شامل وتعلم مستدام، وبحث علمي يقود إلى مجتمع معرفي وقدرات وطنية منافسة” ومن خلال المستهدفات التعليمية التي تضعها الرؤية ترجمة لأهدافها الإستراتيجية السبعة في عمقها وشموليتها واتساعها ومرونتها وتكيفها مع معطيات الواقع الوطني والمستجدات  في الأبعاد التنموية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والتنموية والقيمية والأخلاقية والمهارية وسوق العمل والإبداع والابتكار والريادة وغيرها من المنظومات لصناعة المستقبل وإنتاج التحول في مسيرة البناء الوطني لتتناغم مع أبجديات الرؤية وغاياتها الطموحة وإستراتيجياتها المتفاعلة، والتي بدورها شكلت مدخلا مهما في فهم مقتضيات التحول المطلوبة في سلوك الإنسان العماني نحو التنمية، ويصبح التعليم بوابة الانطلاقة نحو المستقبل، والحلقة الأقوى في تحقيق هذه المسؤولية، لما يؤصله من روح الجدية والنشاط والتعلم الذاتي والقراءة، فتصبح الدافعية الناتجة عن التعليم مزيج من العطاء المعزز بروح العمل الجاد والإخلاص والمبادرة.

على أن الحديث عن التحديات التي تواجهها مسألة استدامة التنمية، يرجع في الغالب الأعم ليس إلى التشريعات والقوانين والخطط والإستراتيجيات التي يمكن أن تضبط بضابط الحوكمة وتعظيم حضورها في هذا المسار التنموي الهام، وهو أمر وضعت له رؤية عمان 2040 حضورا مهما وموقعًا إستراتيجيا في منظومة العمل الوطني وهيكلة الجهاز الإداري للدولة وعبر ترسيخ دور الرقابة والمتابعة والتقييم في صناعة الإنتاجية، بل إلى فجوة الفهم والقناعة المتولدة لدى مجتمع التنمية، وعدم كفاية تفسير وتقنين المفاهيم والمصطلحات التي ينتجها التعليم في تبرير سلوك التنمية وتحديد المسؤولية نحوها، وتوفير إجابات وافيه قادرة على صناعة تحول في ذات الفرد تؤطر توجهاته نحوالتنمية وقيمتها في حياته وإدراك امكانيات ومتطلبات تحقيقها،والجهود التي تبذلها مؤسسات الدولة في قطاعات التنمية المختلفة من أجل استقرار الإنسان العماني وسعادته، وما ينتج عن هذا الشعور من تقدير للمنجز التنموي الوطني وتعميق الاستفادة منه والمحافظة عليه، لذلك يأتي النقص الحاصل في طريقة بناء هذه القناعات والأساليب المتبعة في تحقيقها ومستوى واقعيتها؛ ليشكل بدوره تحدٍ يجب على التعليم أن يُعيد النظر في سياساته وبرامجه ومنهجيته في إدارة السلوك الإنساني ومنظومة القيم والمبادئ والأخلاقيات التي يعززها في سلوك الأجيال نحو التنمية. فإن المؤمل من التعليم أن يقدم نموذجا واقعيا في طريقة تعامله مع هذه المتطلبات بحيث يمتلك قوة الاستثمار في المشروعات النوعية وتوظيف الصلاحيات في بناء الأدوات المناسبة ومنهجيات الأداء القادرة على التأثير في سلوك مجتمع التنمية، من خلال احتواء الفكر الخلاّق والكفاءة المجيدة وتوطين الممارسات الأفضل، ويبني في المواطن آمالا بإيجابية الحياة ويضع إطاراً مرنا للشراكة الوالدية والمجتمعية يحدد خلالها طبيعة الممارسة المطلوبة لتثبت للتنمية وجودها وقوتها في ضمير المواطن وسلوكه، بما يغرسه فيهم من مسؤولية وإرادة ومنهجية عمل سليمة ومبادرات ويُعمّق فيه روح المهنية في الأداء والالتزام بالقوانين والأنظمة وترسيخ الحس الوطني في المنجز، لذلك فإن استحقاقات الثقة التي يمنحها المجتمع للتعليم ينبغي أن تبرز اليوم في النواتج النوعية التي يصنعها كنماذج عمل في مسيرة العمل الوطني تظهر في قدرة أبنائه على إدارة مشروعات التنمية وتكوين شراكات تنافسية لضمان موقع لهم في منتج التنمية.

ذلك أن تحقيق توازن اقتصادي واستدامة مالية  قائمة على   تعظيم الاستثمار في الرأسمال البشري، وإنتاج الفرص، وصناعة البدائل، وإنتاج الحلول، وبناء القدرات، وتمكين المهارات، وتقوية مناخات الابتكار وريادة الاعمال وتأكيد مسار التنويع الاقتصادي باعتباره مسارا إستراتيجيا في الأداء الحكومي الكفء وأساس عمل القطاع الخاص في سبيل تحسين الأداء  الاقتصادي ورفع المستوى الائتماني لسلطنة عمان، ينطلق من مفهوم أعمق للاستدامة، متجاوزا في ذلك كل الشكليات وعوامل الهدر والفاقد الناتج من الممارسة المتكررة، وبالتالي ما يعنيه ذلك من المزيد من العمل المبتكر، والجهد المنظم، والأداء النوعي،  والتوافقية والانسجام في بناء مشتركات عمل تضمن لهذه الجهود الوطنية النجاح وتحقق الإنتاجية، بما يعنيه إعادة النظر في قراءة دور التعليم في بناء أرضيات النجاح وتأسيس المورد البشر الكفء القادر على  الإسهام الفاعل في برامج التنمية والتطوير، ووضع معالجات جادة في التعامل مع كل المسارات التي باتت تستهلك التنمية، بالشكل الذي يضمن رفع مستوى التوقعات الناتجة عن التحولات القادمة في ظل الفرص الاقتصادية المتحققة في هذا الشأن، وخلق روح وطنية مخلصة تضمن المحافظة على كفاءتها الإنتاجية وضبط استهلاك هذه الموارد وفق أنظمة عمل واضحة وإستراتيجيات دقيقة؛ فإن وضوح سياسات التعليم وقدرته على توجيه بوصلة العمل الوطني ورسم ملامح التطوير للمستقبل والاستفادة من كل المحطات والفرص التي أتاحتها الحكومة في سبيل تعزيز كفاءة منظومتها الاقتصادية عبر فتح باب الاستثمارات الخارجية وتعزيز دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة مع الاستفادة من التقنيات الحديثة من شأنه أن يضمن انتقال أثر هذا الجهد التعليمي على برامج العمل الوطني وحشد الجهود القطاعية والمؤسسية نحوه.

وعليه تتأكد قيمة البعد الإستراتيجي التنموي للتعليم في إطار قدرته على استيعاب التحولات الثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لذلك لا يمكن فصله عن الواقع الوطني أو إقصائه من التحولات الحاصلة فيه، كما لا يصح أن يبقى دوره متلقيا مستهلكا للموارد، بل عليه أن يوطّن نفسه ويستثمر في الكفاءة والموارد التي يديرها بما يعزز من دوره ويصنع لنفسه موقعا في خريطة التنمية. فإن مؤسسات الدولة ذات العلاقة معنية بأن تستثمر الفرص المتاحة لها بالشكل الذي يضمن لنواتج التقييم والمراجعة التطبيق على أرض الواقع، في ظل إستراتيجيات عمل واضحة تؤصل لثقافة التنمية من خلال تعزيز مناخات الابتكار وبناء قدرات المتعلمين وتعزيز البحوث الإستراتيجية التجريبية وبناء مداخل أوسع لصناعة البدائل بالمؤسسات بشكل يضعها في مستوى عال من الجاهزية في التعامل مع المتغيرات وضبط الممارسة التعليمية وتوجيهها لصالح تكوين نماذج عمل مصغرة للتنمية تنطلق من مؤسسات التعليم وتحط رحالها في المصانع والشركات وبيئات الأعمال ومواقع الإنتاج المختلفة.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: العمل الوطنی فی سلوک من خلال

إقرأ أيضاً:

بدءُ برنامج بناء القدرات الوطنية حول عمليات الإطار الوطني للمؤهلات لعام 2025

العُمانية/أعلنت الهيئة العُمانية للاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم عن بدء برنامج بناء قدرات المراجعين الخارجيين في عمليات الإطار الوطني للمؤهلات لعام 2025م الذي يتكون من سلسلة من البرامج التدريبية التي تقدمها الهيئة للإطار الوطني للمؤهلات سنويًّا.

وقد بلغ عدد المتدربين في هذا البرنامج 19 متدربًا، وأكثر من 13 مؤسسة تعليميّة، وتعتزم المديرية العامة للإطار الوطني للمؤهلات تدريب ما يقارب 100 مراجع خارجي بنهاية يونيو من العام الجاري.

تجدر الإشارة إلى أن المديرية العامة للإطار الوطني للمؤهلات بالهيئة، تُولي اهتمامًا كبيرًا بتمكين الكفاءات الوطنية، ورفع مستوى الوعي في الإطار الوطني للمؤهّلات، وذلك بتقديم الدعم، والتوجيه، وعقد حلقات عمل لبناء القدرات حول الإطار للجهات المانحة للمؤهلات.

مقالات مشابهة

  • أبرزها إطلاق «السياسة الوطنية للابتكار المستدام».. إنجازات وزارة التعليم العالي في أسبوع
  • غدًا.. «الدولي للتنمية المستدامة» يُطلق مؤتمر «شباب مستدام» للتأهيل لسوق العمل
  • برلماني: دعم ريادة الأعمال جزء من الاستراتيجية الوطنية لتحقيق التنمية المستدامة
  • التعليم العالي: دمج المياه العذبة في الاقتصاد الأزرق ودعم التنمية المستدامة
  • عضو «مجلس الأمناء»: التحالف الوطني نموذج للتكامل.. ودوره حيوي لتعزيز التضامن المجتمعي (ملف خاص)
  • التعليم العالي: صندوق رعاية المبتكرين يدعم المشروعات التي تحقق التنمية المستدامة
  • «الكيلاني» تؤكد أهمية دعم القطاع الخاص خلال منتدى «شركاء التنمية»
  • بدءُ برنامج بناء القدرات الوطنية حول عمليات الإطار الوطني للمؤهلات لعام 2025
  • محافظ الغربية: التعليم التكنولوجي قاطرة التنمية وركيزة أساسية في دعم الاقتصاد
  • محافظ الغربية: التعليم التكنولوجي والفني قاطرة التنمية