الولايات المتّحدة.. أمّة في تراجع!
تاريخ النشر: 2nd, October 2023 GMT
الولايات المتّحدة.. أمّة في تراجع!
هناك شبه إجماع على انّ الثروة كانت قد بدأت تنتقل من الغرب الى الشرق بشكل سريع لاسيما خلال العقد الأخير.
هناك شعور متنامي بأن النفوذ العالمي الذي كانت تتمتع به أمريكا بلا منازع أصبح مهدداً بالفعل من قبل الصين وآخرين.
ديون أمريكا الهائلة، وعجزها التجاري، بالإضافة إلى تراجعها العالمي كلّها عناصر تؤجّج النقاشات حول مستقبلها الاقتصادي.
تبيّن بأن التواجد العسكري الأمريكي المكثّف بمنطقة من المناطق ليس ضمانة بحدّ ذاته كما اتّضح بشكل جلي في الخليج العربي والشرق الأوسط.
حقيقة أنّ رئيسا يتجاوز 80 عاماً يحكم ما يفترض بها أنّها أقوى دولة في العالم علاوة على ترشّحه لدورة ثانية يشير إلى الخواء السياسي لا إلى التجديد في القيادة.
"لا تزال أمريكا القوّة العظمى الوحيدة في العالم، وتمتلك ما يخوّلها تجديد نفسها لمواصلة الصدارة عالمياً"، لكنّ المؤشرات الواقعيّة الحالية تخالف هذه السرديّة.
ثبت أنّ التفوّق العسكري لا يجلب بالضرورة النصر السياسي أو العسكري في بعض المواقف، وأنّ القدرات العسكرية مجرّد أوراق من أوراق مختلفة يجب أن تكون متكاملة.
* * *
خلال العقدين الماضيين، دارت نقاشات في الأوساط السياسية والأكاديمية حول ما إذا كانت قوّة وهيمنة ومركزية الولايات المتّحدة في العالم تتراجع أم لا.
ورغم أنّ سردية القائلين بأنّ الولايات المتّحدة ليست في حالة تراجع عالمياً طغت خلال المرحلة الأولى ـ مصحوبة بتفسير مفاده أنّه حتى لو كانت قوّة الولايات المتّحدة في تراجع، فهي لا تزال القوّة العظمى الوحيدة في العالم، ولا تزال تمتلك ما يخوّلها تجديد نفسها لمواصلة الصدارة عالمياً ـ، إلا أنّ كل المؤشرات الواقعيّة الحالية تخالف هذه السرديّة.
من الناحية الاقتصادية، فإن المشهد يتغيّر بشكل سريع من دون شك. ولا يتعلق الامر فقط بالولايات المتّحدة، فهناك شبه إجماع على انّ الثروة كانت قد بدأت تنتقل من الغرب الى الشرق بشكل سريع لاسيما خلال العقد الأخير.
ويرتبط هذا المنحى بشكل أساسي بصعود الصين السريع وتراجع الولايات المتّحدة، الأمر الذي أدّى الى تجاوز الاقتصاد الصيني لنظيره الأمريكي رغم إنكار البعض لهذا الادعاء وتركيزهم على الترويج لتراجع الاقتصاد الصيني.
كذلك، تظهر أسماء صاعدة وواعدة على المستوى الاقتصادي من بينها الهند والبرازيل، وهذا مؤشر إضافي على أن التوازن الاقتصادي العالمي آخذ في التحول، وإذا ما استمر الإتجاه الحالي على وضعه مستقبلاً، فسيكون هناك تغيير بالتأكيد.
الولايات المتّحدة تعاني من عجز شديد في التجارة كما أنّ دولة لا تمتلك المال وديونها هائلة وربما الأكبر على مر العصور، وكل ما هو قائم حالياً فيها اقتصادياً ومالياً إنما يستند إلى موقعها ودورها الدولي وإلى استخدام عملتها النقدية الدولار عل نطاق واسع في العالم.
ديونها الهائلة، وعجزها التجاري، بالإضافة إلى تراجعها العالمي كلّها عناصر تؤجّج النقاشات حول مستقبلها الاقتصادي.
وعلى الجبهة السياسية، تبدو الانقسامات في المجتمع الأمريكي اليوم واضحة وعميقة على الرغم من انحصارها ظاهرياً بحزبين فقط الجمهوري والديمقراطي ومحاولات السيطرة عليها. وتبدو الهوة بين الأيديولوجيات المختلفة أوسع من أي وقت مضى، الأمر الذي يؤدي إلى انعدام الثقة المتزايد والمثير للقلق في المؤسسات الحكومية على الصعيد الداخلي ومصداقية هذه المؤسسات على الصعيد الدولي.
ويبدو أن المشاركة المدنية، وهي حجر الزاوية في الديمقراطية، آخذة في التراجع بالتوازي مع قضايا أخرى تتعلق بتزايد الاتجاه العنصري في المجتمع، والجدل الدائم حول نتائج الانتخابات منذ عهد بوش الإبن على الأقل وحتى اليوم تساهم في تعميق المشكلة.
أحداث مثل الانتخابات الرئاسية المثيرة للانقسام عام 2020 وما تبعها من اقتحام لمبنى الكابيتول لم تصدم الأمريكيين فحسب، بل العالم، مما أثار تساؤلات حول استقرار الأسس الديمقراطية في أمريكا.
وحقيقة أنّ هناك رئيس يتجاوز عمره 80 عاماً يحكم ما يفترض بها أنّها أقوى دولة في العالم علاوة على ترشّحه لدورة ثانية يشير إلى الخواء السياسي لا إلى التجديد في القيادة.
إذا ما أخذنا ذلك بعين الإعتبار نستطيع أن نفهم لماذا تحارب المؤسسات الأمريكية إمكانية عودة أو صعود ترامب إلى الحكم وتحاول تقويض فرصه في الترشّح بأي وسيلة ممكنة، بغض النظر عن الموقف منه كشخص.
التحديات الاجتماعية في الولايات المتّحدة ليست بأقل خطورة هي الأخرى، فالتفاوتات الصارخة في الثروة، والتوترات العنصرية العميقة الجذور، وشبح العنف المسلح الذي يطارد الأمريكيين والمجازر التي ترتكب باستخدام الأسلحة في المدارس والمجمّعات التجارية والأماكن العامة بشكل دوري ترسم صورة لأمة تتصارع مع ذاتها. ومن الصعب لامّة بهذا الشكل أن تستمر في تصدّر قيادة العالم على المدى البعيد.
ومن الناحية العسكرية، وهي الناحية الوحيدة التي لا تزال تدعم إتجاه المتمسكين بمقولة أنّ الولايات المتّحدة ليست في حالة تراجع، فعلى الرغم من أنّ هيمنة الولايات المتحدة ما زالت بلا منازع إلى حد كبير، إلا أن الوضع آخذ هو الآخر في التحوّل وإن بشكل أبطء من الوضع الإقتصادي.
التكاليف الفلكية المرتبطة بالحفاظ على مثل هذه القوة العسكرية، جنباً إلى جنب مع التقدم التكنولوجي السريع من قبل الخصوم، تثير مخاوف مشروعة بشأن مستقبل التفوق العسكري الأمريكي.
وقد بدأت الولايات المتّحدة منذ عقدين بإعادة توزيع انتشارها العالمي وتقليص تواجدها في الكثير من الأماكن حول العالم. علاوة على ذلك، فقد تبيّن بأن التواجد العسكري الأمريكي المكثّف في منطقة من المناطق ليس ضمانة بحدّ ذاته كما اتّضح بشكل جلي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
كما ثبت بأنّ التفوّق العسكري لا يجلب بالضرورة النصر السياسي أو حتى العسكري في بعض المواقف، وأنّ القدرات العسكرية هي مجرّد أوراق من أوراق مختلفة يجب أن تكون متكاملة.
الولايات المتّحدة تخضع للمزاحمة في بعض القضايا العسكري لا بل انّ خصومها يتقدّمون عليها في بعض الجزئيات مثل الصواريخ فائقة السرعة، وأسلحة الليزر المضادة للأقمار الاصطناعية وتقنية الجيل الخامس وغيرها من البرامج.
ومؤخراً، يمكن ملاحظة أنّ موازنة الصين العسكرية في ازدياد، كما أقرّ تقرير للبنتاغون بأنّ الصين أصبحت تمتلك أكبر بحرية في العالم وانتزعت المرتبة الأولى من الولايات المتّحدة ليس في هذا المجال فحسب وإنما في مجال صناعة السفن البحرية، وهو مؤشر مهم على استعداد الصين لتوسيع نفوذها بحراً بما يتماشى مع زيادة نفوذها الاقتصادي عالميا.
وعلى المستوى الدولي، سواءً أدركت الولايات المتّحدة ذلك أم لم تدرك، تتغيّر السردية القائمة ويبحث العديد من حلفاء الولايات المتّحدة عن تنويع تحالفاتهم بدلاً من الإعتماد الحصري على واشنطن.
وهو مؤشر على إدراكهم بأنّ هناك تغييراً يحصل بالفعل. هناك شعور متنامي بأن النفوذ العالمي الذي كانت تتمتع به أمريكا بلا منازع أصبح مهدداً بالفعل من قبل الصين وآخرين.
إلى أي مدى سيكون باستطاعة واشنطن تغيير هذه الحقائق، أو إلى أي مدى سيتغيّر الوضع لصالح أمريكا من خلال أخطاء يرتكبها خصومها أو من خلال تعثّر صعودهم الاقتصادي، يبقى أمراً غير معروف، لكن المراهنة عليه لتبرير سردية أن لا تراجع أمريكي على المستوى الدولي سيكون بمثابة مقامرة في جميع الأحوال.
*د. علي باكير أستاذ باحث بمركز ابن خلدون، جامعة قطر
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أمريكا سياسات الدولار الصين الاقتصاد ديون القوة العظمى الولايات المتحدة الولایات المت حدة فی العالم لا تزال فی بعض
إقرأ أيضاً:
الاحتلال دمر 70% من مباني مخيم جباليا بشكل كامل بعد اجتياحه للمرة الثالثة
دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو 70 بالمئة من المنازل والمباني في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، هو ما حوله إلى "مدينة الأشباح"، بعد أن كان "أحد أكثر الأماكن ازدحاما في العالم" قبل بدء حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية.
وقال محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل، إن هذا التدمير جاء خلال عمليته العسكرية التي بدأت هناك في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بخلاف العمليتين السابقتين خلال الحرب المستمرة منذ 443.
وكانت المرة الأولى التي يجتاح فيها جيش الاحتلال مخيم جباليا في كانون الأول/ ديسمبر 2023، والثانية في أيار/ مايو 2024.
وأضاف هرئيل: "خلال زيارة قصيرة للمخيم، كان من الممكن رؤية أنه حتى في المباني القليلة المتبقية، لحقت بها أضرار ملحوظة".
وأكد أنه من الصعب مقارنة مواقع حزب الله "العملاقة" التي فجرها جيش الاحتلال في قرى جنوب لبنان، ومحور فيلادلفيا الموسع في رفح جنوب قطاع غزة، بما حدث خلال الشهرين ونصف الشهر الماضيين في مخيم جباليا، "من حيث شدة ونطاق الدمار".
وشبه هرئيل جباليا بـ"مدينة أشباح"، قائلا: "في الخارج يمكنك رؤية مجموعات من الكلاب تتجول بحثًا عن بقايا الطعام".
وتدير الفرقة 162 مدرعات أربعة ألوية قتالية في جباليا وفي مدينتي بيت حانون وبيت لاهيا (شمال) المجاورتين، وفق "هآرتس".
وبحسب هرئيل، يتولى عز الدين حداد، قائد الجناح العسكري لحركة حماس في شمال قطاع غزة، تنسيق جهود مواجهة جيش الاحتلال في المخيم.
وقال إن حماس تخوض معاركها هناك عبر مجموعات صغيرة مكونة من أربعة أو خمسة أفراد مسلحين بأسلحة خفيفة وصواريخ آر بي جي ومتفجرات وعبوات ناسفة.
ومنذ بدء الاجتياح الأخير في أكتوبر الماضي، قُتل 35 جنديًا من جيش الاحتلال في القتال داخل المخيم وحوله وجُرح المئات منهم، وفق هرئيل.
وبحسب محلل "هآرتس"، فبعد أن تكبدت القوات الإسرائيلية عددا كبيرا نسبيا من القتلى والجرحى، خاصة عند دخول المنازل المفخخة، تم اعتماد طريقة مختلفة للعملية، وهي اعتماد حركة "أبطأ وأكثر حذرا مما يترك دمارا هائلا، لكنه يقلل من عدد القتلى في صفوفه".
وأشار إلى أن ما يحدث في مخيم جباليا، يأتي على خلفية "خطة الجنرالات"، والتي تهدف إلى إخراج جميع السكان المدنيين الفلسطينيين من شمال القطاع وجنوبه حتى محور نتساريم في مدينة غزة.
و"خطة الجنرالات" هي خطة اقترحها مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي اللواء احتياط "غيورا أيلاند"، ودعمها العشرات من كبار الضباط الحاليين والسابقين بالجيش، وتهدف إلى سيطرة "إسرائيل" على توزيع المساعدات الإنسانية من خلال فرض حصار على شمال قطاع غزة وتهجير سكانه، وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت".
ووفق الخطة، فإن كامل المنطقة الواقعة شمال ممر نتساريم (وهي محل إقامه جيش الاحتلال وسط قطاع غزة لفصل شماله عن جنوبه)، أي مدينة غزة وجميع أحيائها، ستصبح منطقة عسكرية مغلقة.
وبعبارة أخرى، فإن جميع السكان في المنطقة، والذين يقدر الجيش عددهم بنحو 300 ألف شخص، سيضطرون إلى المغادرة فورا عبر ممرات يزعم الجيش أنها "آمنة"، وفق ذات المصدر.
ولا يثق الفلسطينيون في ما تعتبره "إسرائيل" ممرات أو مناطق آمنة؛ إذ سبق أن نزحوا قسرا إلى مناطق صنفتها آمنة، ثم تعرضوا بشكل مستمر لقصف إسرائيلي أسفر عن شهداء وجرحى ودمار هائل.
وفي 5 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اجتاح جيش الاحتلال مجددا شمال قطاع غزة، بذريعة "منع حركة حماس من استعادة قوتها في المنطقة"، بينما يقول الفلسطينيون إن تل أبيب ترغب في احتلال المنطقة وتحويلها إلى منطقة عازلة بعد تهجيرهم.
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إبادة جماعية في غزة خلّفت قرابة 153 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين.