تعاطفٌ غيرُ محمود..التسوّل بالأطفال والرأفة
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
نؤخذ بالرحمة والرأفة في حياتنا وواقعنا المعاش فتسيّرنا العاطفة إلى ما قد لا ندرك من أبعاد ومحاذير أبعد من أن تكون نتيجة واقعية للرحمة ومآلا طبيعيا للرأفة، ومن هذا اليقين الثابت صارت مشاعر الناس الإيجابية في تعاطفهم وتآزرهم مادة للاستغلال من قبل بعض المتسلقين والمتنفعين، حتى من آلام الناس وظروفهم وتحديات حياتهم اليومية؛ يتساوى في ذلك كبار الساسة والإقطاعيين جشعا وطمعا مع أولئك الذين يبيحون لأنفسهم تسليع المشاعر وتسويق العاطفة وانتهاك الخصوصية في سبيل جمع المال وتكديسه، وحينها لا يجد هؤلاء مادة لاستثارة تعاطف الناس أفضل من النساء والأطفال، وقد يسير بنا ذلك المسار إلى تعطيل العاطفة وانعدام التعاطف وهو ما لا ينبغي وصوله لأي مجتمع متكاتف متكامل بشعور جميع أفراده بالمسؤولية المجتمعية والتعاطف الإنساني.
موضوع مقالة اليوم عن ظاهرة خطيرة انتشرت عالميا تماشيا مع تردي الأوضاع الاقتصادية العامة وتأثر حياة الناس بالفقر والحاجة؛ هذه الظاهرة هي استغلال الأطفال في التسوّل، وكلنا ندرك ما لها من آثار وما عليها من محاذير، وتراكمات وترسبات ذاكرة الطفل من عميق أذى وعظيم حزن وأسى، لا يمكن إنكار تفشي هذه الظاهرة في كل مكان، وما يخشى فعلا أن يصبح منظر طفل يتسول الناس منظرا عاديا مألوفا.
أذكر قبل ما يزيد عن عقد من الزمن حين كانت تمر امرأة تتسول البيوت، أو تقف تحت شمس حارقة مع طفل أو طفلة أو حتى رضّع أحيانا، لأتفكر حينها كثيرا وعميقا في هذا الطفل، في شعوره وهو يمد يده للعابرين ناقلا ما لُقّن إياه من جمل يكررها مُكْرَها لاستدرار عاطفة المارة، أفكر في ما قد يُبنى في ذاكرته وهو في عمر تأسيس الذاكرة، أفكر في انكفائه حين يتعرض للنهر أو التوبيخ، أو حتى حين يتعرض للتنمر أو التحرش، وهل يشعر بالفرح حقا حين يفوز ببعض النقود في راحة يديه أم يشعر بالحسرة ؟!، أفكر في ما يمكن لمساعدة هذا الطفل والأخذ بيديه لإنقاذه من هذا المأزق الأسري والانكفاء المجتمعي، كيف يمكن لهذا الطفل تجاوز كل ذلك لتعزيز ثقته في نفسه وفي إمكاناته وقد سُيّر من أقرب وأحب الناس إليه -أبا كان أو أما- لتعليمه مهارة مد يديه للعابرين مستعطفا إياهم للحصول على بعض المال بدلا من مهارات أخرى ترقى بتفكيره وتنهض بهممه، ولن يعادل هذا المال مهما عظم إراقة ماء وجهه ثم كسر طفولته وكبريائه في لحظة استغلال عاطفي إما جبرا لفاقة وعوزا حقيقيين(حتى معهما لا يمكن قبول ذلك) أو استغلالا لتوفير المال لما لا يمكن تخيله من انحراف سلوكي لأحد الوالدين أو لكليهما.
فكيف يمكن تخيل تعاطفك أنت أيها العابر -الذي قد يترك أثره في نفسك وقد يمر مرور الكرام- وهو سلاح فتّاك ملبس؛ إذ يتراءى لك سبيلا لنجاة هذا الطفل وما هو إلا الهلاك متمثلا في تعاطف يقضي على ما تبقى من طفولة تستعطف المجتمع أكثر مما تفعل تلك الأنامل الصغيرة المتسولة رغما عنها؟! كيف بك وأنت تسهم عن جهل بتدمير ذاكرة كاملة لطفل مكلوم في شعوره بالأمان الأسري وأمانه المجتمعي ورغبته الأكيدة في أن يعيش طفولة طبيعية كاملة وعمرا صحيا مليئا بالمتاح من اللعب والأحلام والفرح؟!
ثم ماذا؟ ما الممكن الذي نستطيعه لتحجيم هذه الظاهرة والقضاء عليها؟ بدايةُ الحل تكمن في تفعيل الوعي في ألا تؤخذ بمجرد الكلام المعاد والقصص المكررة، محاولة التثبت مما يقدم من معلومات أغلبها مغلوطة، ولا يخفى في أن الظاهرة اتسعت مع استغلالها من قبل عصابات منظمة تعمل على استغلال وتسيير الأطفال والنسوة في التسول مقابل نسبة ضئيلة تمنحها لهم، ومنهم من يُرغَم على ذلك تحت سلطة الأبوية المطلقة، فإما الانصياع والقبول وإما فقد مأواك السكني مع فقد كل مأوى عاطفي أو اجتماعي.
وبعد محاولة التثبت تأتي خطوة التبليغ الفاعلة في كشف العصابات والمستغلين ومعاقبتهم قدر الإمكان، فإن كان الطفل (مادة الاستغلال) غير قادر على ذلك، فلا بد أنك تستطيعه بوعي وإدراك كاملين لا يمكن معهما أن تقع مادة للاستغلال من جهة، ومادة لهدم الطفولة من جهة أخرى مع نيتك الأكيدة للإحسان وصنع المعروف.
وأخيرا، لا بد من تشريعات مجرّمة رادعة لفعل التسول واستغلال الأطفال، إذ صار الأمر أوضح من أن يخفى، وأصعب من أن يُسكت عنه، وصار معروفا أن هنالك تأشيرات سياحية تُوظّف لمثل هذه الأعمال المؤثرة على الأطفال في العالم ولا بد من مجابهتها والتصدي لها في كل مكان، فلا يختلف الطفل وفقا لجنسيته أو لونه ولا يمكن اعتبارها ظاهرة مألوفة أيا كانت مرجعياتها الجغرافية والاجتماعية، كما ينبغي قبل كل ذلك وأثناءه وبعده تأمين الواقع الآمن للأطفال وأسرهم؛ واقعا يقيهم شرّ التسول ومغبة الاستغلال، وحسرة السؤال، أطفال اليوم رجال الغد ولا بد من تكاتف جاد شامل لحمياتهم والذود عن طفولتهم المؤسسة لكل طموحهم وآمالهم المستقبلية في غد أفضل ووطن أجمل.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الطفل لا یمکن
إقرأ أيضاً:
أدباء وباحثون: أدب الطفل يبني الهوية ويزرع القيم الإنسانية في الأجيال
أكد عدد من الكتّاب والباحثين في أدب الطفل أن القراءة وأدب الطفل يشكلان أدوات أساسية لبناء شخصية الطفل وتعزيز هويته الثقافية، مشيرين إلى أهمية غرس القيم العربية والإنسانية في سن مبكرة، وإلى دور الأدب في معالجة القضايا الاجتماعية بطريقة تناسب وعي الأطفال، وتشجعهم على التفكير النقدي والانفتاح على التنوع. وشددوا على أهمية تمثيل مختلف الخلفيات والثقافات في كتب الأطفال لتعزيز الشعور بالانتماء والاحترام المتبادل، مؤكدين أن الأدب يسهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً، ويُعد وسيلة فعّالة لتجاوز الاختلافات الثقافية وتعزيز القيم المشتركة مثل الصداقة والتسامح.
جاء ذلك خلال ندوة حوارية بعنوان "قصص توحدنا"، نظمتها هيئة الشارقة للكتاب ضمن البرنامج الثقافي لمهرجان الشارقة القرائي للطفل 2025، وتحدث فيها كل من: الكاتبة الإماراتية بدرية الشامسي، وروندا روماني، مؤلفة وصحفية أمريكية من أصل سوري، والكاتب المغربي الحسن بنمونة، والباحث والأكاديمي التونسي الدكتور نزار القمري، وأدارتها الإعلامية عائشة المازمي، من إذاعة بلس 95 في الشارقة.
خصوصيات ثقافية
بدرية الشامسي، تحدثت عن اختفاء الفروق بين الفئات العمرية في تلقي المعرفة، تماماً كذوبان الحدود الثقافية العالمية في ظل وفرة المعرفة وسرعتها، مؤكدة أهمية توعية الطفل في سن مبكرة لتكون عنده حصانة ثقافية ومعرفية، وتعزيز القيم العربية لأن شخصية الطفل تبنى خلال السنوات الخمس الأولى، مشيرة إلى أهمية الأدب في معالجة كل هذه القضايا الاجتماعية والثقافية، حيث يمكن لأدب الطفل أن يكون أداة قوية لمناقشة القضايا الهامة بطريقة مناسبة للأطفال، مما يشجعهم على التفكير النقدي وتطوير وعي اجتماعي، إضافة إلى تأثير القصص على الهوية والانتماء وتعزيز التراث المحلي أو من ثقافات أخرى.
زرع الأمل
بدورها، تحدثت روندا روماني عن كتاباتها وحضور الهوية وقضايا الحرب والسلام، ومحاولتها زرع الأمل من خلال هذه الكتابات في نفوس الأطفال، كما أشارت إلى أهمية تمثيل التنوع والشمولية في أدب الطفل، وضرورة وجود شخصيات وقصص متنوعة تمثل مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية والقدرات في كتب الأطفال، ما يساعدهم في الشعور بالانتماء والتقدير لذواتهم وللآخرين، مبينة أن أدب الطفل يلعب دوراً رئيساً في الوحدة والتنوع وبناء جيل أكثر انفتاحاً وتقبلاً للآخر. كما تحدثت عن تجربتها الشخصية مع القصص وكيف تؤثر الكتب في حياة الأطفال ونظرتهم للعالم، وكيف يمكن لهم أن يترجموا هذه التجارب في أعمالهم وحياتهم.
مشتركات إنسانية
أما الحسن بنمونة فأصَّل لمفهوم الاختلافات الثقافية، خاصة بين الشرق والغرب، مؤكداً ضرورة التركيز على المشتركات الإنسانية التي يقدم الأدب، حيث تتكرر الموضوعات المشتركة منذ فجر التاريخ، مثل الصداقة، والتعاون، والرحمة، والتسامح، والعدالة، ويعيد الكتّاب كتابتها بطرق مختلفة وجديدة، لذلك عليهم إعادة إنتاج هذه القيم التي تمثل البعد الإنساني للأدب والقوة الحقيقية للقصص بأساليب جديدة، وتمكين الأطفال من معرفة اللغة وتذوق الأدب، لافتاً إلى أن مهمة الكاتب ليست بناء المجتمع فقط، بقدرما هي صناعة الأدب وتكييف كل الموضوعات لجعلها متلائمة مع البيئة الثقافية وبناء مجتمعات أكثر تماسكاً ووحدة، إضافة إلى استكشاف قوة القصص في جمع الناس وتجاوز الاختلافات.
أدوار علمية
من ناحيته، قال الدكتور نزار القمري: "تلعب القراءة دورًا علميًا مهمًا لا يمكن تجاهله؛ فالقصة يمكن قراءتها في أي زمان ومكان، وتُسهم في تنمية اللغة وتوسيع الخيال. كما أن تأثير القراءة على الطفل كبير، فهي تحفزه على التفكير وتساعده على تكوين صور ذهنية تعزز قدراته الإدراكية". كما أشار إلى دور القصص في بناء الجسور الثقافية وتعريف الأطفال بثقافات وعادات وتقاليد مختلفة، مما يعزز التفاهم والاحترام المتبادل بينهم وبين أقرانهم من خلفيات متنوعة، وكسر الصور النمطية وتعزيز التعاطف مع الآخر.
وتندرج هذه الجلسة ضمن ندوات مهرجان الشارقة القرائي للطفل، والذي يضم إضافة للجلسات مجموعة واسعة من الإصدارات الجديدة المخصصة للأطفال واليافعين إلى جانب برنامج حافل بالفعاليات التفاعلية والعروض والأنشطة التثقيفية والترفيهية التي تستمر على مدار 12 يوماً.