الفضاءات الاجتماعية.. ومذهب النفعية
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
أوجدت الفضاءات المختلفة (الفضاءات الدينية؛ الفضاءات السياسية؛ الفضاءات الاجتماعية؛ الفضاءات الاقتصادية؛ الفضاءات الثقافية) المساحة الواسعة للناس لأن يحجزوا لأنفسهم مكانة ما، وهذه المساحات ولو كانت صغيرة أو ضيقة؛ في بعض التجارب أو الحالات الإنسانية؛ إلا أنها أوجدت شعورا لهؤلاء الناس، بأن لهم قيمة، وجمال هذه القيمة أنها من صنعهم، وليست هبات من آخرين «لكل مجتهد نصيب» ولذلك تظل هذه الفضاءات معبرة عن قدرة الإنسان لأن يجد لنفسه مساحة آمنة يعبر من خلالها عن قدراته، ويحقق طموحاته، وآماله، وقد تقيم هذه الصورة على أنها جزء مهم من (مساحة التفاعل القائمة بين الأفراد في المجتمع الواحد) هذا الاتساع الشامل لحركة الأفراد في أي مجتمع من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من المكاسب الاجتماعية، وإن تخللت هذه المكاسب المنافع الشخصية، وهذا أمر وارد، فهي في النهاية تظل مكسبا عاما يحقق الكثير من الرضا على مستوى المجموعات والروابط الاجتماعية المختلفة، وإن وصل تضارب المصالح بين أفراد هذه المجموعات أو الروابط إلى الصدام في بعض المواقف، ففي نهاية الأمر تظل صورة المجتمع باهية، لأن أفراده لهم القدرة على الاختلاف والتوافق، بما يعزز قدرتهم على الإنجاز لصالح المجتمع ككل، مع إدراكهم أن مجموعة الاختلافات هي بمثابة ملح للطعام، لا يستعذب مضغه إلا بوجوده بقدر يحقق التوازن؛ حيث «لا ضرر ولا ضرار».
تتمثل الفضاءات الاجتماعية في مجموعة من المناخات التي تمكن الفرد لأن يبرز فيها ذاته، وتتبلور شخصيته، ويكون فيها مؤثرا انعكاسا لشخصيته، ومواهبه، وما يتميز به من قدرات تميزه أكثر عن غيره، وتنقسم الفضاءات الاجتماعية إلى فضاءات هي موجودة بحكم متطلبات الواقع - وهي كل ما يمثل علاقة مباشرة بالآخرين في مختلف المناخات الاجتماعية الدائمة؛ على مستوى القرية/ المدينة) وأخرى يستحدثها الإنسان لاحتياجاته المستجدة على واقع حياته اليومية - كعلاقات المصالح المختلفة المؤقتة؛ على مستوى الداخل/ الخارج) وفي مجمل هذه الفضاءات كلها تبقى هناك هوية جامعة؛ تميزها عن غيرها من الفضاءات في أماكن أخرى؛ حيث تفرض الخصوصية الاجتماعية، أو الجغرافية ثقلها كموجه في التفاعلات بين الأفراد بعضهم مع بعض، كما أن هذه الفضاءات ليست جامدة، بل هي حيوية، ونشطة، انعكاسا لنشاط الأفراد وحيويتهم، وقدرتهم على التفاعل اليومي مع واقعهم، حيث لا توجد فضاءات جامدة، لا تقدم شيئا لواقعها، ولا تستقطب من واقعها شيئا يعزز وجودها، واستمرارها، ومعنى هذا أن أي مكون جغرافي يحتوي على مجموعة من الفضاءات الاجتماعية، على اعتبار أن أي مكوّن جغرافي لا يخلو من مجموعة من الساكنين، يتفاعلون فيما بينهم، ويتبادلون المصالح والمغانم، كما يتقاسمون مجموعة الإخفاقات التي تحدث بينهم، نتيجة تعديات؛ هي حاصلة؛ بحكم تضارب المصالح بينهم، فهؤلاء الأفراد في الآخر تحكمهم مصالح، وتسيرهم أهواء ومشاعر، وتنظم حيواتهم مجموعة من الأعراف والقوانين، والاتفاقات الثنائية التي تجمعهم على تسيير حياتهم اليومية، ولا بد عند النظر أو الحديث عن مختلف الفضاءات الاجتماعية أن تراعى مسألة خصوصية المجتمعات (المدن؛ صغيرها وكبيرها) والبادية، والأرياف بما في ذلك القرى؛ وسكان السواحل، حيث تعكس حياة الناس في مختلف هذا التنوع أسلوب حياتهم؛ بناء على الفضاءات المتاحة في كل نوع من أنواع الحياة في هذه الأماكن، فالفضاءات المتاحة في الريف؛ غيرها في المدن، وغيرها في المدن الساحلية، وإن حملت نفس المسميات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فمصادر الدخل في المدينة؛ غيرها في القرى والأرياف، وكذلك فضاءات المعرفة، والثقافة، والممارسات التقليدية المختلفة، والتي تنشأ أصلا انعكاسا لواقع الحال وفق ضروريات المكان.
تتيح الفضاءات الاجتماعية مجموعة من الروابط بين الأفراد، فسوق القرية الصغير؛ الذي يتناسب وحجم حاجيات الأفراد في القرية يشكل فضاء مهما يمكن أن يوجد مجموعة من الروابط التي تجمع أبناء القرية، ويقينا لن نحصي مجموعة المنافع المتبادلة عبر هذا المناخ/ الفضاء الاجتماعي التي تتم في اليوم الواحد، وفي الأسبوع وفي الشهر، هذا إذا استحضرنا المنافع في الجانب الاقتصادي، فما بالك بالمنافع الأخرى (الاجتماعية، الثقافية) والتي تتداخل بين جوانب العلاقات القائمة عبر هذا الفضاء المهم، الذي تتجه إليه الأنظار كل يوم، ربما قد يتضاءل تأثير هذا الفضاء مع تقدم الحياة الحديثة التي استجدت فيها مجموعة من المجمعات التجارية التي أصبحت تحتوي على كل ما يلزم الفرد من متطلباته اليومية، سواء من ناحية المأكولات، أو الأدوات العينية الأخرى التي يسيّر بها الناس حياتهم اليومية، ولكن مع ذلك لا يزال الأفراد في المجتمعات القروية يقيمون شأنا لهذه الأسواق التقليدية، ولو على شكل معارض أسبوعية يلتقي فيها أبناء المجتمع سواء على مستوى القرية الواحدة، أو على مستوى القرى المجاورة، كما هو الحال في الأسواق الأسبوعية؛ والتي أصبحت معروفة بمسمياتها، وبأماكن وجودها على امتداد الخريطة الجغرافية لسلطنة عمان، فعلى الرغم من عنوانها العريض (البيع والشراء) إلا أنها أصبحت ملتقى اجتماعيا يحسب له كثير من الأفراد الكثير من الحسابات الاجتماعية والاقتصادية وتبادل المنافع، كما هو الحال لمناسبات الهبطة التي تتزامن مع عيدي الفطر والأضحى، وكما هو الحال لمناسبات الفرح/ السرور، وكما هو الحال لمناسبات حصاد النخيل، وكما هو الحال للمناسبات الاجتماعية المختلفة التي تتوزع خريطتها طوال العام على مختلف التجمعات السكانية المختلفة.
من وجهة نظر عامة، لا يمكن فصل العلاقة القائمة بين الفضاءات الاجتماعية والنفعية، حيث كلاهما يدعم الآخر، وذلك أن مجمل العلاقات القائمة بين الأفراد في المجتمع الواحد قائمة على مذهب النفعية، وليس في ذلك أي عيب إطلاقا، لأن المجال الاجتماعي رحب، ويستوعب مجموعة التفاعلات القائمة بين أفراده، ووجود مذهب النفعية متداخلا في الفضاء الاجتماعي، لا يلغي مجموعة المبادرات الإنسانية التطوعية التي يتبادل من خلالها الأفراد كثيرا من المصالح المشتركة بينهم دون مقابل، وهذا الترابط بين الطرفين هو ما يعزز القوة الفاعلة والتأثير المنجز في واقع الناس، فالخلاصة أن الجميع يريد أن يعيش في أمن واطمئنان، والعائد المادي هو أحد محاور الأمن الاجتماعي، وأعمدته المهمة، ومفهومه هنا؛ لا يخرج عن مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مبدأ يتسلسل تاريخه عبر الأجيال، ولا يرى فيه الأفراد في أي مجتمع، أية مظنة، وهو اتفاق ضمني يعبر عن حاجة الناس بعضهم لبعض، وعن تكاتفهم، ودعمهم، وتشجيع بعضهم بعضا في تبادل المهن، وتعزيز دور القوى العاملة الوطنية؛ ولو على مستوى الأعمال البسيطة على مستوى القرية الواحدة، فهذه الصورة لا يمكن تجاوز أهميتها، وإن كانت الصورة أعلاه على تماس قريب بالشأن الاقتصادي لأفراد المجتمع، فإن المسألة لن تخلو من تعزيز الروابط الاجتماعية على الامتداد الأفقي والرأسي.
ربما؛ ووفق حقيقة الواقع؛ لا يعد «مذهب النفعية» مذهبا حديثا، وإن غالى البعض في إسقاطه على الحياة العصرية، أكثر من ذي قبل، وطبعا لا دليل على ذلك سوى تخمين، أو ترديد ما يتداول عبر ألسنة الناس، بينما الحقيقة تقول: ربما لم يكن هناك تأطير نظري لمفهوم النفعية في السابق؛ حيث يتبادل الناس منافعهم بحسن نية، أو كممارسة اعتيادية لا تثير التساؤل، وحدث هذا التأطير اليوم مع نمو المعرفة المتخصصة في مختلف المجالات، أما الواقع فالنفعية مرتبطة بحياة الإنسان اليومية، ولا يمكن إنكار ذلك، فلا أحد إطلاقا يتحرك دون أن يحسب حساب المنفعة من حركته هذه، وقد يكون حريصا أن يكون العائد مجزيا، وإلا لن يتقدم خطوة واحدة في أي شأن من شؤون حياته اليومية، مع التأكيد أن الحرص على المنفعة ليس شرطا أن تكون منفعة مادية مباشرة، فقد تكون منفعة معنوية، يرجى أن تفضي إلى منافع مادية متبادلة مع مرور الزمن، وإن لم يحدث؛ فلا بأس فالعلاقات بين الأطراف قائمة ومستمرة، وبالتالي فمجمل العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع وعلى امتداد الفضاءات المتاحة لهم، هناك حرص مباشر أو غير مباشر على وجود منفعة ما، تعزز من شأن الروابط القائمة بين الناس.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القائمة بین بین الأفراد الأفراد فی على مستوى مجموعة من
إقرأ أيضاً:
ضعف حاسة الإبصار بعد سن الأربعين!
وصول الإنسان إلى العقد الرابع من العمر يعتبر أنه وصل إلى "المحطة الرئيسية في حياته"، فالانطلاقة التالية ليست كماضي المحطات التي عبر من خلالها، هذه المرة يبدأ رحلة أخرى مع الزمن بشيء من الاتزان والتريث والتعقل، فكل ما مضى هو عبارة عن "محطات ثانوية" لا يتوقف عندها الإنسان كثيرا ليرى ماضيه، بل يسرع الخطى من أجل تحقيق كل أمنياته المؤجلة ولا يعلم بأن ما قد مضى هو جزء لا يتجزأ من حياة تنتهي بالموت.
دينيا، هناك مغزى عميق لوصول الإنسان إلى عمر الأربعين، لذا "خص الله تعالى هذا العمر بالذات بأهمية كبرى ففيها تكتمل القوة الجسدية والعقلية، وهي مرحلة استواء ونضج وحكمة؛ حيث يبلغ الإنسان ذروته ويصبح على مفترق طرق".
وعلميا، يوصي الأطباء والمختصون الناس بضرورة الاهتمام بمرحلة الوصول إلى " الأربعين عاما" وذلك من خلال الحرص على الخضوع لبعض الفحوصات الطبية عند الدخول في العقد الرابع "ليس تخويفًا أو ترهيبًا"، ولكن من أجل الوقاية من الأمراض التي تهاجم الإنسان في تلك المرحلة خاصة بعد أن تبدأ الأعصاب وأجزاء الجسم في مرحلة "الإنهاك والتعب التدريجي"، وهذا ما يلاحظه الكثير من الناس بعد أن تجاوزت أعمارهم الأربعين.
منذ عدة أسابيع ماضية، التقيت بصديق قديم، أعجبني شكل النظارة التي يرتديها، تحاورنا حول أهميتها وسعرها والعلامة التجارية التي ينتقيها، قال لي بأنها طبية، وأن الحاجة أجبرته على ارتدائها بعد أن أصبح يعاني من بعض الضعف في الإبصار، توقعت بأنه مهمل في حماية نفسه من تأثير الأجهزة الالكترونية، لكنه أكد لي أن عددا كبيرا من زملائه وأصدقائه بدأوا في ارتداء النظارات منها ما هو للوقاية والآخر للعلاج.
وبعد البحث في هذا الموضوع وجدت أن ضعف حاسة البصر - كما أكد أحد أطباء العيون- ليس معناه أن الشخص مقصر في الاهتمام بعينيه، ولكن السبب هو أن العين مثل أعضاء الجسم تصاب بالشيخوخة مع تقدم العمر، وبالتالي تصبح حدتها أقل من السابق في رؤية الأشياء بوضوح تام.
ربما جاء في ذهنك، هل كل الناس يضعف البصر معهم بعد سن الأربعين؟، والجواب بالطبع لا، فهناك الكثير من الناس من تجاوز الستين عاما وحتى اليوم لم يتأثر النظر لديه، ولكن الأمر السائد هو أن جميع أعضاء الجسد تصاب بالشيخوخة مع تقدم الإنسان في عمره.
ويرجع الأطباء سبب ضعف البصر لدى الإنسان لأمرين، الأول: لضعف عضلات العين، والثاني: لتراكم البروتين في العين، وهما السببان الرئيسان حول تكوّن هذه المشكلة، ناهيك عن تأثر النظر وغيره من الأعضاء بسبب الإصابة بالأمراض المزمنة كالضغط والسكري التي تتلف أعصاب الجسم ومنها العين، والسؤال الآخر والمهم، هل علينا مراجعة دكتور العيون بعد انقضاء أربعين عاما من أعمارنا في الحياة؟
الجواب –كما وصلني- لا، وإنما نذهب إلى الطبيب إذا استدعت الحاجة إلى ذلك وظهور علامات في ضعف البصر، وعدم القدرة على الإبصار بشكل جيد، وهذا الأمر يدفعنا نحو سؤال آخر جديد وهو: كيف نحافظ على العين من الإصابة بالضعف؟ الأطباء ينصحون دائما بتناول الفيتامينات التي تأتي من الغذاء الصحي مثل: "الخضراوات" و" تنويع مصادر الغذاء".
بالطبع ساهمت التكنولوجيا الحديثة في إحداث بعض المشاكل للعين، فالأجهزة الالكترونية تخفي في باطنها الكثير من الأشعة الضارة للعين خاصة عند الأشخاص الذين يستخدمونها لساعات طويلة في اليوم الواحد.
أيضا بعض الناس عندما يتعرضون لمشكلة واحدة في العين مثل الجفاف أو الإرهاق لا يقمون بمعالجة المشكلة بل يتجاهلونها وبالتالي توجد لديهم مشاكل صحية أخرى تزيد من حدة المشكلة الأولى.
الأمر الآخر، بعض الناس لا يروق لهم لبس نظارات النظر التي تحافظ على مستوى الأبصار لديهم، وبالتالي مع تجاوز الإنسان أعمار متقدمة يبدأ الجسم في الإنهاك والتعب، والعين من ضمن تلك الأعضاء الحيوية التي يتم التركيز عليها في حياتنا، ولذا وجب علينا الاهتمام بالعين والمحافظة على مستوى النظر مع تقدم العمر.