لجريدة عمان:
2024-12-18@19:01:26 GMT

الفضاءات الاجتماعية.. ومذهب النفعية

تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT

أوجدت الفضاءات المختلفة (الفضاءات الدينية؛ الفضاءات السياسية؛ الفضاءات الاجتماعية؛ الفضاءات الاقتصادية؛ الفضاءات الثقافية) المساحة الواسعة للناس لأن يحجزوا لأنفسهم مكانة ما، وهذه المساحات ولو كانت صغيرة أو ضيقة؛ في بعض التجارب أو الحالات الإنسانية؛ إلا أنها أوجدت شعورا لهؤلاء الناس، بأن لهم قيمة، وجمال هذه القيمة أنها من صنعهم، وليست هبات من آخرين «لكل مجتهد نصيب» ولذلك تظل هذه الفضاءات معبرة عن قدرة الإنسان لأن يجد لنفسه مساحة آمنة يعبر من خلالها عن قدراته، ويحقق طموحاته، وآماله، وقد تقيم هذه الصورة على أنها جزء مهم من (مساحة التفاعل القائمة بين الأفراد في المجتمع الواحد) هذا الاتساع الشامل لحركة الأفراد في أي مجتمع من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من المكاسب الاجتماعية، وإن تخللت هذه المكاسب المنافع الشخصية، وهذا أمر وارد، فهي في النهاية تظل مكسبا عاما يحقق الكثير من الرضا على مستوى المجموعات والروابط الاجتماعية المختلفة، وإن وصل تضارب المصالح بين أفراد هذه المجموعات أو الروابط إلى الصدام في بعض المواقف، ففي نهاية الأمر تظل صورة المجتمع باهية، لأن أفراده لهم القدرة على الاختلاف والتوافق، بما يعزز قدرتهم على الإنجاز لصالح المجتمع ككل، مع إدراكهم أن مجموعة الاختلافات هي بمثابة ملح للطعام، لا يستعذب مضغه إلا بوجوده بقدر يحقق التوازن؛ حيث «لا ضرر ولا ضرار».

تتمثل الفضاءات الاجتماعية في مجموعة من المناخات التي تمكن الفرد لأن يبرز فيها ذاته، وتتبلور شخصيته، ويكون فيها مؤثرا انعكاسا لشخصيته، ومواهبه، وما يتميز به من قدرات تميزه أكثر عن غيره، وتنقسم الفضاءات الاجتماعية إلى فضاءات هي موجودة بحكم متطلبات الواقع - وهي كل ما يمثل علاقة مباشرة بالآخرين في مختلف المناخات الاجتماعية الدائمة؛ على مستوى القرية/ المدينة) وأخرى يستحدثها الإنسان لاحتياجاته المستجدة على واقع حياته اليومية - كعلاقات المصالح المختلفة المؤقتة؛ على مستوى الداخل/ الخارج) وفي مجمل هذه الفضاءات كلها تبقى هناك هوية جامعة؛ تميزها عن غيرها من الفضاءات في أماكن أخرى؛ حيث تفرض الخصوصية الاجتماعية، أو الجغرافية ثقلها كموجه في التفاعلات بين الأفراد بعضهم مع بعض، كما أن هذه الفضاءات ليست جامدة، بل هي حيوية، ونشطة، انعكاسا لنشاط الأفراد وحيويتهم، وقدرتهم على التفاعل اليومي مع واقعهم، حيث لا توجد فضاءات جامدة، لا تقدم شيئا لواقعها، ولا تستقطب من واقعها شيئا يعزز وجودها، واستمرارها، ومعنى هذا أن أي مكون جغرافي يحتوي على مجموعة من الفضاءات الاجتماعية، على اعتبار أن أي مكوّن جغرافي لا يخلو من مجموعة من الساكنين، يتفاعلون فيما بينهم، ويتبادلون المصالح والمغانم، كما يتقاسمون مجموعة الإخفاقات التي تحدث بينهم، نتيجة تعديات؛ هي حاصلة؛ بحكم تضارب المصالح بينهم، فهؤلاء الأفراد في الآخر تحكمهم مصالح، وتسيرهم أهواء ومشاعر، وتنظم حيواتهم مجموعة من الأعراف والقوانين، والاتفاقات الثنائية التي تجمعهم على تسيير حياتهم اليومية، ولا بد عند النظر أو الحديث عن مختلف الفضاءات الاجتماعية أن تراعى مسألة خصوصية المجتمعات (المدن؛ صغيرها وكبيرها) والبادية، والأرياف بما في ذلك القرى؛ وسكان السواحل، حيث تعكس حياة الناس في مختلف هذا التنوع أسلوب حياتهم؛ بناء على الفضاءات المتاحة في كل نوع من أنواع الحياة في هذه الأماكن، فالفضاءات المتاحة في الريف؛ غيرها في المدن، وغيرها في المدن الساحلية، وإن حملت نفس المسميات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فمصادر الدخل في المدينة؛ غيرها في القرى والأرياف، وكذلك فضاءات المعرفة، والثقافة، والممارسات التقليدية المختلفة، والتي تنشأ أصلا انعكاسا لواقع الحال وفق ضروريات المكان.

تتيح الفضاءات الاجتماعية مجموعة من الروابط بين الأفراد، فسوق القرية الصغير؛ الذي يتناسب وحجم حاجيات الأفراد في القرية يشكل فضاء مهما يمكن أن يوجد مجموعة من الروابط التي تجمع أبناء القرية، ويقينا لن نحصي مجموعة المنافع المتبادلة عبر هذا المناخ/ الفضاء الاجتماعي التي تتم في اليوم الواحد، وفي الأسبوع وفي الشهر، هذا إذا استحضرنا المنافع في الجانب الاقتصادي، فما بالك بالمنافع الأخرى (الاجتماعية، الثقافية) والتي تتداخل بين جوانب العلاقات القائمة عبر هذا الفضاء المهم، الذي تتجه إليه الأنظار كل يوم، ربما قد يتضاءل تأثير هذا الفضاء مع تقدم الحياة الحديثة التي استجدت فيها مجموعة من المجمعات التجارية التي أصبحت تحتوي على كل ما يلزم الفرد من متطلباته اليومية، سواء من ناحية المأكولات، أو الأدوات العينية الأخرى التي يسيّر بها الناس حياتهم اليومية، ولكن مع ذلك لا يزال الأفراد في المجتمعات القروية يقيمون شأنا لهذه الأسواق التقليدية، ولو على شكل معارض أسبوعية يلتقي فيها أبناء المجتمع سواء على مستوى القرية الواحدة، أو على مستوى القرى المجاورة، كما هو الحال في الأسواق الأسبوعية؛ والتي أصبحت معروفة بمسمياتها، وبأماكن وجودها على امتداد الخريطة الجغرافية لسلطنة عمان، فعلى الرغم من عنوانها العريض (البيع والشراء) إلا أنها أصبحت ملتقى اجتماعيا يحسب له كثير من الأفراد الكثير من الحسابات الاجتماعية والاقتصادية وتبادل المنافع، كما هو الحال لمناسبات الهبطة التي تتزامن مع عيدي الفطر والأضحى، وكما هو الحال لمناسبات الفرح/ السرور، وكما هو الحال لمناسبات حصاد النخيل، وكما هو الحال للمناسبات الاجتماعية المختلفة التي تتوزع خريطتها طوال العام على مختلف التجمعات السكانية المختلفة.

من وجهة نظر عامة، لا يمكن فصل العلاقة القائمة بين الفضاءات الاجتماعية والنفعية، حيث كلاهما يدعم الآخر، وذلك أن مجمل العلاقات القائمة بين الأفراد في المجتمع الواحد قائمة على مذهب النفعية، وليس في ذلك أي عيب إطلاقا، لأن المجال الاجتماعي رحب، ويستوعب مجموعة التفاعلات القائمة بين أفراده، ووجود مذهب النفعية متداخلا في الفضاء الاجتماعي، لا يلغي مجموعة المبادرات الإنسانية التطوعية التي يتبادل من خلالها الأفراد كثيرا من المصالح المشتركة بينهم دون مقابل، وهذا الترابط بين الطرفين هو ما يعزز القوة الفاعلة والتأثير المنجز في واقع الناس، فالخلاصة أن الجميع يريد أن يعيش في أمن واطمئنان، والعائد المادي هو أحد محاور الأمن الاجتماعي، وأعمدته المهمة، ومفهومه هنا؛ لا يخرج عن مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، وهو مبدأ يتسلسل تاريخه عبر الأجيال، ولا يرى فيه الأفراد في أي مجتمع، أية مظنة، وهو اتفاق ضمني يعبر عن حاجة الناس بعضهم لبعض، وعن تكاتفهم، ودعمهم، وتشجيع بعضهم بعضا في تبادل المهن، وتعزيز دور القوى العاملة الوطنية؛ ولو على مستوى الأعمال البسيطة على مستوى القرية الواحدة، فهذه الصورة لا يمكن تجاوز أهميتها، وإن كانت الصورة أعلاه على تماس قريب بالشأن الاقتصادي لأفراد المجتمع، فإن المسألة لن تخلو من تعزيز الروابط الاجتماعية على الامتداد الأفقي والرأسي.

ربما؛ ووفق حقيقة الواقع؛ لا يعد «مذهب النفعية» مذهبا حديثا، وإن غالى البعض في إسقاطه على الحياة العصرية، أكثر من ذي قبل، وطبعا لا دليل على ذلك سوى تخمين، أو ترديد ما يتداول عبر ألسنة الناس، بينما الحقيقة تقول: ربما لم يكن هناك تأطير نظري لمفهوم النفعية في السابق؛ حيث يتبادل الناس منافعهم بحسن نية، أو كممارسة اعتيادية لا تثير التساؤل، وحدث هذا التأطير اليوم مع نمو المعرفة المتخصصة في مختلف المجالات، أما الواقع فالنفعية مرتبطة بحياة الإنسان اليومية، ولا يمكن إنكار ذلك، فلا أحد إطلاقا يتحرك دون أن يحسب حساب المنفعة من حركته هذه، وقد يكون حريصا أن يكون العائد مجزيا، وإلا لن يتقدم خطوة واحدة في أي شأن من شؤون حياته اليومية، مع التأكيد أن الحرص على المنفعة ليس شرطا أن تكون منفعة مادية مباشرة، فقد تكون منفعة معنوية، يرجى أن تفضي إلى منافع مادية متبادلة مع مرور الزمن، وإن لم يحدث؛ فلا بأس فالعلاقات بين الأطراف قائمة ومستمرة، وبالتالي فمجمل العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع وعلى امتداد الفضاءات المتاحة لهم، هناك حرص مباشر أو غير مباشر على وجود منفعة ما، تعزز من شأن الروابط القائمة بين الناس.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القائمة بین بین الأفراد الأفراد فی على مستوى مجموعة من

إقرأ أيضاً:

أيامُ الناس في مِكناس (01)

بصراحة وجدت في نفسي شيئًا عندما خاطبني موظف الاستقبال في القنصلية المغربية بجدة قائلا: استرح يا حاج. وكنت قدَّمت أوراقي لطلب تأشيرة دخول للمغرب. لم أدرك أن الرجل كان يخاطبني بأفضل كلمات التقدير عندهم: “يا حاج”…

سمعت في الرباط من يخاطب الدكتور المحجوب بنسعيد: يا حاج، والمحجوب ذو فراسة وظنٍّ لا يخطئ، قال لي من غير أن أسأل: من يناديك في المغرب يا حاج فقد احترمك غاية الاحترام.
هذا فأل حسن، فقد جئت إلى المغرب لكي أشارك بندوة في مكناس ببحث فيه ذكر الحج والحجيج: (أدب النادرة بين الحقيقة والتخييل كما يمثله كتاب من طرائف الحجيج).

وصلت إلى مطار الملك محمد الخامس بالدار البيضاء بعد طيران سبع ساعات من مدينة جدة. خرجت من مبنى المطار وكنت أخشى برودة الطقس ونحن في شهر نوفمبر لكني فوجئت باعتدال الجو. سألت عن المسجد كي أصلي الفجر فدلوني على مصلى صغير عبارة عن سقيفة تكفي لصفين من المصلين، ورأيت حجرا موضوعًا في المقدمة عرفت أنه للتيمم. هذا أول انطباع عن هذه البلاد واعتدالها: اعتدال في الجو واعتدال في النموذج المغربي للتدين.
نسمع بالوسطية فنراها متجذرة هنا… ترى ذلك في لافتات الشوارع المكتوبة باللغتين العربية والأمازيغية بخطوط وضيئة غير مبهرة، متوسطة الأحجام لا هي بالكبيرة جدا ولا بالصغيرة، وتحس بذلك في المظهر العام في الشارع، وإن كنت ترى في الطرقات وسير العربات “سلوكات غير مسؤولة “.

ولعل قيام هذه الندوة عن (الفكاهة والضحك) من أقوى علامات الاعتدال.
عندما كنت أتفاكر مع الدكتور رضوان بوخالدي الأستاذ بجامعة مولاي إسماعيل في كيفية حضور الندوة كان في ذهني أن موضوعها موضوع انصرافي، ولا سيما في زمان الحرب والنزوح هذا. ولكن أليس زمان الحرب والنزوح أدعى للتنويع وكسر الرتابة أو بتعبير أحدهم: تعليل النفس ببعض الأنس.

في الجلسة الافتتاحية للندوة استشهد الدكتور مصطفى الغرافي بفقرة للطيب صالح من عرس الزين: “يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ، هذا هو المعروف. ولكن يُروى أن الزين، والعهدة على أمه والنساء اللائي حضرن ولادتها، أول ما مسَّ الأرض، انفجر ضاحكاً، وظل هكذا طوال حياته”.

تكلم الكثيرون عن أهمية الضحك، يستدلون عليها بأقوال الحكماء والفلاسفة: قال سيدنا علي بن أبي طالب: “من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر”. ويكتب الدكتور محمد عفط في بحثه المقدم للندوة أن النوادر ميل طبيعي في الإنسان، وأن اللجوء إليها يتوافق مع الطبيعة الإنسانية التي لا تقبل قسرها على نمط واحد”…

وينقل د. عفط عن أبي إسحاق ربطه الميل إلى الضحك والمفاكهة ببديع خلق الله حيث يقول: “الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة”.
وللنادرة وظيفة مهمة هي التفريج عن الكربات. جمع أحد المؤلفين من المغرب أخيرًا كتابًا عن نوادر أهل المغرب سماه (نوادر الأكياس في تفريج كربات الناس)، ولعله أراد أن يثبت وجود الظرفاء أيضًا في تاريخ الأدب العربي بالمغرب، إذ المشهور أن المشرقيين وحدهم من حازوا قصب السبق في كتابة النوادر من أمثال الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن قتيبة والأبشيهي صاحب المستطرف من كل فن مستظرف.

وأشار الدكتور رشيد وديجي إلى أن النادرة تمثيل سردي لمضمون اجتماعي وأخلاقي يهدف إلى ترسيخ السلوك السوي في المجتمع… بعبارة أخرى تكمن أهمية النادرة، بوصفها أداة لإصلاح النفوس والمجتمع وترسيخ القيم النبيلة والفاضلة في المجتمع… وتخليصه من عيوبه ونقائصه، عن طريق تكثيف الشعور بالازدراء والسخرية من الموضوع المسخور منه”.

ولا أريد الاستطراد بأكثر من هذا في الحديث عن الندوة، لكن أختم بنقطتين وردتا في بحث الدكتور عبد الرحيم وهابي: الأولى عن الموقف الديني المتشدد الذي يحظر الضحك في المسيحية على اعتبار أن المسيح عليه السلام لم يضحك قط، ويقارن ذلك بالإشارة إلى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ومزاحه ومزاح الصالحين ونوادر الفقهاء والعلماء المسطورة في كتبهم. والنقطة الثانية في أن الضحك مما تميز به الإنسان دون الحيوان.
صحيح هل رأيتم حيوانًا يضحك أو يبتسم؟!
(نتابع)

بقلم: عثمان أبوزيد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حمدان بن محمد: “دبي سبّاقة في تحفيز البحث والتطوير والابتكار وتفعيل استخدامات التكنولوجيا في خدمة الأفراد والأعمال والمجتمعات”
  • تعرف على حالات وقف الدعم النقدي وفقًا لقانون الضمان الاجتماعي الجديد
  • + فيديو + ابتدائية طنجة تؤجل النظر في قضية "مجموعة الخير " التي وصل عدد ضحاياها إلى 947 شخصا
  • حالات وقف الدعم النقدي بمشروع القانون الجديد بعد قرار النواب
  • تكريم شرطة أبوظبي في حفل جوائز معهد تشارترد للأفراد والتنمية في الشرق الأوسط
  • تكريم شرطة أبوظبي بحفل جوائز معهد تشارترد للأفراد والتنمية في الشرق الأوسط
  • أيامُ الناس في مِكناس (01)
  • مجموعة دول غرب أفريقيا "الإيكواس" تمنح مهلة أخيرة للدول الثلاث التي شب انقلابيوها عن الطوق
  • بعد مناقشة النواب.. تعرف على حالات وقف الدعم النقدي وفقاً للقانون
  • الزغاوة هم القوى الاجتماعية الوحيدة في دارفور التي رفضت الجنجويد وصارعتهم مرتين