أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «5»
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
في اللَّقطة الثَّانية من لقطات مشهد اكتساح الجيش العربي للحامية التركيَّة في العَقَبَة نشاهد نساءً فعليَّات بوصفهن ذواتا للرَّغبة وهن «يَنْظُرْنَ» إلى التَّدمير الرَّمزي لصورتهن باعتبارهن «صورا موضوعة للنَّظر» بغرض التَّأثير الأيروسي؛ وبالتَّالي فإنهن «يَنْظُرْنَ» إلى الرِّجال المهاجِمين وهم يستعرضون «رجولتهم» الحربيَّة في الاكتساح العنيف.
يكاد المرء يشك في وجود نساء في الصَّحراء والمجتمع العربيَّين لفرط غيابهن لصالح التَّمثيل الذَّكري/ الذُّكوري الغامر في الفيلم. واللقطات القليلة (الاعتذاريَّة، تقريبا) لنساء عربيَّات يرتدين الأخمرة السُّود التي تظهر في الفيلم تُرِينا إياهُنَّ بوصفهنَّ «متلصِّصات طبيعيَّات» إذا ما جاز القول: يوفِّر قماش تلك الأقنعة الشَّفاف لهنُّ أداة مثاليَّة للتَّلَصُّص يحتمين ويتستَّرن من خلفها؛ فهنُّ يستطعن النَّظر من خلال ذلك القماش الشَّفَّاف الذي، في الوقت نفسه، يحول دون إمكانيَّة تعرُّف الآخرين إليهن. وثمَّة كناية أخرى تمثّل وتؤكد تلك «التلصُّصيَّة الطَّبيعيَّة» للنِّساء العربيَّات نعثر عليها خلال الرِّحلة من وادي الصَّفراء إلى يَنْبُع، حيث تحتمي تلكم النِّساء بالهوادج المحاطة بالرِّجال/ الذُّكور. هنا، مرة أخرى، تستطيع النساء أن يَرَيْن من غير أن يُرَيْن وهنَّ لابثات بِتَمَترُسٍ في ما يشبه «البانبتكون» (panopticon) الفوكَويَّ (نسبة إلى ميشيل فوكو Michel Foucault) إلى حدٍّ مثالي (25).
وبعدُ فإنه، بمعنى ما، وكما في حالة بطل فيلم «نُزهةٌ ووجبة»، فإن لورَنس التَّاريخي ولورَنس السِّينمائي معا مُتَّهمان بـ«الَّلارجولة»، إذا ما جاز القول؛ ذلك أن الجدل حول مثليَّة لورَنس الجنسيَّة لم يتوقف أبدا. وفي تصوري فإنه ينبغي فهم ذلك الجدل بوصفه من مُكَوِّنات صناعة الصُّورة الأسطوريَّة للشَّخصيَّة الاستثنائيَّة في المخيال الشعبي التي لا يتمكن مرور الزَّمن سوى أن يضفي عليها المزيد من الألغاز، والغموض، والأقاويل، والبهارات، والاستيهامات. إنها الأسطورة الشَّائقة والمثيرة وهي في واجب التَّصنيع والإبهار دوما. أما كُتَّاب السِّيَر الغيريَّة من طراز كُتَّاب سِيَر القدِّيسين مثل جيرمي وِلسُن Jeremy Wilson فإنهم يبذلون غاية الجهد والعناية في سبيل نفي «تُهمة» المثليَّة الجنسيَّة بصورة قاطعة عن لورَنس، وذلك لصالح صورة نقيَّة، طاهرة، و«رجوليَّة»، و«ذكريِّة» للبطل الوطني المُبَجَّل في التَّاريخ البريطاني المشوب بالرُّوح العسكريَّة الغازِية (26). لكن رِتشَرد ألدنجتُن Richard Aldington، وهو كاتب سيرة من النَّوع النَّقدي، لا يدع مجالا للشَّك في مثليَّة لورَنس (27). وكتَّاب سيرة آخرون، مثل فِلِبْ نايتلي Philip Knightley وكولِن سِمْبسُن Colin Simpson، يقدِّمون أدلَّة على أن لورَنس كانت لديه نزعةٌ وأشواقٌ مثليَّة داخليِّة عميقة لكنه لم يشأ الاعتراف بها علنا وممارستها بالنظر إلى موقعه في المجد والسِّيماء الخارجيَّين الإمبراطوريين. وقد عبَّرت تلك النَّزعات والأشواق عن نفسها تعويضيَّا في طقوسٍ سادو-- مازوشيَّة وليس بالانخراط في أنشطةٍ مثليَّةٍ جسديَّة مباشرة (28). أما إدوَارد سعيد فإنه لا يذهب بعيدا عن ذلك حين يقول: إن لورَنس، بعد قضيَّة درعا، حيث وقع أسيرا لدى الأتراك ويقول إنه جرى الاعتداء عليه جنسيَّا، قد «بدا أنه هَنْدَسَ لبقيَّة حياته طقوس تَسْويطٍ لِجَلْدِ نفْسِه» (29).
لكن ما قد يكون شائقا أكثر هنا أن لِين، مخرج الفيلم، موقنٌ أن لورَنس كان، في الحقيقة، مثليَّا جنسيَّا فعلا. والحقيقة هي أن أحد أسباب استياء لِين من سيناريو مايكل وِلسُن Michael Wilson هو أنه وجد أن «الكثير من أوجه شخصيَّة لورَنس غير موجودة في السِّيناريو». وقد مضى لِين إلى ضرب مثالين محدَّدين: «المازوشيَّة... دعونا لا نتحاشى أو نحذف جانب المثليَّة الجنسيَّة في علاقات لورَنس... ينبغي التأكيد على المثليَّة الجنسيَّة الأوَّليَّة لشخصيتي داود وفَرَج» (30). وعمليَّا فإن روبرت بولت Robert Bolt، كاتب السِّيناريو البديل، يقاسم لين نفس اليقين: «لا أعرف ما إذا كان «لورَنس» مثليَّا جنسيَّا نَشِطا. أما كونه مثليَّا جنسيَّا قليلا أو كثيرا بطبيعته، فذلك ما أنا متأكِّد منه تقريبا، ويبدو أنه هو نفسه كان واضحا حول ذلك» (31). وبعدُ فإنَّه على الرَّغم من صحَّة القول: إن العديد من المشاهِدين والنُّقاد قد «فهموا بالإشارة»، فإن من الصَّعب القول: إن «جانب المثليَّة الجنسيَّة» كان جليَّا بصورة لا لبس فيها في الفيلم. وحقا فإن الكثير من النُّقاد قد أنحوا باللائمة على الفيلم بسبب تجاهل ذلك «الجانب» تحديدا. ها هو بيتر بيكر Peter Baker، على سبيل المثال، يكتب أن الفيلم «يتجنَّب بصورة حَذِرَة موضوع المثليَّة الجنسيَّة الذي تغاضى عنه «لورَنس» في أقل الأحوال، وتقريبا أثنى عليه علنا في كتابه «أعمدة الحكمة السَّبعة» (32). وبصورة مشابهة لذلك فإن برايَن سينت بيير Brian St. Pierre يرى أن «روبرت بولت قد لطَّف لورَنس كثيرا»، وهذا، فيما يخصُّ الفيلم، يعني أنه «لم يكن واضحا جدا حول العديد من المسائل محل الشَّك في حياة «لورَنس»، وخاصة تلك الفترة فائقة الأهميَّة التي قضاها في الأسر التُّركي» (33).
--------------------------------------
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(25): للوقوف على أفكار فوكو المتعلِّقة بمفهوم الـ»بانبتكون» وطبيعته التَّلَصُّصِيَّة والأمنيَّة انظر:
Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, trans., Alan Sheridan (New York: Vintage, 1995).
(26): Jeremy Wilson, The Authorized Biography of Lawrence of Arabia (New York: Atheneum, 1990).
(27): Richard Aldington, Lawrence of Arabia: A Biographical Enquiry (London: Collins, 1969).
(28): Philip Knightley and Colin Simpson, The Secret Lives of Lawrence of Arabia (New York: McGraw-Hill, 1970).
:(29) إدوَرد سعيد، «لورَنس لا يزجي للعرب أي جميل»، في: عبدالله حبيب، «مساءلات سينمائيَّة»، 248.
(30): David Lean, quoted in Adrian Turner, The Making of David Lean s Lawrence of Arabia (London: Dragon s World, 1994), 71, 73.
(31): Robert Bolt, Clues to the Legend of Lawrence, New York Times Magazine, February 25, 1962, 16.
(32): Peter Baker, Lawrence of Arabia, Film and Filming, February 1963, 32.
(33): Brian St. Pierre, Lawrence of Arabia, Seventh Art 1, no. 3 (1964): 19.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة الجنسی
إقرأ أيضاً:
هآرتس: بصمت و”تذكرة باتجاه واحد”.. ألا يرى العرب أن خطة ترامب لترحيل الغزيين قد بدأت؟
#سواليف
ربما يجدان أنفسهما في مواجهة سياسية مباشرة مع رئيس غير متوقع. هذا عقب تصريحات #ترامب استيعاب الدولتين #لاجئين_فلسطينيين من قطاع #غزة، والإعلان بأنهما “ستفعلان ذلك”. إن القول بأن الولايات المتحدة تساعد #القاهرة و #عمان، ولذلك “يجب عليهما”، قول يمس نقطة حساسة جداً.
بشكل رسمي، رفض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبد الله وحكومتاهما، المبادرة كلياً، وأعلنا معارضتهما فكرة الترانسفير أو #تهجير سكان القطاع. السبت، حصلا على دعم لموقفهما من السعودية وقطر والإمارات، بنشر بيان مشترك مع السلطة الفلسطينية، رفضوا فيه هذه الخطة.
باستثناء ذلك، تحذر مصر من تداعيات تحقيق هذه الخطة على الأمن القومي في الدولة، وضمن ذلك شبه جزيرة سيناء، وأن هذه الخطة ستحتاج إلى إعادة استعداد الجيش المصري – القضية التي ستضطر إسرائيل أيضاً إلى تقديم إجابات عليها. أما الأردن فسيضع قضية الأمن القومي على رأس اهتماماته، وسيوضح للرئيس الأمريكي بأن تدفق مئات آلاف الفلسطينيين إلى المملكة سيقوض استقرارها، خصوصاً في ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة. مع ذلك، عدم تنازل ترامب عن الفكرة وعدم استعداده للموافقة على رد سلبي، تحتاج إلى استعداد من ناحيتهم.
مقالات ذات صلة الثلاثاء .. جبهة هوائية دافئة في مُقدمة مُنخفض جوي 2025/02/04القاهرة وعمان لا تخفيان خوفهما، وتوضحان أن التوقيت الحساس الذي قيل فيه إعلان ترامب، وعلنيته، لا تبقي أمام الزعيمين أي هامش للمناورة. من جهة، الرأي العام في الدولتين يعارض هذه المبادرة بشدة، لكن من جهة أخرى، العقوبات أو أي تقليصات للمساعدات قد تهدد منظومات حيوية في الأردن ومصر.
حسب دبلوماسيين وجهات سياسية تحدثت لـ “هآرتس” في الدولتين، وفي السلطة الفلسطينية أيضاً، فإن للولايات المتحدة أدوات وروافع ضغط على القاهرة وعمان، خصوصاً في المجال العسكري والمالي. لن تحتمل الدولتان عبء أي أضرار اقتصادية شديدة أو نقص في التزويد المتعلق بمنظومات عسكرية ما لم تجدا شبكة أمان اقتصادية من دول أخرى. “مع كل الاحترام للبيان المشترك مع السعودية، فإن هذا الموقف بحاجة إلى شبكة أمان اقتصادية واسعة لتمكين السيسي وعبد الله من الوقوف أمام ترامب”، قال مصدر مصري مقرب من متخذي القرارات في القاهرة. وحسب قول هذا المصدر، فإن دولة مثل مصر تعتمد على مساعدات واشنطن، وهي بحاجة إلى البنك الدولي الذي تمتلك فيه الولايات المتحدة قوة كبيرة. “ما لم توجد خطة بديلة، ستجد مصر صعوبة في مواجهة ضغط الإدارة الأمريكية إذا صمم ترامب على تطبيق خطته”، قال المصدر.
استمرار الانقسام الداخلي سيصعب على الفلسطينيين معارضة خطة ترامب. حسب أقوال مصادر فلسطينية، فإن حماس والسلطة الفلسطينية عبرتا عن معارضتهما الحازمة للفكرة، لكنهما لا تنجحان في التوافق فيما بينهما على طريقة عملية لإدارة القطاع، ما قد يفشل أي محاولة للمضي بخطة بديلة. “المفارقة أن إعلان ترامب فاجأ حكومة إسرائيل أيضاً”، كتب الكاتب والصحافي الفلسطيني داود كتاب، الذي يعيش في الأردن. وحسب قوله، من غير الواضح إذا كان تصريح ترامب نتيجة تخطيط استراتيجي أم مجرد زلة لسان نبعت من محادثات وصلت إلى أذنه في مارلاغو.
حسب أقوال كتاب، فإن عدم مصادقة مجلس الشيوخ بعد على تعيين مستشار ترامب للأمن القومي، يدل على أن هذا التصريح ليس جزءاً من خطة مبلورة. القاهرة وعمان تتوقعان أن نتنياهو لو كان معنياً بالتنسيق معهما والحفاظ على علاقات عمل سليمة مع الدولتين، حتى لو لم تكن علنية، فعليه ألا يعلن تأييد هذه العملية. “قد يرمي ترامب من واشنطن أفكاراً إزاء غزة من وجهة نظر رجل العقارات، لكن الواقع على الأرض وتأثيرات ذلك على المنطقة أكبر من خطة الإخلاء – بناء للرئيس الأمريكي”، قال دبلوماسي عربي للصحيفة.
يخشى سكان قطاع غزة من أنه مع غياب الخطة البديلة، سيجعل الولايات المتحدة وإسرائيل تحولان الإخلاء الإنساني أو الأمني إلى تذكرة باتجاه واحد، وعملياً سيشكل ترانسفير صامتاً. “وهذا بدأ بالأسرى، ويستمر الآن بالجرحى والمرضى، وربما لاحقاً بفئات أخرى مثل التعليم ولم شمل العائلات في الخارج، ومن يخرج لن يعود”، قال ناشط في مجال المساعدات الإنسانية في القطاع. وحسب قوله، فإن على القيادة الفلسطينية بكل فصائلها والدول العربية التوحد أمام ترامب واقتراح بدائل لإعادة إعمار القطاع وإدارته بدون ترانسفير، وإلا فسيستمر بالتسلي بالفلسطينيين كلعبة.