في اللَّقطة الثَّانية من لقطات مشهد اكتساح الجيش العربي للحامية التركيَّة في العَقَبَة نشاهد نساءً فعليَّات بوصفهن ذواتا للرَّغبة وهن «يَنْظُرْنَ» إلى التَّدمير الرَّمزي لصورتهن باعتبارهن «صورا موضوعة للنَّظر» بغرض التَّأثير الأيروسي؛ وبالتَّالي فإنهن «يَنْظُرْنَ» إلى الرِّجال المهاجِمين وهم يستعرضون «رجولتهم» الحربيَّة في الاكتساح العنيف.

وفي رأيي، فإن هذا التَّباين لا ينطوي على تناقض؛ وذلك لأنه يُجسَّد التَّبدُّل الدَّائم للنَّظرة المُحَدِّقة المُجَنْدَرَة التي تشكِّل ما يمكن اعتباره نظام علامات ترقيم لفيلم «لورَنس العرب».

يكاد المرء يشك في وجود نساء في الصَّحراء والمجتمع العربيَّين لفرط غيابهن لصالح التَّمثيل الذَّكري/ الذُّكوري الغامر في الفيلم. واللقطات القليلة (الاعتذاريَّة، تقريبا) لنساء عربيَّات يرتدين الأخمرة السُّود التي تظهر في الفيلم تُرِينا إياهُنَّ بوصفهنَّ «متلصِّصات طبيعيَّات» إذا ما جاز القول: يوفِّر قماش تلك الأقنعة الشَّفاف لهنُّ أداة مثاليَّة للتَّلَصُّص يحتمين ويتستَّرن من خلفها؛ فهنُّ يستطعن النَّظر من خلال ذلك القماش الشَّفَّاف الذي، في الوقت نفسه، يحول دون إمكانيَّة تعرُّف الآخرين إليهن. وثمَّة كناية أخرى تمثّل وتؤكد تلك «التلصُّصيَّة الطَّبيعيَّة» للنِّساء العربيَّات نعثر عليها خلال الرِّحلة من وادي الصَّفراء إلى يَنْبُع، حيث تحتمي تلكم النِّساء بالهوادج المحاطة بالرِّجال/ الذُّكور. هنا، مرة أخرى، تستطيع النساء أن يَرَيْن من غير أن يُرَيْن وهنَّ لابثات بِتَمَترُسٍ في ما يشبه «البانبتكون» (panopticon) الفوكَويَّ (نسبة إلى ميشيل فوكو Michel Foucault) إلى حدٍّ مثالي (25).

وبعدُ فإنه، بمعنى ما، وكما في حالة بطل فيلم «نُزهةٌ ووجبة»، فإن لورَنس التَّاريخي ولورَنس السِّينمائي معا مُتَّهمان بـ«الَّلارجولة»، إذا ما جاز القول؛ ذلك أن الجدل حول مثليَّة لورَنس الجنسيَّة لم يتوقف أبدا. وفي تصوري فإنه ينبغي فهم ذلك الجدل بوصفه من مُكَوِّنات صناعة الصُّورة الأسطوريَّة للشَّخصيَّة الاستثنائيَّة في المخيال الشعبي التي لا يتمكن مرور الزَّمن سوى أن يضفي عليها المزيد من الألغاز، والغموض، والأقاويل، والبهارات، والاستيهامات. إنها الأسطورة الشَّائقة والمثيرة وهي في واجب التَّصنيع والإبهار دوما. أما كُتَّاب السِّيَر الغيريَّة من طراز كُتَّاب سِيَر القدِّيسين مثل جيرمي وِلسُن Jeremy Wilson فإنهم يبذلون غاية الجهد والعناية في سبيل نفي «تُهمة» المثليَّة الجنسيَّة بصورة قاطعة عن لورَنس، وذلك لصالح صورة نقيَّة، طاهرة، و«رجوليَّة»، و«ذكريِّة» للبطل الوطني المُبَجَّل في التَّاريخ البريطاني المشوب بالرُّوح العسكريَّة الغازِية (26). لكن رِتشَرد ألدنجتُن Richard Aldington، وهو كاتب سيرة من النَّوع النَّقدي، لا يدع مجالا للشَّك في مثليَّة لورَنس (27). وكتَّاب سيرة آخرون، مثل فِلِبْ نايتلي Philip Knightley وكولِن سِمْبسُن Colin Simpson، يقدِّمون أدلَّة على أن لورَنس كانت لديه نزعةٌ وأشواقٌ مثليَّة داخليِّة عميقة لكنه لم يشأ الاعتراف بها علنا وممارستها بالنظر إلى موقعه في المجد والسِّيماء الخارجيَّين الإمبراطوريين. وقد عبَّرت تلك النَّزعات والأشواق عن نفسها تعويضيَّا في طقوسٍ سادو-- مازوشيَّة وليس بالانخراط في أنشطةٍ مثليَّةٍ جسديَّة مباشرة (28). أما إدوَارد سعيد فإنه لا يذهب بعيدا عن ذلك حين يقول: إن لورَنس، بعد قضيَّة درعا، حيث وقع أسيرا لدى الأتراك ويقول إنه جرى الاعتداء عليه جنسيَّا، قد «بدا أنه هَنْدَسَ لبقيَّة حياته طقوس تَسْويطٍ لِجَلْدِ نفْسِه» (29).

لكن ما قد يكون شائقا أكثر هنا أن لِين، مخرج الفيلم، موقنٌ أن لورَنس كان، في الحقيقة، مثليَّا جنسيَّا فعلا. والحقيقة هي أن أحد أسباب استياء لِين من سيناريو مايكل وِلسُن Michael Wilson هو أنه وجد أن «الكثير من أوجه شخصيَّة لورَنس غير موجودة في السِّيناريو». وقد مضى لِين إلى ضرب مثالين محدَّدين: «المازوشيَّة... دعونا لا نتحاشى أو نحذف جانب المثليَّة الجنسيَّة في علاقات لورَنس... ينبغي التأكيد على المثليَّة الجنسيَّة الأوَّليَّة لشخصيتي داود وفَرَج» (30). وعمليَّا فإن روبرت بولت Robert Bolt، كاتب السِّيناريو البديل، يقاسم لين نفس اليقين: «لا أعرف ما إذا كان «لورَنس» مثليَّا جنسيَّا نَشِطا. أما كونه مثليَّا جنسيَّا قليلا أو كثيرا بطبيعته، فذلك ما أنا متأكِّد منه تقريبا، ويبدو أنه هو نفسه كان واضحا حول ذلك» (31). وبعدُ فإنَّه على الرَّغم من صحَّة القول: إن العديد من المشاهِدين والنُّقاد قد «فهموا بالإشارة»، فإن من الصَّعب القول: إن «جانب المثليَّة الجنسيَّة» كان جليَّا بصورة لا لبس فيها في الفيلم. وحقا فإن الكثير من النُّقاد قد أنحوا باللائمة على الفيلم بسبب تجاهل ذلك «الجانب» تحديدا. ها هو بيتر بيكر Peter Baker، على سبيل المثال، يكتب أن الفيلم «يتجنَّب بصورة حَذِرَة موضوع المثليَّة الجنسيَّة الذي تغاضى عنه «لورَنس» في أقل الأحوال، وتقريبا أثنى عليه علنا في كتابه «أعمدة الحكمة السَّبعة» (32). وبصورة مشابهة لذلك فإن برايَن سينت بيير Brian St. Pierre يرى أن «روبرت بولت قد لطَّف لورَنس كثيرا»، وهذا، فيما يخصُّ الفيلم، يعني أنه «لم يكن واضحا جدا حول العديد من المسائل محل الشَّك في حياة «لورَنس»، وخاصة تلك الفترة فائقة الأهميَّة التي قضاها في الأسر التُّركي» (33).

--------------------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(25): للوقوف على أفكار فوكو المتعلِّقة بمفهوم الـ»بانبتكون» وطبيعته التَّلَصُّصِيَّة والأمنيَّة انظر:

Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, trans., Alan Sheridan (New York: Vintage, 1995).

(26): Jeremy Wilson, The Authorized Biography of Lawrence of Arabia (New York: Atheneum, 1990).

(27): Richard Aldington, Lawrence of Arabia: A Biographical Enquiry (London: Collins, 1969).

(28): Philip Knightley and Colin Simpson, The Secret Lives of Lawrence of Arabia (New York: McGraw-Hill, 1970).

:(29) إدوَرد سعيد، «لورَنس لا يزجي للعرب أي جميل»، في: عبدالله حبيب، «مساءلات سينمائيَّة»، 248.

(30): David Lean, quoted in Adrian Turner, The Making of David Lean s Lawrence of Arabia (London: Dragon s World, 1994), 71, 73.

(31): Robert Bolt, Clues to the Legend of Lawrence, New York Times Magazine, February 25, 1962, 16.

(32): Peter Baker, Lawrence of Arabia, Film and Filming, February 1963, 32.

(33): Brian St. Pierre, Lawrence of Arabia, Seventh Art 1, no. 3 (1964): 19.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الجنسی

إقرأ أيضاً:

محمد عز العرب يثير الجدل بتصريحاته حول رؤية أبنائه: "هرجعهم وهشوفهم في مصر"

 

 أثار مدير التصوير محمد عز العرب، طليق الفنانة أيتن عامر، حالة من الجدل الواسع خلال الساعات القليلة الماضية، بعد أن نشر منشورًا عبر حسابه الشخصي على "إنستجرام".

 يأتي هذا المنشور بعد فترة من الصمت حول مشاكله الشخصية مع طليقته، مشيرًا إلى أنه يواجه صعوبة في رؤية أبنائه.

منشور محمد عز العرب الأخير

 نشر محمد عز العرب تعليقًا أثار العديد من التساؤلات والجدل بين متابعيه، حيث قال: "حتى لو برا مصر هرجعهم وهشوفهم في مصر".

 هذا التصريح جاء بعد أن أعرب عن استيائه من حرمانه من رؤية أبنائه، ملمحًا إلى أن طليقته أيتن عامر هي من تمنعه من ذلك.

توضيح محمد عز العرب حول قضية الرؤية

 لم يكن هذا التصريح الأول من نوعه، إذ سبق أن قام عز العرب بتكذيب تصريحات أيتن عامر حول السماح له برؤية أبنائه. من خلال منشور على حسابه بموقع "فيسبوك"، أوضح عز العرب أنه سيعمل على تغيير مكان حكم الرؤية ليتمكن من رؤية أبنائه بسهولة.

 وقال: "إن شاء الله هغير مكان حكم الرؤية عشان أعرف أشوف ولادي، 6/11/2023 أخر يوم شوفت فيه ولادي".

أيتن عامر بين حياتها الشخصية والعملية

 على الجانب الآخر، تواصل الفنانة أيتن عامر نجاحاتها الفنية، حيث شاركت مؤخرًا في فيلم "عنب" الذي يحقق إيرادات جيدة منذ طرحه.

 الفيلم من بطولة مجموعة كبيرة من النجوم مثل إسلام إبراهيم، محمد رضوان، محمود الليثي، ونور قدري، ويخرجه أحمد نور. 

تدور أحداث الفيلم حول قصة كوميدية مليئة بالمفاجآت، تتعلق بشاب مستهتر يفقد ثروته ويجد نفسه في مواقف غريبة بعد حفلة مع أصدقائه.

مشاريع أيتن عامر الفنية القادمة

 بالإضافة إلى "عنب"، كانت أيتن عامر مرشحة لبطولة مسلسل "الحلانجي" بجانب الفنان محمد رجب، وهو ما يعكس نشاطها المستمر في الوسط الفني، رغم التحديات التي تواجهها على الصعيد الشخصي.

 يبدو أن الخلافات بين محمد عز العرب وأيتن عامر لا تزال قائمة، ولا تزال قضية رؤية الأبناء تشغل الرأي العام والمتابعين. وفي الوقت نفسه، تستمر أيتن في التركيز على أعمالها الفنية، حيث تظل واحدة من الأسماء البارزة في السينما والدراما المصرية.

مقالات مشابهة

  • العرب المُستبَاحَة
  • العرب والقومجية والأخونجية
  • خريف الخطر يا عرب
  • العثور على جثة شاب في البصرة انتحر بسبب الرسوب
  • حسن المقاومة والعرب الأراذل …!
  • محمد عز العرب يثير الجدل بتصريحاته حول رؤية أبنائه: "هرجعهم وهشوفهم في مصر"
  • هل ينجز الأفارقة ثورتهم ضد الاستعمار والاستبداد على خلاف العرب؟
  • رحل حسن.. وبقي نصرُ الله
  • ناصر منسي: ليفاندوفسكي مثلي الأعلي أوروبيا.. وعماد متعب محليا
  • ناصر منسي: ليفاندوفسكي مثلي الأعلى أوروبيا.. وعماد متعب محليا