مقدمة في نقد المركزية الديمقراطية
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
فتح الرد المختصر الذي اجبت فيه على سؤال الأستاذ زين العابدين صالح حول نشاط الزملاء في النقابات مقارنة بنشاطهم الحزبي الباب لنقاش مثمر. عقدت في الرد مقاربة بين الإطار المؤسسي للعمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني من جهة والمركزية الديمقراطية التي تنظم العمل الحزبي من جانب آخر. وخلصت لان الإطار التنظيمي يمكنه ان يقيد مساهمة نفس الشخص في موقعين مختلفين.
التجربة السوفيتية:
وبعد انتصار ثورتي فبراير واكتوبر 1917 تحول البلاشفة لحزب علني جماهيري. وفى أجواء الحريات تلك واصلوا مناقشة اراء كافة التيارات والمجموعات بحرية في المؤتمر العام. ولكن ومن داخل المؤتمر العاشر للحزب البلشفي الذي انعقد في 1921، وتحت ضغط ظروف الحصار والاقتصاد والحرب الاهلية، اقترح لينين مشروع قرار يمنع منعا باتا وجود أي تيارات داخل الحزب ووافق المؤتمر على ذلك.
ولم يقتصر تطبيق المركزية الديمقراطية على الحزب السوفيتي والأحزاب الشيوعية الأخرى بل تبنى الاتحاد السوفيتي مبدأ المركزية الديمقراطية على أساس انه قاعدة التنظيم الإداري في كافة هياكل الدولة ومؤسساتها (المادة الثالثة من الدستور السوفيتي). وانطلاقا من هذا المبدأ شكلت جميع أجهزة الدولة واداراتها وسياساتها لتتماشي معه. وكمثال صارت الخطة العامة الشاملة والتفصيلية تقرر في المركز وتتنزل الي المستويات الاقل في شكل برامج وسياسات محددة، ثم تقوم هذه الهياكل الوسيطة بنفس الدور مع الهيئات الأدنى، وتستمر الدورة حتى تصل الي أصغر وحدة إنتاجية في شكل واجبات محددة وجدول زمني معلن وما عليها سوي الانصياع والتنفيذ.
وبتطبيق هذا القرار وفى ظل دولة الحزب الواحد تقلصت فرص ممارسة الديمقراطية والحوار وأصبحت القرارات تأتى من القيادة. وهكذا وجد ستالين الأرض ممهدة لينفذ كل سياساته تجاه المخالفين له داخل وخارج الحزب وكذلك سياساته الاقتصادية والاجتماعية. ومضى ستالين الى نهاية شوط المركزية الديمقراطية بفرض رؤية واحدة لا تقبل النقاش وتأتى من القيادة. واستخدم من اجل إتيان ذلك أفظع أساليب القمع.
وهنا يجدر بنا ان نقف لحظة حول تجربة ستالين مع المركزية الديمقراطية. السبب في ذلك ان اراء كثيرة تحاول تحميل ستالين كل الجرائم والقمع والدمار الذي حدث. ونقول نعم مارس ستالين جرائم بشعة لا تغفر. ولكن ستالين نفسه هو التعبير المتطرف لممارسة المركزية الديمقراطية او بمعنى اخر انه مضي لأخر الشوط في تطبيقها وبأسلوبه المتميز. والسبب في ذلك وجود الاليات والهياكل واللوائح التي تسمح له بتنفيذ ما يريد وكذلك للسلطة التي يملكها السكرتير العام في ظل المركزية الديمقراطية.
وقرر الكومنتيرن (الأممية الشيوعية) ان مبدأ المركزية الديمقراطية هو شرط أساسي لقبول أي حزب في الكومنتيرن، بل ومضي أكثر من ذلك ليحدد بنود مختارة من دستور الحزب الشيوعي السوفيتي ليتم تضمينها في دساتير كل الأحزاب الأعضاء في الكومنتيرن او التي تود دخوله. وحتى الكومنتيرن في هيكلته وعمله طبق الديمقراطية المركزية عمليا حيث صار الحزب السوفيتي هو المركز المسيطر الذي تطبق كافة الأحزاب رؤاه وسياساته بل وتمشي في اقتفاء تجربته حذو الحافر بالحافر.
وحدد المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي السوفيتي، الذي انعقد في عام 1934، المركزية الديمقراطية في أربعة بنود/قواعد هي: انتخاب كل قيادات الحزب، القيادات المنتخبة عرضة للمحاسبة امام منتخبيها دوريا، نظام حزبي حديدي وصارم حيث تخضع الأقلية للأغلبية وقرارات الهيئات العليا ملزمة اطلاقا على الهيئات الدنيا ومجمل عضوية الحزب. وأدت هذه القواعد في ظل حملات التطهير والاعدامات والسجون الي تحول المركزية الديمقراطية الى ما سمى بالمركزية البيروقراطية. وهي تعنى السيطرة الكاملة للجهاز الحزبي على كل شيء واستمر ذلك الشكل لإدارة الحزب، مع تغييرات طفيفة، ختي انهيار النظام تماما وحل الحزب نفسه.
طرح البعض ان ترو تسكي كان من معارضي المركزية الديمقراطية وان ذلك هو سبب خلافه مع ستالين. وهذا غير صحيح بتاتا، لان الخلاف آنذاك كان حول بناء الاشتراكية في بلد واحد وحول الثورة الدائمة والصراع حول قيادة الحزب. وتميز تروتسكي بتشدد موقفه من انضباط وظهر ذلك جليا عند قيادته للجيش الأحمر. ويمكن ان اشير الي موقفه من المركزية الديمقراطية كما ورد في موقفه (أكتوبر 1939) من الدعوة في أمريكا لاستخدام الاستفتاء في المسائل الحزبية ودفاعه الحار عن كافة مبادئ المركزية الديمقراطية كما ورد في كتابه " دفاعا عن الماركسية".
حاول خروتشوف وفي إطار حملة تصفية الستالينية وعبادة الفرد لإجراء تغييرات ديمقراطية في الحزب وجهاز الدولة. وتم اختيار قيادة جماعية وقسمت المناصب الرسمية بينها ولكن بمرور الزمن تركزت السلطات مرة اخري في يد السكرتير العام (خروتشوف). كما حاول خروتشوف اجراء تعديلات ديمقراطية في عمل الحزب ومنها القيام بتحديد عدد الدورات التي يشغلها، رغم ان ذلك الاجتهاد لتحقيق توجه ديمقراطي لم يحدد انه سيشمل القيادة المركزية للحزب. ونجح الجهاز الحزبي الضخم في افشال ذلك التوجه بل، وفى النهاية، نجح في عزل خروتشوف نفسه عن قيادة الحزب والدولة.
ومن الملاحظ ان المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي والذي اجري عدة تغييرات هامة ومنها ما اسماه بدولة كل الشعب، والطريق السلمي للاشتراكية، وتعدد اشكال الوصول للاشتراكية والتعايش السلمي ولكنه لم يقترب من المركزية الديمقراطية وتركها كما هي كمبدأ لينيني مقدس لا يصح الاقتراب منه.
واستمر الحال، التمسك الصارم بالمبدئ التنظيمية اللينينية، كما هو خلال السنوات التي أعقبت ذلك. وتولت خلالها قيادة الحزب والدولة قيادات هرمة تشبه الموميات المحنطة. وتحس بذلك من الوجه المتكلسة التي تعرض، امام الجماهير، في الاحتفالات الرسمية الدورية التي تتركز علي العروض العسكرية واستعراض أحدث الأسلحة الحربية. وازدادت، خلال تلك الفترة، وتيرة التدهور الاقتصادي وانتشرت مظاهر الفساد واتسعت روح البأس والسلبية واللامبالاة وتفشي ادمان الكحول. ولم تهتم تلك القيادات بأجراء أي تغييرات في تنظيم الحزب او إشاعة الديمقراطية داخله او تفعيل نشاطه وسط الجماهير باعتباره، بنص الدستور، الحزب القائد للمجتمع والدولة.
ظهرت وخلال التحضير للمؤتمر الثامن والعشرين، الذي انعقد في عام 1990، التيارات داخل الحزب ولأول مرة منذ العشرينات وصارت تستخدم جرائد الحزب الرسمية في طرح رؤاها. بل وتصدى التيار الديمقراطي بالنقد للمركزية الديمقراطية علنا ووصفها كمعوق لنقد القرارات وحرمان الأقليات من مناقشة تلك السياسات. ولكن المؤتمر قرر تبديل اسم المركزية الديمقراطية بالديمقراطية المركزية وان أي قرار يصدر من الأغلبية ملزم للجميع مع حق الأقلية في الدفاع عن رأيها في المكاتب القيادية للحزب ومؤتمراته، ولكنه لم يسمح بتشكيل تيارات. وهكذا لم تغير التغييرات التي أدخلت من جوهر المركزية الديمقراطية، رغم تبديل طرفيها بتقديم الديمقراطية على المركزية،
حتى حل الحزب الشيوعي السوفيتي نفسه، والذي تم بقرار فوقي، لم يتحرك ذلك الجهاز الحزبي الضخم وملايين الأعضاء لمقاومته وللدفاع عن الحزب الذي كان الكل في الكل، وفي لمحة عين صار بلا وجيع.
siddigelzailaee@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المرکزیة الدیمقراطیة
إقرأ أيضاً:
سارة حازم: إصدار "الجنائية الدولية" أوامر باعتقال لـ"نتنياهو وجالانت" مقدمة لمحاكمة قتلة الأطفال
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قالت الإعلامية سارة حازم، إن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت اليوم، أوامر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع المقال غالانت بخصوص جرائم حرب في غزة.
وأضافت، خلال برنامجها "كل الزوايا" المُذاع على قناة "أون"، أن نتنياهو وغالانت متهمان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب من يوم 8 أكتوبر 2023 و حتى 20 مايو 2024، وهو اليوم اللي تقدمت فيه النيابة العامة طلبات إصدار مذكرات الاعتقال.
وذكرت أن بيان المحكمة الجنائية قال إن هناك أسبابا منطقية للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت ارتكبا جرائم وأشرفا على هجمات على السكان المدنيين.. وارتكابهم جرائم حرب تشمل القتل والاضطهاد وغيرها من الأفعال غير الإنسانية، وأن قبول إسرائيل باختصاص المحكمة غير ضروري.
ولفتت إلى أن جوزيب بوريل، مفوض السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، علق وقال إن قرار المحكمة الجنائية الدولية الخاص باعتقال نتنياهو وجالانت ملزم، وأنه يجب أن يُحترم القرار وينفذ من قبل جميع الدول والشركاء في المحكمة.
وتساءلت: "هل لهذا القرار تداعيات على نتنياهو وجالانت؟"، وأجابت: "نعم.. هناك أربع تداعيات أولها عدم قدرة نتنياهو وغالانت على السفر، ثانيا: إمكانية صدور العديد من مذكرات الاعتقال السرية الأخرى، ثالثا: قد يدفع القرار العديد من الدول لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل وربما مقاطعتها، وأخيرا: القرار يظهر إسرائيل بأنها دولة تمارس جرائم الحرب".
واختتمت: "أيا كانت طريقة تنفيذ القرار، فالمؤكد أن نتنياهو وجالانت أصبحا مطاردين من المحكمة الجنائية الدولية وممنوعين من دخول عدد كبير من الدول.. ودي هتكون مقدمة لمحاكمة قتله الأطفال والنساء".