بحلول التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل تمر الذكرى الـ33 بعد الـ100 لوفاة الأمير عثمان آدم جانو، عامل دولة المهدية (1885-1898) على ولاية دارفور، وهو من عترة عبدالله التعايشي الذي خلف المهدي على الدولة وأدارها حتى أطاحتها الحملة الإنجليزية في عام 1899. وأخضع جانو لدولة المهدية وهو في ريعان الشباب - لم يبلغ الـ30 ربيعاً - إقليماً عصياً.

وكانت دواعي ذلك الإخضاع هي تهجير أهل دارفور لأم درمان عاصمة الدولة على النيل، وهي الهجرة التي يؤرخ بها أهل الشمال النيلي (دار صباح في مصطلح دارفور) لدولة الدارفوريين (الغرابة في مصطلح دار صباح) فيهم. وارتبطت بسياسات تلك الدولة في الشمال وشدتها على أهل "دار صباح" ذكر غبينة عن سياسات المهدية وقساوتها عليهم.
وبالطبع لا يستغرب أن يستعيد قسم كبير من السودانيين واقعة تلك الهجرة التاريخية في مثل الحرب القائمة اليوم التي هي في وجه من الوجوه واقعة بين "دار صباح" والغرب. فشبّه أحدهم أفعال "الدعم السريع" في يومنا بما كان يقوم به عثمان جانو في زمنه. ومن ذكر تلك الهجرة التي لا تنضب معركة المتمة في أول يوليو (تموز) عام 1891. ومعركة المتمة، والمتمة هي حاضرة شعب الجعليين الشمالي على ضفة النيل الغربية، وتبعد 160 ميلاً من أم درمان، وانتصر فيها جيش المهدية الذي معظم قوامه من شعب البقارة على الجعليين. وكانت الحرب قد بدأت بأمر من الخليفة إلى أهل المتمة ليرحلوا من غرب النيل إلى شرقه بما اقتضته "مصلحة الدين" ليجعل من بلدتهم ارتكازاً لجيش المهدية بقيادة الأمير محمود ود أحمد المتربص بالحملة الإنجليزية التي توغلت في السودان بعد مغادرتها مصر. وبطريقة الخليفة في استخدام الجزرة والعصا خاطب أهل المتمة بلطف أول أمره قائلاً "بطيب نفس وانشراح صدر خذوا كافة أمتعتكم وأموالكم وجميع متعلقاتكم" إلى شرق النيل، وطلب منهم أن "يجتمعوا في مكان واحد ولا يتفرقوا". وانتبه حتى لفتح سوقهم بحذاء موطنهم الجديد عامرة، في قوله، كما كان. ورفض أهل المتمة الأمر، وبدا أنهم بيتوا الرأي على حرب المهدية. والتقى الجمعان في أول يوليو 1891، وانهزمت المتمة، وسبيت نساء وأطفال وصودرت أموال غنيمة لبيت المال.
وظل هذا السبي للنساء في مركز الدائرة في رواية طوائف الشماليين لعدوان المهدية عليهم. فيذكرون، بجانب قتل ألفين من رجال المتمة، كيف صانت جماعة من نسائهم شرفهن من السبي والانتهاك بأن ألقين بأنفسهن في النيل. ومؤسف ألا تبقى من المهدية عند كثير من الجعليين وغيرهم إلا تلك الذكرى الفاجعة وهم من أسدى للمهدية بذلاً كبيراً في الدفاع عنها أول قيامها. فبايعوا المهدي "بيعة الرضا" في أول عهدها. وكانوا طليعة الأنصار في معركة "أبو طليح" في 17 يناير (كانون الثاني) عام 1885 في مواجهة الفيلق الذي بعثت به إنجلترا لإنقاذ الجنرال غردون، حاكم عام السودان في أخريات الحكم التركي فيه، بفك حصار المهدي له في قصره بالخرطوم. وبلغ حماس عبدالله ود سعد عامل الأنصار على الجعليين للمهدية أن لقبوه بـ"التعايشي"، والتعايشة ممن ينتسب إليهم الخليفة عبدالله التعايشي، كانوا الصفوة العسكرية والإدارية في دولة المهدية.
لـ"ريكس أوفاهي" المؤرخ الإنجليزي المتخصص في تاريخ دارفور رأي مختلف عن أولئك الذين يرون أن قدوم البقارة المظنون فيهم الولاء للمهدية برابطتهم الإثنية للخليفة، من غرب السودان إلى أم درمان كان لتأمين الدولة المهدية ضد من أراد الانقلاب عليها من أهل الشمال، أو لينعموا بالحكم وخيراته. فقال إن قدوم البقارة إلى أم درمان لم يكن هجرة، بل منفى حملوا عليه حملاً، وبكلفة فادحة لهم بالأرواح والأموال، مما أحسن تدوينه موسى المبارك الحسن في "تاريخ دارفور السياسي 1882-1898" في مطلع السبعينيات ناظراً في وثائق المهدية. فالبقارة وغيرهم من أهل دارفور أبلوا بلاءً حسناً في نصرة المهدية بإزالة الحكم التركي الذي لم يقضوا تحته أكثر من عقد خلافاً للسودانيين الآخرين الذين لبثوا تحته لسبعة عقود، ولكنهم جعلوا من هجرتهم إلى أم درمان مأمورين خطاً أحمر لن تكون إلا فوق جثثهم. فلم يرغبوا، وقد تخلصوا من حكم مركزي في الخرطوم، أن يستبدلوا به آخر من أم درمان. وظل عثمان جانو طوال فترة عمالته على دارفور يحارب تلك النزعة الاستقلالية عند أهلها. فشهدت دارفور معارضة مؤسسية من ممالك تاريخية فيها، ناهيك بجماعاتها القبلية.
فانبعثت "سلطنة الفور" بعد زوال حكم الأتراك، وعلى رأسها وريث من بيتها الحاكم هو الأمير يوسف بن إبراهيم. فقاتل المهدية دون عرشه المستعاد حتى ظفرت به وقتلته. ولم تكن تلك الخاتمة لظهور الأمير "أبو الخيرات" ليواصل تمكين سلطنته ويشكل بؤرة يجتمع عندها كل خصم للمهدية. من جهة أخرى، نشبت في عام 1889 ثورة اشتهرت بثورة "أبو جميزة" كانت تعبيراً عن مقاومة الممالك الغربية عند حدود السودان وتشاد وما بعدها لخطط المهدية لإخضاعها لحكمها، وبلغت تلك الثورة من الشدة حداً اضطر معه عثمان جانو إلى إخلاء حامياته كلها ليتحصن بعاصمته الفاشر حتى نجح أخيراً في فك الحصار عنه وإخماد الثورة.
أما البقارة بالذات فقاوموا الهجرة ما وسعهم، فقاتلوا دونها سرايا الأنصار، وتحالفوا في ما بينهم لدرء الهجرة عنهم متحالفين مع سلطنة الفور وقبائل أفريقية مسلمة مثل الزغاوة والميدوب. ومتى ما هزمت المهدية فريقاً لاذ إلى الأماكن المنقطعة ليأمن دون تهجيره. ففر البقارة إلى بحر العرب في حين فرت قبائل شمال دارفور إلى عمق الصحراء. ولاذ الفور وسلطانهم إلى مناكب جبل مرة الحصينة. ولقي البقارة من المهدية الأمرين قتلاً وتغنيماً وسبياً. وأعرض هنا لصراع المهدية مع التعايشة المظنون أنها جاءت لأم درمان اختياراً أو طمعاً، ومع الرزيقات التي هي في واسطة قوى "الدعم السريع" ليومنا، لتبيان كيف كان قدومهم من دارفور إلى أم درمان نفياً مكرهين فيه لا أبطالاً.
وبذل الخليفة قصارى جهده ليأتي بقرابته التعايشة إلى أم درمان. ونواصل.
مضطر إلى توفير هذا الرابط لتنزيل كتاب "تاريخ دارفور السياسي" خلال المهدية (نشر في مطلع السبعينات) المرحوم موسى المبارك الحسن لكراهتي هذا التسويق الغادر لأنه، لو ذاع بيننا، مما كان لطف تفكير كثير من حملوا "عنف" الدولة المهدية كأنه مما ابتلى الله به الشماليين دون غيرهم من السودانيين. رحمه الله أذكر إحسانه البحث منذ قرأته أول مرة.

https://archive.org/.../20220131.../page/n185/mode/2up

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: إلى أم درمان دار صباح

إقرأ أيضاً:

مني أركو مناوي: سقوط ولايات دارفور إهانة وطنية وعيب على الدولة

الخرطوم- حذر حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي من أن سقوط دارفور بكاملها بيد قوات الدعم السريع سيؤدي إلى إبادة وتطهير عرقي شامل للقبائل غير العربية، أسوأ مما حصل في رواندا.

وفي حوار خاص مع الجزيرة نت، وصف سقوط بعض ولايات دارفور بأنه إهانة وطنية، لكنه أكد في الوقت ذاته فشل مشروع الاستيلاء على السودان لصالح من سماهم بـ"البعثرة العرقية من شتات أفريقيا".

وحسب حاكم إقليم دارفور، فإن دخول قوات الدعم السريع في حرب مفتوحة وارتكابها انتهاكات واسعة أمام أنظار الأوساط الدولية، جعل الدول التي وقفت وراء هذه الحرب "الفاشلة" تشعر بتأنيب الضمير. وحول ما يثار بشأن انحياز تشاد لصالح هذه القوات رغم علاقاتها الخاصة بالحركات المسلحة في دارفور، قال مناوي إن علاقة تشاد بشعوب دارفور أبدية ولها امتداد اجتماعي واقتصادي وأمني.

وفيما يلي نص الحوار:

كيف تفسرون الإصرار الكبير من قبل الدعم السريع للاستيلاء على الفاشر وتحذير واشنطن لهم من الهجوم عليها؟
من الواضح جدا فشل الخطة الأولية وهي الاستيلاء على السودان لصالح البعثرة العرقية من شتات أفريقيا، وهذا جعل الدولة الداعمة تسعى لتجد لها بديلا للسودان كله وهي جزء منه.

وبالنسبة للداعم والكفيل فإن هذ الأمر غير مخجل بالنسبة له، أولا لأن ذلك حصل بفضل أفعاله في إحدى دول الإقليم، وثانيا لأن بعض الدول العربية تنظر إلى أفريقيا وشعبها كمجرد قطعان، والأرض لهم.

جهات دولية عديدة ترى أنه لا حلا عسكريا في السودان، هل يعني هذا أن الدعم السريع ربما سيكون له وجود في جهاز الدولة مستقبلا؟
"لا حلا عسكريا"؛ هو موقف السودان أصلا، إلا أن جهات دولية هي من أججت ودفعت الدعم السريع لاتخاذ خطوة امتلاك السودان بالقوة وجلب عرقيات تنتمي إليه من خارج حدود البلاد على حساب أبناء السودان.

إلا أن الدخول في حروب مفتوحة والانتهاكات التي ترتكبها قوات الدعم السريع جعلت الدول التي وقفت وراء هذه الحرب الفاشلة تشعر بتأنيب الضمير. لذلك فإن الحرب ليست نزهة وأهل السودان هم من يرون أنها يجب أن تتوقف.

البعض يرسم مستقبلا مظلما للحركات المسلحة والقبائل غير العربية إذا سقطت الفاشر في يد الدعم السريع، ما خطتكم البديلة وأين ستذهبون؟
طبعا كان الغرض من تسليح القبائل العربية، والتي تحولت فيما بعد إلى الدعم السريع منذ 1987 خلال فترة حكم الصادق المهدي، هو استئصال القبائل غير العربية والاستيلاء علي أراضيها وتعريبهم بالقوة واستعبادهم. فهذا تم لحد كبير جدا والآن في مناطق وادي صالح وسط دارفور تُستعبد شعوب بعينها منذ بداية التسعينيات، وكذلك في غرب دارفور.

فالخطوات جرت بشكل منتظم. لذلك سقوط دارفور بكاملها بيد الدعم السريع يعني أنه ستقع إبادة وتطهير عرقي شامل سيكون أسوأ مما حصل في رواندا وبل أسوأ مما حصل لليهود في أوروبا.

ناك علامة استفهام حول طبيعة الدور التشادي، ما السر في انحيازه للدعم السريع رغم العلاقات التي كانت قوية معكم كحركات دارفورية مسلحة؟
علاقة تشاد بشعوب دارفور أبدية بل ولها امتداد اجتماعي واقتصادي وأمني. وكان الرئيس الراحل إدريس ديبي يعلم ذلك بعمق. أما تدخلات بعض دول المال لاستمالة حكومة تشاد لصالح أجندتها الأيدولوجية، فهذه مجرد سحابة عابرة لن تستمر.

بصفتك حاكما لإقليم دارفور، ما المساحات التي تبقت تحت سيطرة الحكومة الآن؟
سقوط ولايات دارفور إهانة وطنية وعيب على الدولة وليست على حاكم الإقليم طالما لم تكن دارفور دولة ذات سيادة، لذلك يجب أن تسأل قيادة الجيش وليس الحاكم.

هناك من يقول إن دارفور على وشك أن تقول وداعا للسودان وتستقل عنه بحكم منفصل، خاصة بعد تكوين الإدارة المدنية، هل ترون إمكانية لحدوث ذلك؟
أهل دارفور مجمعين على وحدة السودان، إرادة فصيل من الإقليم أو مجموعة الدعم السريع لا تمثل أهل دارفور، ولا يمكن أن تودع دارفور السودان حتى إذا أرادت الدولة مساومتها ببعض أطراف الوطن، لن يحصل ذلك إلا بإرادة أهل الإقليم.

المصدر : الجزيرة  

مقالات مشابهة

  • مني أركو مناوي: سقوط ولايات دارفور إهانة وطنية وعيب على الدولة
  • الحرب والفيضانات والأوبئة.. ثالوث ينهش جسد السودان
  • بالفيديو.. العطا يتفقد المواقع الأمامية بأم درمان وبحري مدشنا ربط أم درمان وبحري رسمياً
  • عشرات الإصابات وسط المدنيين في قصف على أحياء أمدرمان القديمة
  • (الجيش).. معركة كسر العظام!! تقدمٍ كبيرٍ في محوري دارفور والجزيرة
  • الحرب والفيضانات والأوبئة.. ثالوث ينهش جسد السودان (تقرير)
  • افتتاح مركز لغسيل الكلي وقسم للطوارئ بمستشفى المتمة شمالي السودان
  • اليوم الثاني.. اشتباكات عنيفة بالخرطوم بين الجيش والدعم السريع
  • السودان: حرب منسية تهدد بكارثة إنسانية ومجاعة غير مسبوقة
  • الجيش السوداني يخوض اشتباكات عنيفة لليوم الثاني مع قوات الدعم السريع وتقدم جديد في العاصمه الخرطوم