سودانايل:
2025-03-04@08:28:03 GMT

رائحة من نحب

تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT

كانت الرصاصات الثلاث التي اخترقت نافذة منزلنا الزجاجية في ( ابروف) و سقطت على بعد سنتيمترات قليلة من رأس صغيري ( يحي ) وهو نائم ، سببا كافيا لأقناعي بعد شهر و نصف من بداية الحرب التي اشتعلت نيرانها في العاصمة ( الخرطوم ) بمغادرة المنزل إلى مكان آمن و العودة بعد أيام قليلة - حسب ما صور لنا الأمل الكاذب وقتها - لحياتنا العادية الهادئة و التي لم نكن ندري أننا قد فقدناها و للأبد.


كنت و أنا أعد حقائبنا الصغيرة و التي وضعت فيها القليل جدا من إحتياجات السفر المعتادة، افاضل بين الأشياء و الضروريات، و كان صوت ( يحي ) و هو يحثني على المغادرة في يوم الرحيل حزينا و متوترا فقد اكتست سماء ( أمدرمان ) بسحائب سوداء و كنا نسمع دوى الانفجارات و أصوات الرصاص تتناهي إلينا من كل الإتجاهات.
كانت المرة الأولى التي أغادر فيها المنزل منذ اسابيع ، جلست في المقعد الخلفي للسيارة الصغيرة التي أقلتنا و بعض الأقارب إلى أرض الجزيرة الخضراء و بدا الوجه الجديد لمدينتي الحبيبة يتكشف لعيني الذاهلتين، مغبرا و شاحبا و متشحا بالسواد. كانت السيارة تطوي بنا المسافات و تطوي معها قلبي مثل سجادة عتيقة مليئة بالثقوب و بالغبار . لم أكن أعرف وقتها أن الأماكن التي تسكنني سوف تصبح بعد أيام قليلة مسكونة بأشباح سيهبطون عليها من اسوء مكان في الجحيم.
كانت مدينة بحري وقت عبورنا لطرقاتها وردة من دخان اسود، وردة شذاها البارود و نداها دموع الخائفين الذين كانوا يركضون في كل اتجاه. بعضهم يبحث عن ملاذات آمنة و بعضهم محمل بغنائم الحرب التي نهبها من منطقتها الصناعية و ما جاورها من منازل غادرها أصحابها على عجل في الأيام الأولى للحرب. في صمتي ذاك و ذهولي تحولت إلى تمثال من الشمع.
تخونني الحروف و تحتار مشاعري بعد كل هذا الوقت في ترجمة ما أحسست به في تلك اللحظات، كان شيئا ما يعتصر قلبي ، قلبي الثقيل مثل اسفنجة بائسة مبللة بالدموع و بالدماء . كنت اتشظي في صمت و كانت الرحلة التي ستطول في لجج المجهول قد بدأت لتوها.
بعد إقامة قصيرة في أرض الجزيرة بدأت الأنباء تتواتر عن دخول التتار الجدد لدارنا، عن إقامتهم فيها، عن استباحتهم لممتلكاتنا و ذكرياتنا ، عن نبشهم في خصوصياتنا ، صورنا ، تذكاراتنا، عن أشياء لم يعرفوا قيمتها المعنوية لنا و لن .
هيأ الله لابني ( يحي ) مخرجا و يسر له سبيل السفر إلى خارج البلاد في وسط هذه الفوضى العجيبة . حمدت الله الذي يدبر بلطفه جميل اقدارنا، فكلما أغلق باب، فتح برحمته أبوابا و أبواب.
عرف الصغار - وهم خارج السودان - بما حدث من اقتحام و استباحة للمنزل في ( أمدرمان ) لكنهم أخفوا الخبر عني ، خوفا علي و رفقا بي ، مؤخرا عرفت به كما عرف الكثيرون مثلي ففي النهاية لابد مما ليس منه بد. مرة أخرى تحولت إلى تمثال، تمثال من الحجر هذه المرة، فهناك في تلك الدار الصغيرة و في تلك الدواليب التي تركنا مفاتيحها معلقة فيها ، كان يوجد أغلى ما أملك. أكياس مغلقة و مغلفة بعناية فيها ملابس من أحب و عليها رائحتهم . فستان ( سلافة) الذي ارتدته أخر يوم لسفرها، توب أمي ( أب قجيجة) الأبيض الذي يحمل بقايا عطرها، جلباب والدي الذي ارتداه أخر مرة قبل أن يتمكن الداء اللعين من جسده ليرحل عنا حاملا معه عمر من المحبة و الحنان ، طرحة ( حبوبة التومة) التي كانت تتلفح بها في مقيلها في ظلها الظليل وسط أولادها و بناتها و أحفادها و أشياء و أشياء - بلا شك - مشت فوقها و داستها أحذيتهم القذرة اثناء بحثهم المحموم عن الغنائم دون أن يأبهوا لبكاءها و بكاءنا!!
أتساءل و أنا ( هنا ) كلما حملني الحنين إلى ( هناك) : هل تتذكرنا تلك الأماكن ؟ هل تحن إلينا خيوط الطرح و التياب و الجلاليب و الطواقي المبعثرة بإهمال على الأرض الآن و التي احتفظنا بها لسنوات طويلة في القلوب قبل الرفوف و الادراج؟ هل ما زالت تحتفظ بدفء لمساتنا و نحن نحملها بين أيدينا، نقربها من انفنا، نشمها و نقالدها و نعانقهم ( و نتكرف) رائحتهم فيها ؟!
تبا لك يا أيتها الحرب اللعينة لم تسلبينا الحياة ، سلبتينا ما يعطي الحياة حياة.
/////////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

صورة نادرة لنصرالله.. من ظهر معه فيها؟

تناقل ناشطون عبر مواقع التواصل الإجتماعي صورة نادرة تظهر أمين عام "حزب الله" الشهيد السيد حسن نصرالله إلى جانب الأمين العام السابق للحزب الشهيد السيد عباس الموسوي.

وأفاد ناشطون بأن الصورة التقطت في أوائل تسعينيات القرن الماضي فيما قال آخرون أنها تعود إلى أواخر الثمانينات، وذلك قبل استشهاد الموسوي عام 1992 إثر غارة إسرائيلية.

مقالات مشابهة

  • قلبي ومفتاحه الحلقة 3 .. مي عز الدين تطلب الانفصال من آسر ياسين
  • رائحة الكبريت تعود إلى بغداد
  • لوموند: كيف أثر السيسي على الدور الذي كانت تلعبه مصر في القضية الفلسطينية؟
  • موعد عرض الحلقة الثالثة من مسلسل قلبي ومفتاحه لـ آسر ياسين ومي عز الدين
  • صفورية التي كانت تسكن تلال الجليل مثل العصفور.. جزء من هوية فلسطين
  • إفطارهم فى الجنة.. أحمد جمال من رائحة الأمل إلى أفق الشهادة
  • مسلسل قلبي ومفتاحه الحلقة 2.. مى عز الدين تتشاجر مع آسر ياسين في أول لقاء
  • موعد عرض الحلقة الثانية من مسلسل قلبي ومفتاحه لـ آسر ياسين ومي عز الدين
  • صورة نادرة لنصرالله.. من ظهر معه فيها؟
  • دراسة تكشف تأثير الروائح العطرية على الحالة المزاجية والأداء