كيف سينعكس تحسُّن الاقتصاد على المجتمع؟
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
د. عبدالله باحجاج
أصبح تساؤل العنوان أعلاه مُلِحًا الآن بعد ما بثَّ معالي الدكتور سعيد بن محمد الصقري وزير الاقتصاد، الاطمئنان في نفوس كل المُواطنين، بانعكاس عاجل لتحسُّن وضع الاقتصاد الوطني على دخل الأفراد والقدرة الشرائية، لكن كيفية حدوث ذلك باتت حديث الساعة، خاصةً وأن التصريح قيَّدَ الاطمئنان بشَرْطَيْ الاستعجال والشمولية.
ووفقًا للفقرة الواضحة المعنى والقطعية التي استخدمها معاليه عندما قال نصًا: "نُطمئن الجميع بأن مؤشرات تحسُّن الاقتصاد ستنعكس عاجلًا على مؤشرات دخل الفرد والقدرة الشرائية". من هنا لم يعد التساؤل متي سينعكس، وإنما كيف سينعكس؛ فالزمن مُقيد بمفردة "عاجلًا" والاستهداف يشمل كل المواطنين، وهنا التزامات وطنية تُقطَع في لقاء إعلامي لوزارة الاقتصاد؛ أي أنه كان مُعدًا مُسبقًا، ومن ثمَّ فكل ما جاء فيه قد خُطِطَ له، ونتائجه مُستهدفة.
هكذا يُفهم من سياقات الحدث وماهياته، مما يجعلنا نعتبره برنامجًا وطنيًا استدراكيًا لبعض المسارات التي أخلت بالتوازنات الاجتماعية والاقتصادية وأحدثت مصاعب اجتماعية، ولن نتوقف عند رؤية معاليه فيما يتعلق بارتفاع فاتورة الكهرباء التي أرجعها إلى طول فترة فصل الصيف وارتفاع الحرارة، وهو قولٌ يُثير الجدل الاجتماعي، ويحجُب التفاؤل عن تصريح معاليه؛ فردود الفعل الاجتماعية لم تتفق مع رؤية معاليه، ومن ثم امتدت السلبية لتصريحه محور حديثنا، وإلى الآن يعتبرونه- أي التصريح- من التصريحات الطوباوية / المثالية.
وبصرف النظر عن الموقف الاجتماعي، فأمامنا الآن التزام صريح من وزير تُعنى الوزارة المسؤول عنها بتحقيق التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، وقد أُنشِأت الوزارة في 18 أغسطس 2020، وتصريحه يدخل في صلب إعادة التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بعد أن اختل توازن دخل الأفراد وقدرتهم الشرائية لقرابة 3 سنوات وحتى الآن؛ بسبب السياسات والخطط التي اتُخِذَت لمواجهة أزمتي النفط وكورونا. لذلك.. فمعالي الوزير يُعبِّر عن توجهٍ في تصحيح الاختلالات بعد أن بلغت مبلغًا في الأعماق الاجتماعية ما يُعجِّل بالتدخل الحكومي، ومن الطبيعي أن يكون عبر وزارة الاقتصاد نظرًا لاختصاصها الوظيفي، كما إن طبيعة مرحلتنا الاقتصادية مُهيَّأةٌ الآن للتصحيح واستدراك المسارات.
وإذا لم تأتْ مثل هذه التدخلات الآن، فهل لنا تصوُّر أو تصوير السيناريو الاجتماعي المُقبل في ظل تصاعد الاستياءات؟ من هُنا تحتل قضية الكيفية المعنون بها المقال شغلنا الشاغل، بعد أن حسم معاليه الأجل الزمني للتطبيق "عاجلًا" وكذلك شموليته "لكل المواطنين". وهنا منطقة تفكير نفتحها لعلنا نُساهم من خلالها في تعميق الوعي بماهية الكيفية المُشار إليها، ونقول صراحة إن أي مسار تصحيحي أو استدراكي للاختلالات ينبغي أن يكون وفق استعادة المفهوم الاجتماعي للدولة، الذي تأثر جرّاء التحولات المالية (من ضرائب ورسوم ورفع جزئي للدعم)، وأصبحنا نؤسس مفهومًا جبائيًا مؤثرا اجتماعيًا.
وقد تأسس المفهوم الاجتماعي على اعتبار أنه إحدى وظائف الدولة منذ عام 1970، وليس كمفهوم آيديولوجي، صحيحٌ لم يكن التطبيق مثاليًا في ظل الاقتصاد الريعي، لكنه مع ذلك استوعب الثقل الاجتماعي والفكري للدولة. ويبدو أنه عندما انتقلت البلاد من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد الجبايات، لم يكن وراء هذا الانتقال فهمٌ عميقٌ بمآلات هذه النقلة التاريخية، ولا بمركزية المفهوم الاجتماعي للدولة، فتأثرت بُنى أساسية في المنظومة الاجتماعية، بعد تبنِّي الضرائب والرسوم ورفع الدعم جزئيًا، وتراجع الدخول.
وهنا ننطلق من فهم عميق لماهية الدولة العمانية ككيان تاريخي وسياسي في إطار جغرافيتها وديموغرافيتها، وتاريخها الذي يُشكِّل هويةً خاصةً مُتوارثة، وكذلك في إطارها الإقليمي الذي يُشكِّل كبرى تفاعلاتها التاريخية، في ظل أحداث مصيرية ما زالت تُلقي بظلالها حتى الآن، ولن تتلاشى مهما كانت طبيعة المرحلة الإقليمية الراهنة أو المستقبلية. ولا ينبغي أن يغيب ذلك عن وعي الفاعلين الحكوميين؛ حيث لا يُمكن فصل الخيارات الداخلية المختلفة عن محيطها الإقليمي؛ فالخيار التنموي مثلًا ليس شأنًا داخليًا خالصًا، بقدر ما ينبغي أن يُواجِه مجموعة تحديات خارجية من داخل جغرافيتنا السياسية.
ولا يمكن فصل الخيارات التنموية والاقتصادية عن الماهيات الثابتة للدولة العمانية؛ إذ يحتل المُكوِّن الاجتماعي/ الفكري مركزيَّة قيادة ثوابت الدولة، وهذا يُلزم كل فاعل حكومي أو رسمي- مهما كانت تموقعاته الوظيفية داخل الدولة- أن يكون على دراية معرفية- إن لم تكن علمية- بماهيات الثابت والمُتحوِّل فيها، وذلك حتى نضمن أن تكون الخيارات متسقة ومتناغمة مع تطور وحداثة الدولة، وذات قابلية اجتماعية، بصرف النظر عن الخيارات الإقليمية؛ فالمكوِّن الديموغرافي/ الفكري، يعد من القوى الصلبة التي ينبغي الحساب لها، ومن بين أهم هذه الحسابات تجنُّب نسخ تجارب إقليمية أو مسايرة أفكارها إلّا بعد تدقيقها وتمحيصها لمعرفة مدى إمكانية تطبيقها في بلادنا.
ونرى في دور وزارة الاقتصاد ما يُلامس هذا الوعي السياسي؛ فهو يطرح عودة المفهوم الاجتماعي للدولة من منظوريْ تحسين دخل الأفراد والقدرة الشرائية، ويُمكن من خلالهما قيادة عودة المفهوم الاجتماعي للدولة بصورة محسوبة وذكية، بحيث يُجنِّب البلاد سلبيات مفهوم الاقتصاد الريعي، ومخاطر اقتصاد الجبايات المُطلقة. ورغم أن معالي وزير الاقتصاد لم يوضِّح الكيفية التي سينعكس من خلالها تحسُّن الاقتصاد على دخل الافراد والقدرة المعيشية لكل المواطنين، لكننا لا يمكن تصوُّره دون تغيير الحد الأدنى للأجور (عند 325 ريالًا بالقطاع الخاص)، ودون حق الباحثين عن عمل والمسرحين من أعمالهم في الحصول على راتبٍ، ودون إيجاد نظام اجتماعي يمنع الانزلاق نحو الفقر، عوضًا عن الاكتفاء بنظامٍ لتخفيف حدة الفقر، وهذا طرح سبق أن نشرناه.
وسيكون من الخطأ الاستراتيجي لو استمر الفاعلون الحكوميون في تحقيق التوازن المالي على حساب التوازنات الاجتماعية والاقتصادية وفق نُسخها الراهنة، التي لا تراعي الإضرار بالمكوِّن الاجتماعي/ الديموغرافي، خاصةً الآن بعد تحسُّن اقتصادنا وتحقيق الميزانية العامة للدولة لفوائض مالية، وهذه تطورات لا يُمكِن تجاهُلها، وكأننا ما نزال في المربع الأول لأزمتي كورونا والنفط. وحتى خلال مرحلة المربع الأول، تعرَّض المواطن لمصاعب مُبالغ فيها، رغم أن الحكومة نجحت سريعًا في مراقبة التكاليف والجودة وإغلاق أوجه التبذير الفوقية والتحتية؛ سواء في قطاعات الموازنة أو الموازنات الخاصة، ووفّرت سيولة مالية كبيرة، يمكن من خلالها تحقيق التوازن المالي إذا ما علمنا بتاريخ ضعف التنظيم والرقابة في المشاريع والأوامر التغييرية. ويظل الرهان على صرف كل ريال في مكانه ووفق الرقابة والشفافية الفعالة، غايةً مُستدامةً، ووسيلةً ناجعةً لتحقيق التوازن المالي.
تكفي السنوات الماضية لكي تترسخ في القناعات السياسية مركزية المفهوم الاجتماعي للدولة، وتكون استعادتها بنسخة متطورة من تجربتي النظامين الريعي والجبائي، كبرى الغايات الوطنية. فهل هي مسؤولية وزير أم منظومة وزارية أم عملية سياسية خالصة؟
مهما تكن الإجابة، فإنَّ المفهوم الاجتماعي للدولة يُعد من أهم وظائفها، وهو ضامن للاستقرار، ربما تستفرد بذلك لوحدها في المنطقة، لذلك لا مجال لمُسايَرة غيرها مهما كانت الإغراءات، وعليها أن تُحدد خياراتها التنموية والاقتصادية؛ بما يتناغم مع هذه الحقيقة، والفرصة الآن مواتية لتصحيح بعض المسارات في ضوء ما كشفه مع وزير الاقتصاد بانعكاس عاجل لتحسُّن الاقتصاد على دخل الافراد والقدرة الشرائية، ومنهما يمكن أن تكون الانطلاقة لضمانة الاستقرار في حقبة إقليمية تُفكَّك كتلها الصلبة من خلال تبني منظومة متكاملة من الضرائب والرسوم وإطلاق الحريات المدنية، وفتح البلدان لغزو ديموغرافي متعدد الجنسيات؛ بما فيها جنسيات لها آيديولوجيات إقصائية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
القمة العالمية للحكومات.. أفكار خلاقة وتجارب ملهمة
إن فلسفة التنمية والتطور في الإمارات تعبّر عن رؤية حضارية محفزة لاستنهاض الهمم للحاضر والمستقبل.
أصبح هذا البلد الآمن وسطًا في إقليم جغرافي مليء بالصراعات والأزمات
استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة القمة العالمية للحكومات، حيث تناقش جملة من القضايا التي تهم مستقبل دول العالم وحاضره، بمشاركة أكثر من 30 رئيـــس دولة ورئيس وزراء، وأكثر من 140 وفداً حكومياً وجميع المنظمات العالمـــية وقيادات عالمية ومنظمات دولية وروّاد الأعمال وصنّاع التغيير. وكلمة نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي سمو الشيخ محمد بن راشد تختصر كل العبارات الإيجابية والملهمة. وقال سموّه، في منشور عبر منصة «إكس»: «هدف دولة الإمارات من هذه القمة تقريب المسافات وبناء الجسور واستشراف المستقبل وتطوير عمل الحكومات وكل ذلك من أجل خير الشعوب وتقدم البشرية». لاسيما سمعة الإمارات في كل المنابر الدولية انعكست في مشاركة أكبر المؤسسات الاقتصادية والشراكات العلمية والبحثية.
قمة الحكومات 2025 تعكس التزاماً إماراتياً يدعم منظومة العمل الحكومي والتعاوني من أجل عالم أكثر استدامة، بغية تحقيق أهداف التنمية الشاملة من أجل مستقبل أفضل لمجتمعات العالم، تتلاقح فيها الأفكار الخلّاقة مع المشاريع والشراكات الاستراتيجية الملهمة والتجارب الرائدة عالمياً.
وبالفعل أثمرت الرؤية الحضارية للإمارات لتصبح سابقة عصرها، لإحداث فرق ملموس ونتائج واضحة ظهرت بجلاء حينما وظِّفت الإمكانيات والموارد لبناء القدرات الوطنية المؤهلة، وتطوير بيئة العمل الحكومي برؤية خلاقة ونظرة استشرافية للمستقبل.
وتندرج القمة في إطار سعي الإمارات الدائم لأن تكون المنصة العالمية لاستشراف مستقبل الحكومات، وتعتبر إسهاماً من قيادتها الرشيدة لتطلق طاقات الشعوب وترفع من مكانة الإنسان وإزالة المعوقات التي تعترض طريقه، بغية تأسيس نموذج للتعاون الدولي يهدف إلهام وتمكين الجيل القادم من الحكومات، واعزو كل هذا الانجاز والاستحقاقات التي نالتها الامارات الى قدرة التسامح الثقافي والديني والسياسي الذي قادنا إليها شيوخنا عبر مراحل التاريخ، تم تجسيدها الى برامج وخطط ومشروعات تتمحور كلها حول تهيئة البيئة اللازمة لتمكين الفرد المواطن من عناصر القوة اللازمة، فقد استوعبت قيادتنا الرشيدة العبرة مبكّرًا عندما أهّلت الكوادر الوطنية لتكون السعادة والإيجابية محور اهتمام كل أبناء المجتمع، وهي ليست استراتيجية حكومية فحسب، بل ثقافة ومسؤولية وطنية بحتة أيضًا.
لا شكّ بأنّ الإمارات تسعى لأن تكون "الحاضنة الأولى للطاقات البشرية الاستثنائية" المبدعة في القطاعات الحيوية كافة، لهذا فإنّ تفعيل استقطاب رواد الأعمال والمبتكرين والكفاءات التخصصية الاستثنائية في المجالات الطبية والعلمية والبحثية والتقنية والفكرية والثقافية، وتقديم تسهيلات جديدة للشركات متعددة الجنسيات لنقل مقراتها للدولة يؤكد المكانة البارزة والدور الفاعل للدولة في تعزيز التنمية المستدامة للشباب، وكونها مصدر إلهام ومحفّزًا لطرح أفكارهم وتصوراتهم الجريئة على مستوى العالم.
فهي استراتيجية وطنية فذّة للاستثمار في الكفاءات الإنسانية، واستغلال المخزون الفعلي للمستقبل في عقول البشر وثروته في أفكاره وإبداعاته، وأيضًا تعدّ فرصة سانحة في ظل أوضاع عربية بائسة وظروف أمنية متدهورة، ما شكّل كارثة إنسانية في هذا القرن، وهجرة عقول كبيرة إلى الخارج، واستقطاب الدول الأجنبية لهذه العقول، والتنقيب والبحث عن هذه الثروات سيضيف هذا العمل الحكومي لدولتنا ومنطقتنا إضافة نوعية، وسينتشل واقعنا من الخيبة والمآسي، ويحمي واقع المبدعين من اليأس والبأس.
لذلك كان لزامًا أن تضطلع دولة الإمارات العربية المتحدة بدورٍ قياديٍّ في هذا المضمار، لأنها أثبتت بأنّ مصدر تفوقها ونجاحها ليس بالعمران وبالبناء الشاهق فحسب، بل حينما أصبح هذا البلد الآمن وسطًا في إقليم جغرافي مليء بالصراعات والأزمات، وهناك مجموعة من العوامل الجاذبة لكي تتفجر الإمكانيات الحقيقية لهذه المواهب التي سيتم استدعاؤها والحفاظ على استمراريتها، ما جعل الإمارات سباقة ورائدة في استغلال النبوغ والتميز الانساني قبل أن تختطف هذه المواهب أو تنتزع من أحضان أمتها، ما جعل الإمارات بهذه المبادرات الخلاقة تتبوأ مقعدها الحضاري والتنويري بين الأمم .
فالمناخ العام والأجواء المنفتحة والتسامح ومدى تقدير التنوُّع والاختلاف بين البشر أصبحت قيمًا راسخة في شعب الإمارات، وأفسحت المجال لتكثيف الاتصال مع الآخرين بهدف إزالة الحواجز بين الشعوب وتحقيق عامل جذب لاستقطاب الكفاءات والمواهب لدعم ودفع عجلة للاقتصاد الوطني نحو الازدهار، فالاقتصاد المستقبلي قائم على العقول المبدعة ومدى إطلاق إمكانياتهم.
جزء مهمّ من المعادلة الصعبة والمنعطف التاريخي لشعب الإمارات حينما تم تحويل منظومة القيم الإيجابية الفاعلة والمتأصلة أداة للتنمية والاستدامة، فالبوصلة الأخلاقية هي التي أرشدت قيادتنا حكومة وشعبًا إلى الرأي الديني الأكثر رحمة واعتدالًا القائم على السماحة والاعتدال، وأهم ما في هذا المنجز هو تتويج شعب الإمارات بصفته أحد أسعد شعوب العالم، في فترة زمنية فارقة تجاوزت كلّ المؤشرات العالمية لكثير من الدول المتقدِّمة، ما يشعرنا بالانتصار والإنجاز، ويعزز دور التفوق التنافسي العالمي للدولة.