أليكسيس ترود يكتب: «قارة تدمر بعضها».. تباطؤ التكامل الأوروبى فى منطقة غرب البلقان.. محنة أم فرصة لأوروبا؟
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
يبدو أن عملية التكامل الأوروبى الأطلسى متوقفة فى بعض بلدان منطقة البلقان، بينما هى جارية بالفعل فى بلدان أخرى، فهناك ٦ دول فى منطقة البلقان تسير فى طريق التكامل ولكن بدرجات متفاوتة من النجاح؛ فقد انضمت كرواتيا وهى الدولة الأكثر تقدمًا فى هذه العملية إلى الاتحاد الأوروبى فى عام ٢٠١٣، إذ قامت بحل مشكلة حدودها البحرية مع سلوفينيا، كما حكم على الجنرال أنتى جوتوفينا الذى كان هو المحطة الشائكة الرئيسية فى طريق المفاوضات بالسجن لمدة ٢٤ عامًا فى أبريل ٢٠١١، كما حصلت جمهورية الجبل الأسود على صفة المرشح فى نوفمبر ٢٠١٠، فى دلالة مبشرة إلى حد ما بالنسبة للعضوية متوسطة المدى، ولكن لا يزال يتعين على زعماء بودجوريتشا حل العديد من القضايا، مثل وضع اللاجئين أو «العلاقات مع الأقليات»، وتتحرك مقدونيا وهى المرشحة للاندماج منذ عام ٢٠٠٥ ببطء شديد نحو الاتحاد الأوروبى لأن اليونان تعارض انضمام مقدونيا إلى الناتو، ولم يتم حل مشكلة اسم هذه الجمهورية الهشة، وفى حالة موافقة مقدونيا على تغيير اسمها سوف توافق اليونان على قبول اندماج جارتها الشمالية.
أما فيما يخص الدائرة الثانية من البلدان فما زال الاندماج فى الاتحاد الأوروبى بعيد المنال؛ فقد وقعت البوسنة والهرسك اتفاقية الاستقرار والانتساب مع الاتحاد الأوروبى فى عام ٢٠٠٨، لكن المفاوضات بشأن العضوية ما زالت متعثرة بسبب بعض المشكلات مثل فساد موظفى الخدمة المدنية أو عودة النازحين، كما تم تعليق ترشيح صربيا بسبب معارضة هولندا التى طالبت بإلقاء القبض على الجنرال راتكو ملاديتش الهارب منذ عام ١٩٩٥ وتسليمه إلى لاهاي؛ أما ألبانيا التى وقعت على اتفاق الاستقرار واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبى فى ١٢ يونيو ٢٠٠٦؛ فقد طلب منها عام ٢٠١٠ التريث لبعض الوقت قبل تقديم ملف الطلب الرسمى.. وقد أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوضوح فى ١٨ مارس ٢٠٠٩ على حكمة وتحفظ الاتحاد الأوروبى، إذ أعلنت فى برنامجها للانتخابات الأوروبية: «نحن بحاجة إلى اتخاذ هدنة بشان التوسع وقبول انضمام دول جديدة ذلك أن الأولوية لتعزيز الهوية ودعم المؤسسات».
والسؤال الآن: هل الحكومات المحلية فى دول البلقان هى المسئولة عن هذا التوقف بسبب عدم استيفائها الشروط التى طالبت بها بروكسل، أم أنه اتفاق ضمنى بين الدول الأعضاء السبع والعشرين فى الاتحاد الأوروبى على تعليق التوسعة؟ كلتا الإجابتين صحيحة؛ فقد صرح مؤخرًا أحد المسئولين الأوروبيين -لم يكشف عن هويته- أنه «ليس هناك مؤامرة فكرواتيا محظورة بسبب سلوفينيا، وصربيا محظورة بسبب لاهاى، وليس لدينا اتفاق بشأن ترشيح الجبل الأسود، وطالبنا من ألبانيا عدم ترشيح نفسها، وبالنسبة لمقدونيا فلا شيء إيجابى، كما أننا نعيش أزمة مالية فى الاتحاد الأوروبى فالأجواء سلبية للغاية».
المشكلة هى أنه فى الوقت الذى تطرق فيه جميع دول غرب البلقان باب الاتحاد الأوروبى فإن هذا الاتحاد لا يملك خطة توسع محددة بشكل جيد.. وسوف تستمر مفاوضات الاستقرار والشراكة التى يجريها الاتحاد مع هذه البلدان بضع سنوات أخرى، وستتعثر بسبب معايير الانضمام مثل احترام سيادة القانون، أو مكافحة الفساد، أو احترام الأقليات. الغريب أن الاتحاد الأوروبى يعمل على تفعيل سياسة الجوار الأوروبية (ENP) - وهى نوع من اتفاقيات التجارة الحرة المرنة إلى حد ما- مع مناطق بعيدة جدًا عن أوروبا (أوكرانيا والقوقاز والمغرب العربي) بينما يستبعد غرب البلقان وهى منطقة جزء لا يتجزأ جغرافيًا من القارة الأوروبية ومن التكامل الأوروبى. المشكلة بالنسبة لجنوب أوروبا لا تكمن فى حضور أوروبا بل فى الافتقار إلى أوروبا: وهذا يعنى الافتقار إلى رؤية طويلة المدى بخصوص هذه الدول التى تهدف إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى ولو فقط من خلال تاريخها وموقعها فى قلب أوروبا. بروكسل تبحر بعيدًا دون أى اقتراح حقيقى لمستقبل هؤلاء السكان، بالاضافة الى التحرير المفرط لاقتصادهم والوضع المستبد لحقوق الإنسان. وهذا ما يفسر تنامى تشكك دول جنوب شرق أوروبا فى الاتحاد الاوروبى حتى قبل الانضمام إليه.
والحقيقة أن الاتحاد الأوروبى سينتظر سنوات عديدة قبل أن «يبتلع» الدول المتبقية: وبالتالى فإن مصلحته فى استمرار التفتت. لقد قامت صربيا بتسليم أربعة من مجرمى الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة فى الأعوام الستين الماضية، بل وقبلت افتتاح مكتب لحلف شمال الأطلسى داخل وزارة الدفاع فى بلجراد. وما زال الاتحاد الأوروبى يلعب لعبة التجزئة. فقد أرسل بعثة (شرطة وقضاة الاتحاد الأوروبي) إلى كوسوفو فى التاسع من ديسمبر ٢٠٠٨ لحمل الصرب على ابتلاع حبة فقدان السيادة على كوسوفو، وكانت الرسالة التى كررها زعماء الاتحاد الأوروبى لعدة أشهر واضحة: سوف تعودون إلى الاتحاد الأوروبى بشرط تسليم كوسوفو. ومع ذلك ولممارسة المزيد من الضغوط على القادة الصرب وافقت بروكسل على فتح «مكتب تمثيلى لفويفودينا»، وهى مقاطعة أخرى تتمتع بالحكم الذاتى ولكنها لم تشهد أى بناء حكومى فى تاريخها وافقت على فتح هذا المكتب فى العاصمة الأوروبية. ولم يكن رئيس برلمان فويفودينا، ساندور إيجيريسى مخطئًا حين أعلن فى نهاية فبراير أن «لا مركزية صربيا تعنى الإسراع باندماجها فى الاتحاد الأوروبي».
كما أثبت الناتو وهو منظمة تأسست فى جنوب أوروبا أنه كان الذراع المسلح للولايات المتحدة فى البلقان لمدة عشر سنوات بينما يعمل حلف شمال الأطلسى على توسيع نفوذه نحو الشرق بعيدًا عن منطقة الناتو المنصوص عليها فى المادة الثانية من معاهدة عام ١٩٤٩. ولم يتوقف حلف شمال الأطلسى عن تعزيز مواقفه تجاه روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، الأمر الذى من شانه خلق طوق جديد حول عدوهم السابق فى فترة الحرب الباردة. وقد تضاعفت القواعد الأمريكية منذ سقوط جدار برلين فى جميع أنحاء جنوب شرق أوروبا: البوسنة، كوسوفو، ألبانيا، مقدونيا، المجر، رومانيا، بلغاريا، دون أن ننسى تركيا منذ عام ١٩٤٩ واليونان منذ عام ١٩٥٢. وهكذا ينتشر النظام العسكرى الأمريكى فى البلقان كوسيلة لإخلاء القواعد فى أوروبا الغربية ولتوجيه الاستراتيجية الأمريكية نحو منطقتين رئيسيتين: الشرق الأوسط وروسيا. إن منطقة البلقان ليست سوى منطقة وسيطة فى هذه اللعبة العالمية والدول الضعيفة فى هذه المنطقة هى وحدها القادرة على خدمة المخططات الأمريكية.
فى الختام: ما هو الدرس الذى يمكننا استخلاصه من الحالة اليوغوسلافية؟
لا شك أن تفكك هذا الاتحاد المكون من ست جمهوريات وقوميات متعددة.. هذا التفكك الذى دعمته بلدان أبدت فى يوم ما احترامًا لنظام الإدارة الذاتية وعدم الانحياز لأمر يذكرنا بالحالة التشيكوسلوفاكية. فهو تفكك يستجيب لمصلحة جيواستراتيجية قوية لنفس هذه القوى: كسر تجربة الدولة الواحدة متعددة القوميات ولكنها واحدة، وذلك بهدف دمج أجزاء من أراضى هذه تحت «الحماية الدولية» فى أسرع وقت ممكن. ويعتبر إقليم كوسوفو الذى لا يمثل أى مصلحة اقتصادية أو جغرافية جزءًا من هذا المنطق الذى يعتبر ترسيخا للتواجد الدائم والمستمر فى منطقة شهد تاريخها قرونا من التوتر.. كل ذلك من أجل إثبات قدرة المؤسسات المتدهورة (حلف شمال الأطلسى والأمم المتحدة) على الاستمرار. ولا شك ان منطق التجزئة هذا سيصل إلى نهايته وسيؤدى إلى خلق حكام محليين تحت تأثير استعمارى جديد وقوى: ها نحن نرى بالفعل فى مناطق سنجق وفويفودينا ضغوطًا أمريكية قوية جدًا لتطوير النزعة الانفصالية من جانب الأقليات المسلمة والمجرية.
معلومات عن الكاتب:
أليكسيس ترود عالم جيوسياسى ومؤرخ وأستاذ مساعد فى جامعة ميلون فال دى سين وزميل باحث فى معهد الاستراتيجية المقارنة (ISC) ورئيس مجموعة فرنسا-صربيا.. يقدم لنا صورة بانورامية عن أوضاع دول القارة العجوز ومعضلة توسعة الاتحاد الأوروبى الذى يتهمه بأنه يلعب لعبة التجزئة بين دول أوروبا.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبي الأوروبي الأطلسي الاتحاد الأوروبى الأوروبى فى فى الاتحاد منذ عام
إقرأ أيضاً:
جنوب أفريقيا تتقرب من أوروبا وسط تراجع العلاقات مع أميركا
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، تراجعت العلاقات بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة بشكل ملحوظ، بعد أن فرضت إدارة الرئيس دونالد ترامب سياسات عقابية تجاه بريتوريا.
وفي المقابل، يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد استغل الفرصة لتعزيز علاقاته مع جنوب أفريقيا، في خطوة تؤكد الدور الأوروبي المتنامي في القارة الأفريقية وسط تراجع النفوذ الأميركي.
تعزيز التحالف الأوروبيوجاء التحرك الأوروبي بعد سلسلة من التوترات بين بريتوريا وواشنطن، حيث قررت الأخيرة تعليق بعض برامجها الاقتصادية مع جنوب أفريقيا، مع انتقادات علنية من جانب مستشاري ترامب، بمن فيهم إيلون ماسك الذي زعم أن حكومة جنوب أفريقيا تمارس "إبادة جماعية" ضد المزارعين البيض.
وقد زادت هذه التصريحات من حدة التوتر، خاصة مع سياسات ترامب الحمائية التي فرضت رسومًا جمركية عالمية متبادلة، مما أثار استياء الاتحاد الأوروبي ودفعه إلى البحث عن شركاء اقتصاديين جدد، من بينهم جنوب أفريقيا.
وفي هذا الإطار، كثّفت الدول الأوروبية جهودها لتعزيز التعاون مع بريتوريا، حيث شهدت الأسابيع الأخيرة اجتماعات دبلوماسية مكثفة بين الطرفين، كان آخرها في 19 فبراير/شباط الحالي، حيث التقى دبلوماسيون أوروبيون مسؤولين من جنوب أفريقيا لمناقشة سبل توسيع التعاون الاقتصادي والسياسي.
ووفقًا لمصادر مطلعة، شدد الطرفان على أهمية تعزيز التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والطاقة المستدامة.
إعلان استثمارات أوروبيةمن المتوقع أن تُتوَّج هذه الجهود بالقمة الثنائية المرتقبة في 13 مارس/آذار المقبل، حيث تخطط بروكسل للإعلان عن استثمارات جديدة في قطاع الطاقة النظيفة في جنوب أفريقيا، في إطار مبادرات الاتحاد الأوروبي لتعزيز الشراكات الخضراء حول العالم.
وتتضمن المفاوضات بين الطرفين استثمارات في الطاقة المتجددة، إضافةً إلى مشاريع لاستخراج المعادن النادرة التي تعد جنوب أفريقيا أحد أكبر منتجيها عالميًا.
ويأتي هذا الاهتمام الأوروبي مدفوعًا بالحاجة إلى تقليل الاعتماد على الصين، خاصة في ظل تنامي أهمية هذه الموارد في التحول العالمي نحو التكنولوجيا النظيفة.
ويأتي هذا في وقت يواجه فيه الاتحاد الأوروبي تحديات في تأمين إمدادات المعادن الحيوية، بديلا عن الصين التي تهيمن على سوق هذه المعادن عالميًا.
وفي هذا السياق، يمكن أن تلعب جنوب أفريقيا دورًا إستراتيجيًا كبديل موثوق، مما يعزز شراكتها الاقتصادية مع أوروبا.
الاتحاد الأوروبي وترامبمن جانب آخر، أعرب مسؤولون أوروبيون عن قلقهم المتزايد من القرارات التجارية الحمائية لإدارة ترامب، وخاصة الرسوم الجمركية التي قد تعرقل التجارة مع أميركا.
ففي عام 2024، بلغ إجمالي حجم التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي 975.9 مليار دولار، مع تسجيل عجز تجاري أميركي بقيمة 235.6 مليار دولار لصالح الاتحاد الأوروبي.
وقد دفعت هذه الإجراءات بروكسل إلى إعادة النظر في إستراتيجياتها التجارية، مما يفسر جزءًا من توجهها نحو تعزيز العلاقات مع جنوب أفريقيا وشركاء آخرين في قارتي أفريقيا وآسيا.
مجموعة العشرين وتوجهات بريتورياعلى الصعيد الدبلوماسي، افتتح رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في جوهانسبرغ بدعوة إلى "التعاون والتعددية" في مواجهة التحديات الجيوسياسية المتزايدة.
وأكد رامافوزا أهمية دعم المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، مشددًا على ضرورة تعزيز الشراكات الاقتصادية العادلة.
إعلانومع استمرار التغيرات في المشهد الدولي، تتجه جنوب أفريقيا نحو شراكة إستراتيجية أعمق مع الاتحاد الأوروبي، في خطوة قد تعيد رسم خريطة التحالفات العالمية.
ويعكس هذا التحول ابتعاد العديد من الدول عن السياسات الأحادية التي تنتهجها إدارة ترامب، لصالح شراكات أكثر تعددية وتوازنًا، بما في ذلك مع القوى الصاعدة في أفريقيا وآسيا.