فريديريك إيبارفييه يكتب: تأملات فى فن القتال.. قراءة فى كتاب العقيد أوليفييه إنترايج
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
يوم الأحد الماضى، فى هذه الأيام التراثية، ذهبت للتنزه فى أحد أجمل المعالم الأثرية فى باريس: فندق ناسيونال ديز انفاليد. لقد قمت بعمل جيد، لأنه بالإضافة إلى تحية أجمل مدفع فى العالم، قطعة برونزية من عصر النهضة، اكتشفت مفاجأة أنه كان هناك سرادق، فى الفناء الرئيسى يؤدى إلى صالة الكُتاب العسكريين.. ومن بين الأربعين كاتبًا، صادفت العقيد أوليفييه إنترايج الذى كان يوقع كتابه عن روسيا والحرب.
وبالنظر إلى عنوان كتابه: «روسيا والحرب، من إيفان الرهيب إلى فلاديمير بوتين»، انتقلنا بسرعة كبيرة إلى الحرب الأوكرانية، وفوجئت باكتشاف رجل يستمع إلى رأى محاوره، بدلًا من فرض رأيه.. وهذه نوعية نادرة؛ لذا اشتريت كتابه، ووقعه لى بلطف - أعلم أننى متعجرف لا يمكن إصلاحه - وانغمست فيه بمجرد عودتى إلى المنزل. إنه أمر مثير للاهتمام لدرجة أن مباراة فيجي-أستراليا للرجبى قد فاتتني!.
تفكير عسكرى روسى حقيقي!
يأخذنا العقيد إنترايج إلى تاريخ روسيا، وحروبها وفتوحاتها، ومن خلالها فكرها العسكرى. لأنه على عكس ما يقوله جنرالات التليفزيون، الذين لا يحصلون فى الغالب على ألقاب مجيدة، ولا ينصفون التفكير الاستراتيجى الفرنسى، هناك تفكير عسكرى روسى حقيقى، أو بالأحرى روسى سوفييتى روسى وهذا أمر رائع.
مثل أى عسكرى، يبدأ إنترايج كتابه بعرض جغرافى للعالم الروسى، الذى يصفه بحق بأنه «ضخم». وبما أن الزمان والمكان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا فى الجغرافيا السياسية، يخلص إلى ما يلى: «فى نهاية المطاف، يُظهر فهم هذا «العالم الضخم» أن قوة «روسيا الخالدة» لا تكمن كثيرًا فى قوة جيشها بقدر ما تكمن فى مساحاتها الشاسعة وطرقها الموجزة وغاباتها الواسعة وأنهارها الواسعة ومستنقعاتها التى يضاف إليها صيف قصير وشتاء طويل وذوبان ربيع».. لا بد أن تكون قد عبرت روسيا بالقطار لتدرك دقة وعمق هذا البيان.. وبعد أن تم ترسيخ البعد المكانى، يأخذنا إنترايج بعد ذلك فى رحلة زمنية طويلة، منذ أن بدأ استكشافه لجذور الفكر العسكرى الروسى مع الغزوات المغولية التى قدمت التنقل والمفاجأة والكتلة. وبطريقة أكثر أصالة، يربط كتاب إنترايج أيضًا الرماية المنغولية بالسحر الروسى بالمدفعية.. ثم يأتى التحديث الأوروبى القسرى لبطرس الأكبر، الذى زود بلاده بمدرسة من الضباط والحدادين.
ومن هذه القدرة المزدوجة ولد جنرالات عظماء، وفى مقدمتهم الجنرال الذى حقق ٦٣ انتصارًا: ألكسندر سوفوروف (١٧٣٠-١٨٠٠) الذى عارض فى كتابه الرئيسى: «فن النصر» الفكر المادى الألمانى بقوله إن «العامل الأساسى فى النصر» الحرب تبقى رجلا. بالنسبة لسوفوروف، فإن القيمة الأخلاقية للمقاتل، وإرادته للفوز، هى التى يجب أن تضمن قبل كل شيء انتصار روسيا. وفى الحقيقة، سوفوروف هو أيضًا رسول «السرعة» التى تسمى بشكل «كفاءة» «operativnost» (оперативность) باللغة الروسية. لقد قام بتجميعها فى صيغة موجزة: «نظرة - سرعة - صدمة» لأنه بالنسبة له، تحل السرعة والمفاجأة محل الأرقام، طالما أنها مصحوبة بالصدمة التى تعتبر رد الفعل الحاسم فى القتال.
«فى مواجهة نابليون»
بعد سوفوروف يأتى كوتوزوف، أمير الدفاع فى الفضاء. ليست هناك حاجة لإعادة كتابة الحملة الروسية، فقد فعلها تولستوى أو باتريك رامبو بعبقرية، لكن من الواضح أنه فى مواجهة نابليون، كان «القوزاق» هم الذين خيموا فى شارع الشانزليزيه.
دعونا نسرع مسيرتنا فى الوقت المناسب، ونتخطى بضعة فصول لننتقل مباشرة إلى ثانى أعظم معلم فى الفكر العسكرى الروسى، الجنرال ألكسندر سفيتشين (١٨٧٨-١٨٣٨) وهو مخترع فكرة «الفن التشغيلي»، وهو المستوى الذى ينشأ من المستوى الاستراتيجى الذى يقرره صاحب السيادة ولكنه يقع فى إطار أكثر عمومية من التكتيكات التى تظل فن التصرف وجعل الرجال يقاتلون على الأرض. لتوضيح هذا الفرق، أشرح لطلابى أن الاستراتيجية تكون عندما يقع رودولف فى حب بياتريس ويريد أن يجعلها امرأة حياته. العملى هو عندما يجمع مدخراته، ويدعوها إلى السينما لمشاهدة فيلم رومانسى أو رعب (وهو أكثر فعالية)، والتكتيكى هو عندما يستغل خوف بياتريس (عندما يخرج القرش من الماء، لأول مرة على سبيل المثال) للقيام بـ"الحركة».
يرجى ملاحظة أن الفن التشغيلى لـ«سفيتشين» ليس عقيدة صارمة بل هو إطار عام من التعريفات التى تشرح كيفية شن الحرب وفقًا للأهداف الاستراتيجية للسلطة السياسية، والوسائل الاقتصادية المتاحة فى منطقة معينة كما أن المادية السوفييتية ليست بعيدة أبدًا عن روسيا. ومع ذلك نكتشف عند قراءة سفيتشين أنه يعارض فكرة المعركة الحاسمة (التى كانت هيئة الأركان الألمانية الكبرى تحلم فقط بتقليد نموذج معركة كان، أو حتى توخاتشيفسكي) وأنه يفضل حرب الاستنزاف هى التدمير التدريجى لنظام العدو العسكرى من خلال تدمير موارده المادية والبشرية.
ثلاثينيات القرن العشرين
يصف كتاب إنترايج بشكل مثالى الثروة الفكرية العسكرية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية فى ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ذكر مفكرون مثل فرونزى، وبروسيلوف، وإيسرسون، وتشابوتشنيكوف، وفارفولوميف، وترياناديفيلوف، بالإضافة إلى سفيتشين وتوخاتشيفسكى. وسيظل هذا العمل غير المكتمل، بسبب عمليات التطهير الكبرى فى الأعوام ٣٧-٣٨، هو الأساس النظرى الذى سيعتمد عليه الجيش الأحمر للفوز فى الحرب الوطنية العظمى. وهكذا فإن عمل إيسيرسون وترياناديفيلوف، وخاصة عقيدة المعركة فى المحور العميق، هو الذى سيتم تطبيقه خلال عملية باغراتيون، التى يسميها الألمان بكل تواضع: تدمير مجموعة الجيش المركزى.
ثم يتطرق إنترايج للحروب فى أفغانستان (١٩٧٩-١٩٨٩)، والشيشان (١٩٩٠-٢٠٠٠)، للتأكيد على القدرة الدائمة على التحليل الذاتى للجيش الروسى. و«يُظهر الصراع أن قيمة الجيش تعتمد على قدرته على التكيف أثناء القتال الذى لم تعده عقيدته ومعداته وتدريبه له».
أخيرًا، يحلل إنترايج فى فصلين رائعين ودقيقين «عمليات دومباس» (٢٠١٤-٢٠١٥)، فى أوكرانيا، والفصل الذى يحمل عنوان «العدوان الروسى فى أوكرانيا». إنه يوضح أنه بعد الفشل فى الشمال فى الاستيلاء على المركز السياسى للبلاد، ولكن بعد النجاح فى الجنوب فى توحيد شبه جزيرة القرم ودومباس وروسيا، دخلت الأخيرة الآن فى حرب استنزاف طويلة، ستكون الخدمات اللوجستية منها العامل الحاسم. يراهن انترايج على الوصول لـ «الطريق المسدود» وذلك على الطريقة الكورية! ولا أرى كيف قد يتمكن نظام فلاديمير بوتن من تجنب النصر، لذا فأنا أراهن على حرب طويلة تهدف إلى التدمير التدريجى للقوات الأوكرانية والدعم الذى يقدمه حلف شمال الأطلسى.
باختصار، كتاب مهم يجب قراءته لاكتساب منظور وفهم مسار وتطورات الحرب الأوكرانية وإذا أراد البوجادا وروشبين وتوسان وآخرون تقديم معلومات وليس دعاية، فسيدعوون العقيد إنترايج ليشرح لنا ما يحدث على المستوى العسكرى فى أوكرانيا بدلًا من الجنرالات ترينكواند وياكوفليف وديسبورتس وريشو وآخرين جويا وسيرفينت (فقط بالوميروس، وشوفانسى، ودى يونج مثيرون للاهتمام عن بعد)، الذين يتألقون قبل كل شيء بسبب جهلهم الشديد بالفكر العسكرى الروسى السوفييتى الروسى. ولكن مهلًا، هذا صحيح، كما أخبرنى انترايج خلال حديثنا المشترك، أن كل ذلك لا يتم الآن تدريسه فى كلية الدفاع الوطني!.
معلومات عن الكاتب:
فريديريك إيبارفييه.. باحث ومدير تنفيذى فى مؤسسة فرنسية استراتيجية كبرى.. يعرض لنا أهم ما ورد فى كتاب «روسيا والحرب.. من إيفان الرهيب إلى فلاديمير بوتين»، من تأيف العقيد أوليفييه إنترايج وهو مؤرخ عسكرى حاصل على الدكتوراة، وعضو فى فريق البحث فى قسم الأمن والدفاع فى المعهد الوطنى للفنون والحرف بفرنسا.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: المعالم الاثرية باريس
إقرأ أيضاً:
مناقشة كتاب تلات ستات بمكتبة البلد.. الخميس المقبل
كتب- محمد شاكر:
تنظم مكتبة البلد ندوة لمناقشة وتوقيع كتاب «تلات ستات.. سيرة من ليالي القاهرة»، من تأليف الصحفيين محمد العريان وعمر سعيد.
وذلك يوم الخميس المقبل، في تمام الساعة السادسة مساء، وتناقش العمل، الكاتبة هبة عبد العليم.
وكتاب «تلات ستات»، تجربة تحكي سيرة ذاتية لعاملات استثنائيات، يضم قصصًا لحيوات مختلفة، اشتركن فقط في كونهن عاملات يعشن في قاع مدينة القاهرة، وإن كانت القصص الثلاث تبدو لسيدات عاديات، ترصد حياتهن الاجتماعية والمهنية، فإنها رغم ذلك متفردة في مشاعرها وخبراتها المكتسبة من ليالي العاصمة الموحشة.
اقرأ أيضا
طارق نور مختلف.. مجدي الجلاد: تغييرات المجالس الإعلامية تمثل تحولًا ملحوظًا
مفيش تهاون.. وزير الكهرباء يوجِّه بتحسين جودة تشغيل محطة شمال القاهرة "المركبة" -تفاصيل
مكتبة البلد محمد العريان عمر سعيد الكاتبة هبة عبد العليم
تابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الخبر التالى: سمير غطاس: النضال السلمي حقق لغزة مكاسب أكبر بكثير من نظيره المسلح أخبار مصر مناقشة كتاب "تلات ستات" بمكتبة البلد.. الخميس المقبل منذ 7 دقائق قراءة المزيد أخبار مصر حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الاثنين 6-1-2025 منذ 40 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر نقابات الصحفيين والمهندسين والمحامين توقع برتوكول تعاون مع معامل رويال لاب منذ ساعتين قراءة المزيد أخبار مصر نشرة التوك شو| حقيقة وصول فيروس HMPV الجديد إلى مصر وأصداء إقالة السيد منذ 4 ساعات قراءة المزيد أخبار مصر محمود سعد يعلق على فرض رسوم جمركية على الهواتف المحمولة منذ 4 ساعات قراءة المزيد أخبار مصر سمير غطاس: النضال السلمي حقق لغزة مكاسب أكبر بكثير من نظيره المسلح منذ 4 ساعات قراءة المزيدإعلان
إعلان
أخبارمناقشة كتاب "تلات ستات" بمكتبة البلد.. الخميس المقبل
أخبار رياضة لايف ستايل فنون وثقافة سيارات إسلاميات© 2021 جميع الحقوق محفوظة لدى
إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك حوار- نقيب الأطباء: إلغاء "العمومية" أصعب قرار في حياتي النقابية.. وهذا موقف "المستقيلين بدء استحقاقات شهادة 27% في بنكي الأهلي ومصر الأسبوع الجاري.. ما هي البدائل؟ 21القاهرة - مصر
21 14 الرطوبة: 49% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار bbc وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك