يوم الأحد الماضى، فى هذه الأيام التراثية، ذهبت للتنزه فى أحد أجمل المعالم الأثرية فى باريس: فندق ناسيونال ديز انفاليد. لقد قمت بعمل جيد، لأنه بالإضافة إلى تحية أجمل مدفع فى العالم، قطعة برونزية من عصر النهضة، اكتشفت مفاجأة أنه كان هناك سرادق، فى الفناء الرئيسى يؤدى إلى صالة الكُتاب العسكريين.. ومن بين الأربعين كاتبًا، صادفت العقيد أوليفييه إنترايج الذى كان يوقع كتابه عن روسيا والحرب.

بالفعل، يتمتع بوجه جميل للمحارب، وهذا من دواعى سرورى لرؤيته. بعد ذلك، نظرًا لأن جميع هؤلاء الجنود يتمتعون بأخلاق جيدة ومتحمسون لما يفعلونه وما يكتبونه، فمن السهل المشاركة فى المناقشات وتكون دائمًا مثرية.
وبالنظر إلى عنوان كتابه: «روسيا والحرب، من إيفان الرهيب إلى فلاديمير بوتين»، انتقلنا بسرعة كبيرة إلى الحرب الأوكرانية، وفوجئت باكتشاف رجل يستمع إلى رأى محاوره، بدلًا من فرض رأيه.. وهذه نوعية نادرة؛ لذا اشتريت كتابه، ووقعه لى بلطف - أعلم أننى متعجرف لا يمكن إصلاحه - وانغمست فيه بمجرد عودتى إلى المنزل. إنه أمر مثير للاهتمام لدرجة أن مباراة فيجي-أستراليا للرجبى قد فاتتني!.
تفكير عسكرى روسى حقيقي!
يأخذنا العقيد إنترايج إلى تاريخ روسيا، وحروبها وفتوحاتها، ومن خلالها فكرها العسكرى. لأنه على عكس ما يقوله جنرالات التليفزيون، الذين لا يحصلون فى الغالب على ألقاب مجيدة، ولا ينصفون التفكير الاستراتيجى الفرنسى، هناك تفكير عسكرى روسى حقيقى، أو بالأحرى روسى سوفييتى روسى وهذا أمر رائع.
مثل أى عسكرى، يبدأ إنترايج كتابه بعرض جغرافى للعالم الروسى، الذى يصفه بحق بأنه «ضخم». وبما أن الزمان والمكان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا فى الجغرافيا السياسية، يخلص إلى ما يلى: «فى نهاية المطاف، يُظهر فهم هذا «العالم الضخم» أن قوة «روسيا الخالدة» لا تكمن كثيرًا فى قوة جيشها بقدر ما تكمن فى مساحاتها الشاسعة وطرقها الموجزة وغاباتها الواسعة وأنهارها الواسعة ومستنقعاتها التى يضاف إليها صيف قصير وشتاء طويل وذوبان ربيع».. لا بد أن تكون قد عبرت روسيا بالقطار لتدرك دقة وعمق هذا البيان.. وبعد أن تم ترسيخ البعد المكانى، يأخذنا إنترايج بعد ذلك فى رحلة زمنية طويلة، منذ أن بدأ استكشافه لجذور الفكر العسكرى الروسى مع الغزوات المغولية التى قدمت التنقل والمفاجأة والكتلة. وبطريقة أكثر أصالة، يربط كتاب إنترايج أيضًا الرماية المنغولية بالسحر الروسى بالمدفعية.. ثم يأتى التحديث الأوروبى القسرى لبطرس الأكبر، الذى زود بلاده بمدرسة من الضباط والحدادين.


ومن هذه القدرة المزدوجة ولد جنرالات عظماء، وفى مقدمتهم الجنرال الذى حقق ٦٣ انتصارًا: ألكسندر سوفوروف (١٧٣٠-١٨٠٠) الذى عارض فى كتابه الرئيسى: «فن النصر» الفكر المادى الألمانى بقوله إن «العامل الأساسى فى النصر» الحرب تبقى رجلا. بالنسبة لسوفوروف، فإن القيمة الأخلاقية للمقاتل، وإرادته للفوز، هى التى يجب أن تضمن قبل كل شيء انتصار روسيا. وفى الحقيقة، سوفوروف هو أيضًا رسول «السرعة» التى تسمى بشكل «كفاءة» «operativnost» (оперативность) باللغة الروسية. لقد قام بتجميعها فى صيغة موجزة: «نظرة - سرعة - صدمة» لأنه بالنسبة له، تحل السرعة والمفاجأة محل الأرقام، طالما أنها مصحوبة بالصدمة التى تعتبر رد الفعل الحاسم فى القتال.
«فى مواجهة نابليون»
بعد سوفوروف يأتى كوتوزوف، أمير الدفاع فى الفضاء. ليست هناك حاجة لإعادة كتابة الحملة الروسية، فقد فعلها تولستوى أو باتريك رامبو بعبقرية، لكن من الواضح أنه فى مواجهة نابليون، كان «القوزاق» هم الذين خيموا فى شارع الشانزليزيه.
دعونا نسرع مسيرتنا فى الوقت المناسب، ونتخطى بضعة فصول لننتقل مباشرة إلى ثانى أعظم معلم فى الفكر العسكرى الروسى، الجنرال ألكسندر سفيتشين (١٨٧٨-١٨٣٨) وهو مخترع فكرة «الفن التشغيلي»، وهو المستوى الذى ينشأ من المستوى الاستراتيجى الذى يقرره صاحب السيادة ولكنه يقع فى إطار أكثر عمومية من التكتيكات التى تظل فن التصرف وجعل الرجال يقاتلون على الأرض. لتوضيح هذا الفرق، أشرح لطلابى أن الاستراتيجية تكون عندما يقع رودولف فى حب بياتريس ويريد أن يجعلها امرأة حياته. العملى هو عندما يجمع مدخراته، ويدعوها إلى السينما لمشاهدة فيلم رومانسى أو رعب (وهو أكثر فعالية)، والتكتيكى هو عندما يستغل خوف بياتريس (عندما يخرج القرش من الماء، لأول مرة على سبيل المثال) للقيام بـ"الحركة».


يرجى ملاحظة أن الفن التشغيلى لـ«سفيتشين» ليس عقيدة صارمة بل هو إطار عام من التعريفات التى تشرح كيفية شن الحرب وفقًا للأهداف الاستراتيجية للسلطة السياسية، والوسائل الاقتصادية المتاحة فى منطقة معينة كما أن المادية السوفييتية ليست بعيدة أبدًا عن روسيا. ومع ذلك نكتشف عند قراءة سفيتشين أنه يعارض فكرة المعركة الحاسمة (التى كانت هيئة الأركان الألمانية الكبرى تحلم فقط بتقليد نموذج معركة كان، أو حتى توخاتشيفسكي) وأنه يفضل حرب الاستنزاف هى التدمير التدريجى لنظام العدو العسكرى من خلال تدمير موارده المادية والبشرية.
ثلاثينيات القرن العشرين 
يصف كتاب إنترايج بشكل مثالى الثروة الفكرية العسكرية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية فى ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ذكر مفكرون مثل فرونزى، وبروسيلوف، وإيسرسون، وتشابوتشنيكوف، وفارفولوميف، وترياناديفيلوف، بالإضافة إلى سفيتشين وتوخاتشيفسكى. وسيظل هذا العمل غير المكتمل، بسبب عمليات التطهير الكبرى فى الأعوام ٣٧-٣٨، هو الأساس النظرى الذى سيعتمد عليه الجيش الأحمر للفوز فى الحرب الوطنية العظمى. وهكذا فإن عمل إيسيرسون وترياناديفيلوف، وخاصة عقيدة المعركة فى المحور العميق، هو الذى سيتم تطبيقه خلال عملية باغراتيون، التى يسميها الألمان بكل تواضع: تدمير مجموعة الجيش المركزى.
ثم يتطرق إنترايج للحروب فى أفغانستان (١٩٧٩-١٩٨٩)، والشيشان (١٩٩٠-٢٠٠٠)، للتأكيد على القدرة الدائمة على التحليل الذاتى للجيش الروسى. و«يُظهر الصراع أن قيمة الجيش تعتمد على قدرته على التكيف أثناء القتال الذى لم تعده عقيدته ومعداته وتدريبه له». 
أخيرًا، يحلل إنترايج فى فصلين رائعين ودقيقين «عمليات دومباس» (٢٠١٤-٢٠١٥)، فى أوكرانيا، والفصل الذى يحمل عنوان «العدوان الروسى فى أوكرانيا». إنه يوضح أنه بعد الفشل فى الشمال فى الاستيلاء على المركز السياسى للبلاد، ولكن بعد النجاح فى الجنوب فى توحيد شبه جزيرة القرم ودومباس وروسيا، دخلت الأخيرة الآن فى حرب استنزاف طويلة، ستكون الخدمات اللوجستية منها العامل الحاسم. يراهن انترايج على الوصول لـ «الطريق المسدود» وذلك على الطريقة الكورية! ولا أرى كيف قد يتمكن نظام فلاديمير بوتن من تجنب النصر، لذا فأنا أراهن على حرب طويلة تهدف إلى التدمير التدريجى للقوات الأوكرانية والدعم الذى يقدمه حلف شمال الأطلسى.
باختصار، كتاب مهم يجب قراءته لاكتساب منظور وفهم مسار وتطورات الحرب الأوكرانية وإذا أراد البوجادا وروشبين وتوسان وآخرون تقديم معلومات وليس دعاية، فسيدعوون العقيد إنترايج ليشرح لنا ما يحدث على المستوى العسكرى فى أوكرانيا بدلًا من الجنرالات ترينكواند وياكوفليف وديسبورتس وريشو وآخرين جويا وسيرفينت (فقط بالوميروس، وشوفانسى، ودى يونج مثيرون للاهتمام عن بعد)، الذين يتألقون قبل كل شيء بسبب جهلهم الشديد بالفكر العسكرى الروسى السوفييتى الروسى. ولكن مهلًا، هذا صحيح، كما أخبرنى انترايج خلال حديثنا المشترك، أن كل ذلك لا يتم الآن تدريسه فى كلية الدفاع الوطني!.

معلومات عن الكاتب: 
فريديريك إيبارفييه.. باحث ومدير تنفيذى فى مؤسسة فرنسية استراتيجية كبرى.. يعرض لنا أهم ما ورد فى كتاب «روسيا والحرب.. من إيفان الرهيب إلى فلاديمير بوتين»، من تأيف العقيد أوليفييه إنترايج وهو مؤرخ عسكرى حاصل على الدكتوراة، وعضو فى فريق البحث فى قسم الأمن والدفاع فى المعهد الوطنى للفنون والحرف بفرنسا.

 

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: المعالم الاثرية باريس

إقرأ أيضاً:

مهرجان القاهرة السينمائي.. أحلام وقضايا الشعوب العربية تتلاقى في رحلة من السعادة والمتعة

فى حضرة الشاشة الكبيرة تجوب الأنفس أرجاء العالم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حيث تتلاقى الثقافات والفنون والعادات والتقاليد من مختلف دول العالم فى مهرجان القاهرة السينمائى بدورته الـ45، التى تحمل تنوعاً وثراءً فنياً واضحاً من جميع الدول، فى رحلة لا منتهية من السعادة والمتعة، فمن بين الأعمال السينمائية المشاركة والتى تعرض لأول مرة ضمن فعاليات المهرجان، الفيلم المغربى «أنا مش أنا»، والسورى «سلمى»، كل منهما يحمل قصة ورسالة مختلفة بقضية إنسانية تلمس الوجدان.

«أنا مش أنا» فيلم مغربى مدبلج باللهجة المصرية

وقال هشام الجبارى، مخرج ومؤلف الفيلم المغربى «أنا مش أنا»، الذى جرى عرضه باللهجة المصرية بعد دبلجته، إن الفيلم يعد خطوة فى مسار تعزيز التبادل الفنى بين المغرب ومصر، وبخاصة أن اللهجة المغربية صعبة الفهم، لذا تمت دبلجة الفيلم لكسر الحاجز بين الشعوب العربية حتى يتمكنوا من فهم أحداث العمل. 

والأمر نفسه أكده بطل العمل عزيز داداس، الذى أعرب عن فخره وسعادته بمشاركته فى مهرجان القاهرة، قائلاً: «شرف كبير لى عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الأهم والأعرق فى المنطقة العربية، وسعيد بدبلجته إلى اللهجة المصرية».

وشهدت قاعة العرض حالة كبيرة من التصفيق والتفاعل مع الحضور فور انتهاء عرض الفيلم، الذى حرص عدد من نجوم الفن والرياضة المغاربة على دعمه بمشاهدته بالمهرجان، حيث رفع الفيلم شعار كامل العدد قبل أيام من انطلاقه بدور العرض المصرية. 

فيلم «أنا مش أنا» من تأليف وإخراج هشام الجبارى، بطولة عزيز داداس، مجدولين الإدريسى، دنيا بوطازوت، وسكينة درابيل، ووِصال بيريز، وإنتاج فاطنة بنكران.

يأتى ذلك كجزء من مبادرة مهرجان القاهرة السينمائى لدعم التجارب السينمائية التى تعزز التواصل الثقافى بين الشعوب، إذ يمكن الجمهور المصرى من التفاعل مع إنتاجات دول أخرى خارج الدائرة المعتادة للسينما العالمية. 

وذكر مهرجان القاهرة السينمائى، فى بيان، أنه فخور بهذه التجربة التى تسعى إلى تقديم صورة جديدة للإبداع السينمائى، من خلال التفاعل بين الصورة والصوت والتجارب الثقافية المختلفة، وهو ما يعكس التزامه بدعم التنوع السينمائى عالمياً.

«سلمى» يسلط الضوء على معاناة الشعب السورى

أما الفيلم السورى «سلمى»، الذى يشارك فى مسابقة آفاق للسينما العربية، فهو من بطولة الفنانة السورية سولاف فواخرجى، التى أعربت عن سعادتها بالعرض العالمى الأول لفيلمها بمهرجان القاهرة السينمائى، موضحة فى تصريحات خاصة لـ«الوطن»، أن الفيلم يتناول قضية إنسانية رغم المآسى التى يتطرق إليها وتعبر عن واقع الشعب السورى إلا أنها حاولت أن يكون الفيلم رسالة قوية للقدرة على المواصلة فى تجاوز الصعاب بالإرادة.

«سولاف»: رسالة لتجاوز الصعاب بالإرادة

وقال جود سعيد، مخرج «سلمى»، الذى يشارك فى فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى للمرة السادسة، منذ عام 2009، إنه كان يشعر بالحزن عندما لا يشارك بأفلامه ضمن المهرجان، مشدداً على رفضه لفكرة حمل الفيلم رسالة محددة، وأن كل مشاهد هو صانع العمل بعينه ويراه حسبما يشاء تبعاً لثقافته وما يشعر به.

وأضاف «سعيد» أنه مهووس بالقصص والحكايات الحقيقية وتحويلها لعمل فنى يتفاعل ويستمتع معه الجمهور، لافتاً إلى أنه تجمعه علاقة صداقة قوية مع «سولاف»، أفضت إلى مزيد من التعاون بينهما وحالة من الشراكة انعكست على الشاشة. 

من جانبه، أعرب الفنان السورى ورد، الذى يجسد دور شقيق بطلة العمل «سولاف» بالأحداث، أن مشاركة «سلمى» بالمهرجان حلم بالنسبة له وطموح لكل من يعمل فى صناعة السينما، معرباً عن فخره بفكرة الفيلم التى تنتمى إلى الكوميديا السوداء.

مقالات مشابهة

  • مهرجان القاهرة السينمائي.. أحلام وقضايا الشعوب العربية تتلاقى في رحلة من السعادة والمتعة
  • الغريب.. والأغرب
  • محافظ أسوان يلتقى بالأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية.. شاهد
  • عادل حمودة يكتب: سفير ترامب الجديد فى إسرائيل: لا شىء اسمه فلسطين
  • البنتاجون يرد على مؤشرات احتمال استخدام روسيا للأسلحة النووية في أوكرانيا
  • نوازع السيطرة عند بريطانيا وإنكارها مسؤوليات ودور الحكومة السودانية
  • عبقرية سعد!!
  • عبقرية صلاح جاهين
  • المستشار أسامة الصعيدي يكتب: الملكية الخاصة في حكم الدستورية بشأن العلاقة الإيجارية
  • القيصر الروسى فى عزلته المجيدة