سودانايل:
2024-08-11@00:22:39 GMT

السودان وصراع الثقافتين

تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT

سأل محمد إبو القاسم حاج حمد في كتابه "السودان المأزق التاريخي و أفاق المستقبل" عن الصراع السياسي و دور أسماعيل الأزهري فيه بالقول ( لماذا نظر الأزهري إلي الصراع بين حزبه و بين الآخرين في حدود الصراع السياسي المجرد على كراسي " السلطة" فتحول هو الآخر إلي شيخ لطائفة المثقفين.. يبارك هذا بالتعيين و يحرم ذلك بالطرد من خلال عباراته " إلي من يهمه الأمر سلام") هنا تبرز رؤيتين الأولى - كان لابد أن يكتب حاج حمد مثل هذا التساؤل عن الأزهري لأن حمد كان يقف في الضفة الأخرى للاتحاديين الذين انقسموا و كونوا حزب الشعب الديمقراطية.

و الثاني أن حمد كان يتوقع أن الأزهري يجب عليه أن يخرج من صراع السلطة، ثم يراهن على مستقبل الديمقراطية، بأن يجعل الحوار هو الذي يحل المشاكل و الأزمات التي يواجهها الحزب دون الركون لقضية الإبعاد و الفصل. بمعنى أن الديمقراطية تحل مشاكلها كما قال محمد احمد محجوب بمزيد من الديمقراطية، باعتبار أن أهم مرحلة في مراحل البناء هو الأساس الذي يشيد عليه البناء.
كان يمكن أن يكون الصراع داخل مواعين الديمقراطية إذا كانت داخل المؤسسة الحزبية، أو في الاتساع الواسع للوطن مع القوى السياسية الأخرى. رغم أن الانقلابات العسكرية لم تجعل هناك فترة زمنية كافية تؤسس عليها الديمقراطية. بعد ثورة 21 أكتوبر 1964م، كان المتوقع أن القوى السياسية تكون قد تعلمت الدروس من تجربة حكم عبود. و لكن التجربة خلقت واقعا جديدا في العمل السياسي، حيث أثر سلبا على السياسة في السودان حتى اليوم. حيث برزت الحركة الإسلامية كقوى جديدة لها تأثيرها في السياسة، و بدأ الصراع بين اليمين و اليسار يخرج من دائرة الصراع الثقافي الفكري إلي صراع صفري كل يحاول أن يجعل الأخر خارج المسرح السياسي. و استغل الاسلاميون ما حدث في المعهد العلمي. بأن أحد عناصر الحزب الشيوعي أتهم السيدة عائشة إتهاما خادشا. و لكن الشيوعيون نفوا أن يكون هذا الشخص عضوا في الحزب الشيوعي، أنما هي مسرحية من تأليف الإسلاميين. هذه الحادثة أثارت العامة و تم بموجبها حل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان في 1965م، هذا الصراع الصفري لإبعاد الشيوعيين فتح منافذ الاستقطاب داخل القوات المسلحة و تشكيل خلايا داخلها أدت إلي انقلاب نميري 1969م من قبل الشيوعيين و القوميين العرب، ثم انقلاب أخرى للشيوعيون 1971م ثم انقلاب الجبهة الإسلامية 1989م و عدد من الانقلابات الفاشلة منها انقلاب 28 رمضان الذي قاده البعثيون. الأمر الذي يؤكد الاختراق الذي حدث داخل القوات المسلحة من قبل السياسيين.
أن الصراع بين الشيوعيين و الإسلاميين الذي أدى لحل الحزب الشيوعي في 1965م انتج ثقافة سياسية جديدة في المجتمع تقوم على الصراع الصفري، و أصبح الثنان يتحكمان في إنتاج هذه الثقافة، و يستخدمان كل أدواتهم الأعلامية و الصحافة و التجمعات المهنية و منظمات المجتمع المدني و حتى الصراع داخل الحركة الطلابية، و جميعها يساعد في إنتاج و تجديد هذه الثقافة. المسألة لم تعد في دائرة الحزبين و عضويتيهما، بل أنتقلت حتى إلي عضوية الأحزاب الأخرى، و التي كان يجب أن يكون لها تفكيرا مغايرا، و أخص هنا الحزبين التقليديين " الاتحادي و الأمة" و أصبح الخلاف في الرأي و الأفكار يوقع صاحبة في الاتهام للانحياز لجانب من الجانبين، هذه الثقافة المتحكمة في المجتمع و خاصة وسط المثقفين لا تستطيع أن تقود البلاد إلي الديمقراطية، لأنها ثقافة تتناقض مع الثقافة الديمقراطية تماما، هي ثقافة تقود للنزاعات و الحروب و تسيد أدوات العنف.
أن غياب قوى الوسط التي تستطيع أن تتصدى لمثل هذه الثقافات القاتلة، و تجعل من نفسها حائط للصد و الرفض. و غيابها هو الذي مكن الثقافة الصفرية و اعاطها مساحة للحركة و النمو و السيادة. أن القوى الساعية للبناء الديمقراطية لا تحتاج أن تستلف مصطلحاتها و ثقافتها من القوى التي تنتج الثقافة الصفرية، بل تعمل جادة على إنتاج الثقافة الديمقراطية، التي تؤسس على الحوار و النقد و إنتاج الأفكار المطلوبة لعملية التغيير، أن الثقافة التي تم إنتاجها بعد ثورة أكتوبر و أدت لحل الحزب الشيوعي و الانقلابات العسكرية هي ذات الثقافة التي أفشلت الديمقراطية بعد ثورة إبريل 1985م و أيضا أفشلت انجاز مهام ثورة ديسمبر 2018م، لأن القيادات التي جاءت للسلطة بعد أغسطس 2019م كان عليها أن تستفيد من تجارب الماضي، و تحاول أن تخرج من دائرة الثقافتين المتحكمتان الآن. القوتان المنتجتان للثقافة الصفرية فشلتا في الحكم و في نقد ممارستيهما و التوقف عن إنتاج هذه الثقافة العدمية. كان على القوى السياسية أن تطرح على نفسها السؤال كيف نستطيع أن نتجاوز الثقافة العدمية إلي إنتاج ثقافة جديدة و امتلاك أدوات العمل السياسي التي تتلاءم مع الواقع الجديد؟
البلاد في حاجة إلي قوى الوسط المؤمنة أن الديمقراطية تحتاج إلي عقول جديدة غير مختزنة بتلك الثقافة العدمية، إلي أفكار جديدة تبنى رؤيتها المخالفة للتجارب التاريخية الفاشلة، تؤسس على ثقافة ديمقراطية، تبدأ معاركها من داخل مؤسساتها الحزبية و تحدث فيها تغيرات تساعدها على إنتاج ثقافة داعمة للديمقراطية. أن طريق الديمقراطية ليس طريقا سهلا بل هو طريق محفوف بالمخاطر و التحديات، لآن هناك قوى لا ترغب في التغيير إذا كان الواقع القائم يؤمن لها مصالحها، و هذه القوى ليس فقط أن تكون في الدولة و متحكمة في مفاصلها، أو في حزب واحد، بل هي قوى محافظة موزعة بين الكيانات تخاف من التغيير، لأنها لا تضمن نتائجه. و التغيير لا يتأتى بالشعارات و الهتاف، بل بالحكمة و القدرة على إدارة الأزمة بوعي، و ضخ الأفكار المقنعة. و لكن إذا استمر الكل يتمسك بثقافة الصراع الصفري...! لن يحدث تغيير في المجتمع.. لأن الكل سوف يكونوا مستوعبين في "شكلة" تمنعهم من التفكير الجيد، و الخطاب المنطقي المتماشي مع قيم و شروط الديمقراطية. و نسأل الله حسن البصيرة.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی هذه الثقافة

إقرأ أيضاً:

ما وراء انفصال جنوب السودان واستقلال الهند وباكستان

من المعلوم أن استقلال الهند وباكستان جاء بقرار من داخل البرلمان البريطاني في العام 1947م، من شهر أغسطس يوم الخامس عشر – (موعد تدشين منبر جنيفا الخاص بوقف اطلاق النار بين قوات الدعم السريع والجيش)، فكان كيان دولة شبه القارة الهندية جامعاً للدول الثلاث – الهند – باكستان – بنغلاديش، وكان الزعيمان المؤسسان غاندي ومحمد علي جناح لوقت قصير قبيل الاستقلال، يعملان في تناغم تام وقناعة كاملة تحت مظلة الدولة الواحدة، إلى أن جنح جناح الباكستاني جنوحاً دينياً، ليؤسس الجمهورية الإسلامية المعبّرة عن آمال مسلمي الهند آنذاك، بينما اختار غاندي أن تكون الدولة علمانية تنصهر في بوتقتها كل الأديان، وسارت الدولتان في خطيهما اللذين رسماهما الزعيمان المؤسسان، وفي العام 1971م حدث زلزالاً عنيفاً شطر باكستان الشرقية (بنغلاديش) عن باكستان، وذلك الانقسام أيضاً لعبت فيه العلمنة والديننة دوراً محورياً، بينما استمرت الهند كمنظومة فدرالية ديمقراطية حوت العديد من الأديان والأعراق، واليوم تعتبر الهند خامس اقتصاد في العالم، وما زال حبل تجارتها على الجرار، تقتحم الأسواق العالمية بالبضائع وبالعمالة الماهرة والعادية، وبالخبرات العلمية والمهنية الكبرى، ويكفي وجودها الطاغي في سوق تقنية المعلومات كأجهزة وكعقول، بينما المسكينة باكستان ترزح تحت نير الإرهاب والتطرف، وأصبحت بيئتها صالحة لاحتضان الرموز والتنظيمات الأصولية، وارتفع معدل الجرائم الانتحارية والتفجيرات المدفوعة بأفكار الغلو الديني، ويقيني أن المسلمين المعتدلين الذين غرّهم مشروع محمد علي جناح الطوباوي حينذاك فذهبوا معه، أجدهم اليوم يعضون أصابع الندم ويسألون أنفسهم لماذا لم يبقوا في الهند، لكنه القدر اللعين الذي ساق خطاهم وما دروا ماذا كانوا يصنعون.
لقد بلغ النمو الاقتصادي للهند 8.4% السنة الماضية، وهذا المعدل يعتبر متقدم جداً إذا ما قورن بمعدلات نمو اقتصاديات دول كبرى لمنظومة "البريكست"، وعلى خلفية السرد التاريخي لتطور الدولة الهندية (العلمانية)، ينكشف السر الأعظم للتخلف الاقتصادي للشعوب والدول الراكنة للأنظمة الراديكالية، فأكثر ما أضر بالاقتصاد الباكستاني هو الانزواء داخل كهف المنظومات السياسية المرتدية لعباءة الدين، وما جرته العصبيات العقائدية من أسباب التخلف الاقتصادي، ومن تجاربنا الاجتماعية في بلدان الخليج نجد الإخوة الباكستانيين يكنون وداً وحباً لأخوتهم السودانيين، من منطلق قاعدة الإخاء الديني، لكن لم تستطع الحكومتان الدينيتان في اسلام أباد والخرطوم ترجمة هذا الود اقتصادياً، وربما تعاون النظامان على مستوى التخابر الداعم لحركة الجماعات المتطرفة، هذه المقاربة القصد منها فضح عاطفية العقل الديني، الذي لا يعير التنافس الاقتصادي العالمي أدنى اعتبار، فعالم اليوم يحترم العمل والعلم الداعمين للابتكار والإبداع والتسابق للحصول على براءات الاختراع، ولو كانت للعاطفة الدينية الجياشة من مردود منفعي اقتصادي لجاءت لنا هتافات مليشيات الدفاع الشعبي في السودان بالخير الوفير، لا الوبال الكبير الذي انتج حرب اليوم، والحرب الأخرى الطويلة الأمد التي أجبرت الجنوب للذهاب جنوباً ليؤسس دولته، هب أن الجنوبيين خرجوا من نفق الوحدة الكاذبة لا الجاذبة مبكراً في العام 1956م، أكاد أجزم أن تكون العاصمة جوبا اليوم في مقام حسناء افريقيا وعروس مدائنها، بدلاً عن استهلاك السنوات الطويلة والعقود المديدة في خوض حرب الوحدة التي دفع ثمنها طرف واحد، وباعتبار أن النهج الفكري للحركة الشعبية لتحرير السودان – محررة جنوب السودان، نهج علماني، سيقفز شعب جنوب السودان للرفاه الذي يليق به، وذلك لسبب واحد هو انفصاله عن (باكستان السودان).
العبرة من رسالة هذا المقال أن يحذر السودانيون من مغبة مهادنة أي جماعة دينية، تبشر بمشروع سياسي يتخذ من الدين وسيلة للوصول لمقاعد البرلمان وكراسي القصر، وكما أسهم مشروع المؤتمر الوطني الإخواني في فصل جنوب السودان، سيكون الاستمرار في مجاملة أي طرح ديني وصولي انتهازي مؤدياً لانقسامات أخرى، ومن أكثر الأقاليم المرشحة للنأي بنفسها عن مهزلة الحكم الاسلاموي، جبال النوبة وجبل مرة، وإذا لم يفق السودانيون من غيبوبة خدر المتاجرة بالدين سيرزحون تحت نير التخلف الاقتصادي، ويغرقون في فوضى العيش تحت إمرة فتاوى الكتب الصفراء، التي يصدرها أمثال المعتوه الذي أشار للدكتاتور بسفك دماء ثلث المسلمين، وأنا على يقين من إتيان ذلك اليوم الذي يخرج فيه من أصلاب هؤلاء الشيوخ المسوخ، جيل ينصب لهم المحاكم وهم عظام نخرة تحت القبور، لقد حكمنا فقهاء الإخوان المسلمين بالدجل، وبالشعوذة التي أعطت الفكي (الفقيه) الحق في أكل أموال الناس أكلاَ حراماً، تحت ستار الدين، وأن يغتصب الأطفال في الكتاتيب مستغلاً منهج "إقرأ" النبيل لإشباع شهوته المنحرفة، ويحرم الناس من خيرات الذهب الأسود اتباعاً لفتاوى فاجرة وفاسدة أطلق عليها المعتوهون (فقه التحلل)، والناظر لحال الدولتين الآسيويتين – الهند وباكستان – اليوم، يعي مغبة الانجرار وراء فوضى فتاوى الضلال من معتنقي نظريات الهوس الديني، فلابد لمن أراد خيراً بشعب بلاده من أن يشعل قنديلاً للسلام والمحبة والتسامح الديني، ويعلم النشء علماً يستبين به طرق الخلاص من منهج التمائم والكتب الصفراء، التي ما زالت تذخر بها أرفف مكتبات المدارس والجامعات.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • المبعوث الأميركي إلى السودان: نحاول جلب الفريقين الاسبوع المقبل وان لم يحضرا (..)
  • نتيجة حركة البيع.. مزرعة ألمانية تجلب المزيد من الصقور إلى المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور
  • العسكر وبناء الدولة التسلطية في العالم العربي.. قراءة في كتاب
  • تنسيقية تقدم السودانية تدعو الجيش والدعم السريع للذهاب لمفاوضات جنيف للتوصل لوقف فوري للحرب
  • الصحة العالمية: ثلثي السودانيين لا يتلقون الرعاية الصحية بسبب الصراع المستمر
  • الخرطوم تتهم أبو ظبي بمحاولة التنصل من المسؤولية عن الصراع الدائر
  • الصراع في السودان.. حرب بـالوكالة تغذيها الأطراف الخارجية المتنافسة
  • نقد التجربة السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد
  • نقد التجربة السياسية والإيديوبوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد
  • ما وراء انفصال جنوب السودان واستقلال الهند وباكستان