ليوناردو دينى يكتب: النيجر.. إلى أين؟(2)
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
فى ٢٦ أغسطس ٢٠٢٣ قررت الحكومة الانقلابية فى النيجر طرد سيلفان إيتى سفير فرنسا وكذلك سفيرا ألمانيا والولايات المتحدة من البلاد. كان هذا القرار بمثابة نقطة تحول جديدة فى النيجر.. نقطة تحول مناهضة لفرنسا ومعادية للغرب.
نتناول فى هذا المقال مصير بلدان الساحل بشكل عام والنيجر بشكل خاص فهى دولة غنية باليورانيوم وذات أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة لباريس، وهى عالقة ما بين الشهوات الروسية وما بين الاستعمار الفرنسى الجديد المفترض وكذلك أطماع العملاق الأفريقى المجاور نيجيريا.
ثم يأتى الدور الاقتصادى والتعاونى الذى ربما يكون أكثر واقعية فى أفريقيا الا وهو الدور الذى يلعبه الصينيون الذين يحلون اليوم تدريجيًا محل النظام السوفييتى السابق من خلال التأثير اقتصاديًا على العديد من الدول وصولا الى المنطقة الوسطى من أفريقيا. يضاف الى ذلك تلك المخاوف التى أعرب عنها الرئيس الجزائرى عبد المجيد تبون بشأن الصراع المحتمل فى النيجر.
مخاطر الهجرة الجماعية نحو شمال أفريقيا وأوروبا
فى الحقيقة، ما يخشاه الرئيس الجزائرى ليس حربا على الحدود التى تفصل بين بلاده والنيجر فحسب وانما يخشى تسونامى حقيقى لأزمة الهجرة الضخمة التى تهدد شمال أفريقيا وأوروبا.. فى مواجهة المجلس العسكرى النيجيرى يمكن لفلاديمير بوتين استخدام ذلك الأسلوب الذى تم اختباره بالفعل فى السنوات الأخيرة على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا بهدف توجيه المهاجرين نحو الحدود الأوروبية كما يمكنه استخدامه عبر الصحراء التى نتحدث عنها هنا وتقع شمال ساحل النيجر.
وكلمة الساحل تعنى فى الواقع الحافة وهى تشير إلى الحد الذى يرسم حدود الصحراء الكبرى من الجنوب. وتعد النيجر بالفعل مصدرًا لأكبر تدفق للهجرة وأكثرها تعقيدًا من بلدان منطقة جنوب الساحل الأفريقى.
ويمكن استغلال استراتيجية زعزعة الاستقرار هذه بذكاء بالنظر إلى السيطرة الروسية على نصف ليبيا ومن الناحية العملية تتعرض ليبيا والجزائر لمخاطر التدفق الهائل من اللاجئين القادمين من النيجر.
وفى الواقع، هؤلاء اللاجئين ليسوا نتاجا لفشل دولة النيجر أو فارين من حرب محتملة بين دولة النيجر والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا/الإيكواس، ولكنهم قبل كل شيء لاجئون يتركزون فى النيجر ولكنهم قادمون من جميع أنحاء أفريقيا.
الحقيقة أن الإرهاب المتطرف ماهو إلا نتيجة للجفاف والمجاعات والأوبئة والصراعات المحلية الصغيرة كما أن هذا العدد الكبير من اللاجئين والذى يهاجر فرارًا من المعاناة والاضطهاد با الرحيل عبر الصحراء وشمالًا نحو منطقة إلدورادو الأوروبية المفترضة.
وقد أثار الرئيس الجزائرى هذه الإشكالية والمتمثلة فى احتمال انهيار النيجر ككيان وكدولة مستقلة مع ما ينجم عنه من خلق شاذ لدولة جهادية متطرفة جديدة، من جهة وولادة دولتين نيجريتين مثلما حدث فى ليبيا وهى دولة مؤيدة لروسيا والأخرى مؤيدة للغرب بما ينجم عن ذلك من عواقب مدمرة وتأثيرات وخيمة على المنطقة.
إشكالية الوحدات العسكرية الأجنبية
مما يزيد الأمر تفاقمًا من وجهة نظر الأمن العسكرى الإقليمى مشكلة اخرى تضاف الى فوضى الهجرة: بدأ الجنود الفرنسيون البالغ عددهم ١٥٠٠ جندى والموجودون فى النيجر خطة مغادرة البلاد كما يفعل ٣٥٠ جنديًا إيطاليًا فى البعثة والموجودون فى النيجر ويتم إجلاؤهم وبسرعة كبيرة بعد الانقلاب؟ وماذا سيحدث لقاعدة الطائرات الأمريكية بدون طيار فى شمال النيجر، وماذا عن الألف جندى أمريكى ما زالوا متواجدين فى البلاد؟.
ومن المؤكد أن السفيرة الأمريكية نولاند قد تناولت هذه القضية خلال اجتماعها الدبلوماسى مع المجلس العسكرى الانقلابي؛ ماذا سيحدث أيضا للعديد من الفنيين والخبراء من أوروبا الغربية والموجودين فى النيجر وماذا عن مصيرهم غير المؤكد؟ ما هو تأثير وجود رجال الميليشيات الروسية والمستشارين والوحدات العسكرية الروسية عند المدخل؟.
وهنا يجب أن لا ننسى أنه من بين العواقب المحتملة أيضا «التأثير السوري»، أو ما يشبه ذلك التقاطع الغريب والتناقض الواضح للوجود المشترك المتناقض فى سوريا والمتمثل فى الوحدات العسكرية الأمريكية والروسية والتركية وغيرها. ويمكن تشبيه ذلك الوضع أيضا بما حدث فى حرب الخليج عام ١٩٩١ والوجود العسكرى الأمريكى الذى يحرس حقول النفط الكويتية بالقرب من العراق.. وهناك تصور لتحالف عسكرى موجود بالفعل بين مالى والنيجر وبوركينا فاسو.
الدول الانقلابية الموالية لروسيا والتى أنشأت حزامًا فيما بينها وتسيطر الآن على المنطقة القريبة من النيجر وهى معادية للدول الموالية للغرب فى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، مثل نيجيريا وساحل العاج وزامبيا وغانا والسنغال.
اللعبة الخطيرة حول يورانيوم النيجر
لا شك أن يورانيوم النيجر والذى يزود محطات الطاقة النووية الفرنسية ودول أخرى مهدد بالوقوع فى أيد شريرة إذ يمكن أن يستخدمه الروس ليس فقط لتلبية الاحتياجات النووية المدنية الروسية، ولكن لدعم التهديد النووى العسكرى الروسى تجاه أوروبا.
ويعد اليورانيوم موردا أساسيا لروسيا التى تركز على التهديد الذرى بصواريخ SS٣٠٠ فى بيلاروسيا، وصواريخ بوسيدون وصواريخ سارمات ذات الرؤوس النووية.
وعلى هذا فإن يورانيوم النيجر لا يشكل مشكلة تتعلق بكفاءة استخدام الطاقة بالنسبة لفرنسا التى تعتمد إلى حد كبير فى مواردها الكهربائية على الطاقة النووية بل إنه يمثل أيضًا مشكلة عسكرية نظرًا لأنه لا يمكن لأحد ولا حتى الأمم المتحدة أن يفرض على ثانى أكبر دولة فى نووية فى العالم بعدم استخدام اليورانيوم النيجرى فى إطار ما يسميه الرئيس البيلاروسى لوكاشينكو نفسه «أفق التفجيرات النووية المحتملة».
المجموعات العرقية فى النيجر عبر التاريخ
عاشت النيجر لعدة قرون دولة موحدة وقوية ومركزية فى تاريخ أفريقيا. ولم تفقد استقلالها إلا فى عام ١٨٩٨ - ولمدة أقل من قرن فقط - حتى عام ١٩٦٠. وفيما بين عامى ٧٠٠ و١٨٠٠ كانت النيجر مستقلة ولم تكن مستعمرة، وكانت لها كرامتها الخاصة كدولة أفريقية ذات سيادة.
كما أن قصر فترة الاستعمار الفرنسى والاستغلال الاستعمارى وما بعد الاستعمارى للبلاد يفسر جزئيًا تلك الكراهية المنتشرة على نطاق واسع ضد الفرنسيين. دعونا نتذكر أن مملكة سامورى تورى المستقلة التى تنتمى إلى شعب من مجموعة ماندى والتى كانت تضم جزءًا من النيجر الحالية كانت فى عداء مباشر مع التوسع الاستعمارى الفرنسى والغربى فى عام ١٨٠٠.
عدد قليل منا فى الغرب يتذكر أن العاصمة التاريخية للنيجر ليست العاصمة الحالية نيامى التى بنيت عام ١٨٠٠ كعاصمة للاستعمار بل كانت مدينة زيندر القديمة حيث كانت النيجر آنذاك جزءًا من إمبراطورية كانم بورنو الهندية الإفريقية فى العصور الوسطى. وانتشرت الحضارة الإسلامية هناك عن طريق السكان البدو فى النيجر.
ومنذ القرن السادس عشر، سيطر سلاطين زندر وسوكوتو على المنطقة ولكن المجموعة العرقية الأكثر أهمية تاريخيًا المرتبطة بسلطنة العصور الوسطى هى مجموعة الهوسا.
وباعتبار النيجر جزءًا من سلطنة الهوسا فقد حققت ثروة كبيرة بين عامى ١٧٠٠ و١٨٠٠، ويرجع الفضل فى ذلك إلى تجارة الذهب والمواد الخام، قبل وقت طويل من التجارة الحالية فى اليورانيوم.
ولا ننسى أن طائفة «الهوسا» لا تعيش اليوم الا فى الذاكرة التاريخية المنقولة شفويا وهى ذاكرة الشعوب الأفريقية حيث كانت تجارة النيجر القديمة تتمثل فى العبودية التى سرعان ما استغلها الأوروبيون وأمريكا الشمالية. ولم يتم القضاء على العبودية بشكل كامل اليوم فى النيجر اذ لا تزال إرثًا حزينًا لشكل غير إنسانى من تجارة غير عادلة.
يضاف إلى جانب الهوسا أيضا الطوارق فهم من المجموعات العرقية التى طورت ثقافة مستقلة وكذلك وجيرما سونغاى، وكانورى، وبودوما، والبيول، والتبو، وعرب النيجر؛ لذا فإن البلاد لديها العديد من المجموعات العرقية التى تعيش على نفس التربة بإجمالى ٢٤ مليون نسمة منتشرين على منطقة شاسعة تمتد من حدود الغابات فى الصحراء الكبرى فى الشمال إلى المحمية الطبيعية الهائلة غرب النيجر وهى محمية تقع على الحدود مع بنين كما يتعايش المربون والمزارعون هناك بشكل متوازنً دون تدخلات من الخارج.
الخلاصة
اذا اخذنا فى الاعتبار ان النيجر تعرضت للعديد من الانقلابات والمجالس شبه العسكرية منذ استقلالها وأنه حتى الرئيس المخلوع حديثًا بازوم تعرض لثلاث محاولات انقلابية فإننا سنفهم كيف تمكنت الدولة الإسلامية فى الصحراء الكبرى (EIGS) من الاستفادة من أزمة النيجر مثلما وضح من الهجوم الذى وقع مؤخرًا فى مالى ضد الجيش المالى.
إن الموجة الكبيرة من اللاجئين القادمين من النيجر الذين كانوا يرغبون فى الهجرة إلى أوروبا قد قام الإرهابيون المتطرفون بطردهم ذلك ان عنف هؤلاء المتطرفين يذكرنا بغارات القراصنة والبرابرة من شمال أفريقيا ايام العصور الوسطى.
وهذا العنف الذى يتصاعد من نصف الكرة الجنوبى يهدد بالانضمام، عاجلًا أم آجلًا، إلى العنف القادم من الشرق ذلك العنف القادم من الحرب الأوكرانية، وبالتالى من أوروبا الشرقية. وستجد أوروبا نفسها وكذلك فرنسا وقد وقعتا بين هذين التهديدين القادمين من الجنوب والشرق فى السنوات المقبلة.
ولهذا السبب بالتحديد علينا ألا نتخلى أو نهمل منطقة الساحل والنيجر وأفريقيا الوسطى اذ قد يكون هذا الاجراء حاسما فى منع الكوارث والحروب العسكرية وكوارث الهجرة والإنسانية المستقبلية فى أوروبا.
والآن تستعد دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وخاصة نيجيريا وبنين وساحل العاج تستعد للقيام بعمل عسكرى. وتتمتع نيجيريا بجيش قوى وقد أنشأت ساحل العاج قوة عسكرية مخصصة لذلك فى حين تتمتع بنين بنافذة هامة على البحر، وهو ما لا تملكه النيجر وهذا العنصريشكل أهمية قصوى لاقتصادها.
وتدعم فرنسا مع ماكرون الجهد العسكرى المحتمل للمجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا CEDEAO لكنها تسعى قبل كل شيء فى الدفاع عن مناجم اليورانيوم، فى مفارقة متمثلة فى العمل إما بشكل مباشر كقوة عسكرية استعمارية، أو بشكل غير مباشر مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
ولا ننسى هنا أن أولئك الذين يمكن أن يستفيدوا فى نهاية المطاف من حرب من هذا النوع سيكونون بالتأكيد هم الجهاديين فى جنوب النيجر، ونيجيريا التى يمكنها إلى جانب ترسيخ نفسها كقوة عسكرية واقتصادية جديدة فى وسط أفريقيا أن تدير مصالح إقليمية فى النيجر.
مثل هذه النكسة للمجلس العسكرى النيجرى الموالى لموسكو من شأنها أن تجعل الروس مجبرين على خسارة هدفهم المتمثل فى إبراز روسيا الإفريقية العظمى» وبالتالى فشلهم فى رؤية ولادة نيجيريا العظمى فى وسط إفريقيا.. وبالتالى فإن إفريقيا فى طريقها إلى النجاح».. وأيضا فى طريقها لان تشهد تغييرا كاملا ولكننا لا نعرف ما إذا كان الأفارقة سينجحون فى السيطرة على قارتهم؟
معلومات عن الكاتب:
ليوناردو دينى مفكر وفيلسوف من أصل إيطالى.. كانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية السياسة وفلسفة القانون.. له العديد من الكتب والدراسات.. كما كتب الرواية إلى جانب القصائد الفلسفية.. يستكمل رؤيته الموقف فى النيجر والصراع الذى يدور هناك.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: المجموعة الاقتصادیة لدول غرب أفریقیا فى النیجر من النیجر ما بین
إقرأ أيضاً:
منير أديب يكتب: هيئة تحرير الشام وطالبان.. أوجه متشابهة بين الانفراد بالسلطة واضطهاد الأقليات
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
دخل أبو محمد الجولانى إلى سوريا فوق دبابة أمريكية، وبعد أنّ خططت إسرائيل وقررت إطلاق الصافرة الأخيرة لنظام الرئيس السورى بشار الأسد، حتى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلى أشار إلى أنّ الضربات التى وجهتها إسرائيل لإيران وحزب الله التى أدت إلى سقوط النظام.
وأعقب رئيس الوزراء الإسرائيلى أنّ دولته تُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد، وأنّ سقوط النظام السوري، كان بتخطيط إسرائيلي، وهنا تم إعطاء الإذن إلى أحمد الشرع ومليشياته فى إدلب أنّ للتقدم نحو المدن والمحافظات السورية حتى الوصول إلى العاصمة السورية دمشق.
فما كان للجولانى أنّ يصل إلى دمشق إلا برضا أمريكى وتخطيط إسرائيلى وسط تخلى إيرانى وروسى عن الحليف الذى دعموه قرابة اثنى عشر عامًا.
المجتمع الدولى هو من جمد هؤلاء المسلحين فى إدلب وحافظ على وجودهم وحماهم من تصفية قوات الأسد وأتاح لهم حكمًا ذاتيًا، فهذه المحافظة انفصلت عمليًا عن بقية المحافظات السورية التى كانت تقع تحت سلطة وسيطرة الرئيس السوري، بل كانت بمثابة بروفا للحكم يتم إعداد جبهة النصرة فيها لليوم الموعود الذى يُسيطرون فيه على كامل سوريا.
ثم أعطت واشنطن الضوء الأخضر لتركيا، وبالتالى أعطت أنقرة الضوء الأخير لميلشياتها فى إدلب للتقدم فى باقى المحافظات السورية، فتم ذلك حتى وصلوا إلى العاصمة دمشق، وكان الاتفاق على الخروج الآمن للرئيس بشار وأسرته وأركان نظامه مقابل تسليم العاصمة دون إراقة نقطة دم واحدة، وهو ما حدث بالفعل.
كان يمتلك المقاتلون الذين تمت رعايتهم من قبل أنقرة ٤ مصانع للطائرات المسيرة، وقد أنتجوا قرابة ١٠ آلاف مسيرة بالتعاون مع أوكرانيا، وسط اتفاق دولى للحفاظ على هؤلاء المقاتلين، فهم بمثابة السلاح الذى تواجه من خلاله واشنطن النظام السوري، كما أنه بمثابة السلاح الذى تواجه من خلاله تركيا الأكراد التى وضعتهم على قوائم الإرهاب.
أفغنة الحالة السورية
هيئة تحرير الشام هى من كانت تقود العمليات العسكرية ضد بشار الأسد وأركان نظامه، وهو الفصيل المؤهل لتسلم السلطة دون بقية المعارضة السورية، وبخاصة الذين لم يستخدموا السلاح أو يمكن إطلاق لفظة المعارضة عليهم، وأغلبهم قوى مدنية وعلمانية، ليست عسكرية.
هذه الفصائل منعت من المشاركة فى تشكيل الحكومة المؤقتة من قبل أبو محمد الجولاني، بدعوى أنها قوى علمانية، بينما تم تكليف محمد البشير برئاسة مجلس الوزراء فى حكومة إنقاذ، ومعروف عن الرجل انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين، وقد قاتل مع الجولانى وكان مقربًا منه.
أغلب الذين اختارهم البشير فى حكومته جهاديين سابقين أو حاليين، وبعضهم جلس معه على الطاولة التى جمعت وزراء حكومة تسيير الأعمال وهم ملثمون! صحيح هؤلاء وصلوا للسلطة ولكنهم مازالوا يعتقدون أنهم يُديرون تنظيماتهم المتطرفة تحت الأرض، وسوف يظلون على هذا الحال حتى عندما يُديرون الحكم من قصر الشعب فيما بعد.
الوزراء سياسيون ولكن جيئ بهم وهم يحملون البندقية، كى يحكموا شعبًا أعزل؛ وهنا تبدو الخطورة الشديدة بين أناس تربوا على حمل السلاح واستخدامه ضد الأبرياء وبين مناصبهم الجديدة التى يتم عسكرتها.
الولايات المتحدة الأمريكية تصالحت مع ما تسمى هيئة تحرير الشام، وأعطت لها الإذن بالتقدم نحو العاصمة دمشق، مثلما فعلت مع حركة طالبان، مع العلم أنّ الهيئة وضعت على قوائم الإرهاب الأمريكية، كما أنّ واشنطن رصدت مكافأة قدرها عشرة ملايين جنيه مقابل الوصول إلى الجولاني.
وضعت هذه المكافأة والرجل حى يُرزق ومعروف مكانه سواء عندما كان موجودًا فى إدلب أو بعد سيطرته على دمشق، وهو ما يؤكد أنّ واشنطن ليس لديها مشكلة فى استخدام واسغلال تنظيمات الإسلام السياسى بما فيها هيئة تحرير الشام الإرهابية.
كما ليس لديها أى مشكلة فى غض الطرف عن جماعات الإسلام السياسى مقابل تحقيق مصالح سياسية ضيقة، وهذا ما أثر بصورة كبيرة على صعود ونمو الجماعات المتطرفة فى منطقة الشرق الأوسط والكثير من المناطق فى العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية تدرس حاليًا فكرة رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب؛ ويبدو أنّ قرار رفعها من قوائم الإرهاب إجراء روتينى بعد أنّ أعطتها واشنطن صك الشرعية من خلال إسقاط النظام السياسى فى سوريا.
أمريكا سبق وتصالحت مع حركة طالبان فى أفغانستان وقامت بتسليمها السلطة بعد أنّ غزت أفغانستان فى العام ٢٠٠١ واستمر وجودها فى البلد الأسيوى ٢٠ عامًا؛ ثم خرجت بعد ذلك باتفاق مع الحركة بعد أنّ سلمتها السلطة بصورة كاملة، وهنا تبدل الحال، حيث باتت الحركة نظام سياسى مرض عنه من قبل الأمريكان.
وهنا تبدو الرؤية الأمريكية واضحة فى ملف مكافحة الإرهاب، فهى لم تكن جادة فى مواجهة تنظيمات الإسلام السياسي، بل تستخدمها ضمن القوى السياسية والمتردة التى يُهددون من خلاله الأنظمة العربية المستقرة، وهو ما حدث فى الحالتين الأفغانية والسورية.
وهنا يمكن القول، إنّ الولايات المتحدة الأمريكية هى المسئول الأول والأخير عن أفغنة الحالة السورية، ونقل تجربة طالبان إلى داخل سوريا من خلال دعمها وتقديمها للشعب السورى كبديل لنظام بشار الأسد.
أمريكا ودعم تنظيمات الإسلام السياسي
وصول تنظيمات الإسلام السياسى فى المنطقة العربية جاء بموافقة أمريكية، بل بدعم دولى على رأسه واشنطن؛ ويبدو هذا واضحًا فى ليبيا كمثال وفى سوريا مؤخرًا، وهنا لا يجب التعويل على جهود واشنطن فى مكافحة الإرهاب، لأنها غير جادة فى هذه المواجهة من ناحية، بل توظف الجماعات المتطرفة لتنفيذ مصالحها فى منطقة الشرق الأوسط من ناحية أخرى.
أمريكا وإسرائيل هما أول المستفيدين من وراء تغيير النظام السوري، الأولى دعمت دخول هؤلاء المتطرفين إلى العاصة العربية، بينما تل أبيب هى من خططت لعملية السيطرة للتخلص من النفوذ الإيراني، فالواقع يحكى أنّ التغيير تم بأصابع أمريكية إسرائيلية، صحيح الأدوات كانت مقاتلين ومجاهدين عرب وسوريين.
أمريكا تقود أكبر عملية انقلاب فى منطقة الشرق الأوسط، تستخدم فيها تنظيمات الإسلام السياسي؛ وهنا يبدو أنّ واشنطن لا تجد مشكلة فى استخدام الجماعات المتطرفة من أى خلفية دينية، طالما ذلك يُحقق مصالحها السياسية.
أوجه الشبه بين هيئة تحرير الشام وطالبان
أوجه الشبه بين طالبان وهيئة تحرير الشام يبدو كبيرًا ليس على مستوى السلوك فقط ولكن على مستوى البنية التنظيمية أيضًا؛ فكل منهما له أفكاره الخاصة وسلوكه الخاص، ولكن تحدث تقاطعات يجب أنّ نرصدها فى بداية التجربة السورية.
تُريد الولايات المتحدة الأمريكية أنّ تقدم نموذجا للحكم فى سوريا أشبه بنظام الحكم الذى تقوده حركة طالبان؛ صحيح واشنطن لا تُرضيها إدارة طالبان للحكم، ولكن استطاعت واشنطن أنّ تُسيس الحركة وأن تنزع دسمها وما تُشكله من خطورة على أمن أمريكا، وهى ما تُحاول أنّ تفعله مع الهيئة من واقع التصريحات الأمريكية التى رصدناه منذ بداية السيطرة على دمشق.
كلٌ من الحركة والهيئة لديهما مواقف موحدة تجاه المرأة والأقليات والمختلفين، ولكن تبدو الهيئة أكثر تطرفًا من الحركة، فالنسخة الثانية من طالبان تبدو أخف فى تطرفها من النسخة الأولى وإنّ كانت تجمعهما مشتركات واحدة، أما الهيئة فهى نسخة هجين ما بين تنظيم القاعدة وداعش، فهى الأكثر تطرفًا والأكثر عنفًا تجاه المرأة والأقليات.
فكل منهما لا يرى حقا للأقليات حتى ولو خرجت التصريحات بخلاف ذلك، ومنطقهم فى ذلك أنهم هم من يُمثلون الله فى الأرض وهم الذين يرعون الحق الإلهى ويمتلكون الحقيقة، فيعطون لأنفسهم الحق بينما يمنعونه عن الآخرين.
هنا تُراهن واشنطن على الراعى التركى والضامن فى نفس الوقت، والهدف تقليم أظافر الهيئة أو تهذيبها بحيث تكون أقرب الشبه بحركة طالبان، حيث نجحت واشنطن فى إيجاد صيغة تعامل معها.
صحيح أنّ طالبان وفرت حاضنة لتنظيم القاعدة سواء قبل الغزو الأمريكى أو أثناءه أو بعد خروج واشنطن من أفغانستان، بينما هيئة تحرير الشام تمثل خليط هجين من القاعدة وداعش، وبالتالى فهى نموذج فى السلطة والحكم أكثر قسوة من طالبان، وهو ما تخشاه واشنطن وإسرائيل، وربما دفع الأخيرة لتفجير كل أسلحة الجيش السورى حتى لا يستخدمه ضدها.
طالبان لم تُشارك الطوائف والقبائل ولا المرأة ولا المختلفين فى الحكم، هم وحدهم فقط فى السلطة، وهو ما سوف تفعله الهيئة بتفرد وانفراد، لأنهم يمثلون الحق الإلهى ويُعبرون عن ظل الله فى الأرض كما يعتقدون، فهم صورة حقيقية للإرهاب.
متوقع أنّ تنشب خلافات عسكرية مسلحة بين الفصائل والميليشيات التى تندرج حتى لافتة هيئة تحرير الشام، أو بينها وبين داعش التى بدأت تعمل فى البادية السورية، خاصة وأنّ المناخ بات مهيئًا للتنظيمات المتطرفة فى الداخل السوري، ولعل هذا شبه آخر بين الحالتين السورية والأفغانية.
لا حريات عامة ولا خاصة فى تلك المناطق التى تُسيطر عليها كل التنظيمات المتشددة والمتطرفة وبخاصة هيئة تحرير الشام وطالبان ومن كان على شاكلتهم؛ فهذه التنظيمات لا تُؤمن بحق المرأة ولا بحق المختلف دينيًا ولا بالمختلف معها على مستوى الأفكار، بل قد تُكفر هؤلاء وتنزع عنهم صفة الإسلام.
مواجهة الحالة الأفغانية فى سوريا
لابد من إنشاء تحالف عربى تكون مهمته الحقيقية مواجهة صعود تيارات الإسلام السياسى العنيفة إلى السلطة فى عدد من العواصم العربية، فضلًا عن استخدام واستغلال هذه التنظيمات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك نهم أمريكى شرس نحو التهام المنطقة العربية والحفاظ على مصالحها، وهذا لن يتم إلا من خلال قوى منظمة حتى ولو كانت هذه القوى تنظيمات الإسلام السياسي، ولذلك واشنطن ومعها دول كبرى عمدت إلى تقديم هذا الدعم، وهو ما يستلزم قراءة دقيقة لمواجهة هذا التوغل حتى لا يُؤثر سلبًا على أمن المنطقة العربية.
وقعت العديد من وسائل الإعلام العربية فى فخ وصف التنظيمات المتطرفة فى سوريا بالمعارضة المسلحة، وهو توصيف خاطئ ويُجافى الحقيقة، فالمعارضة مصطلح سياسى لا يستخدم المعارض العنف وسيلة للتعبير، وإذا حدث يُسمى ميليشيا أو فصيل، فالمعارض ليس مسلحًا والمسلح لا يمكن أنّ يكون معارضًا.
فهؤلاء الذين سيطروا على سوريا تنظيمات وفصائل وميليشيات مسلحة ذات خلفيات متعددة ولكن تظل هيئة تحرير الشام هى المسيطرة على كل الفصائل، وهنا يمكن أنّ نقول بوضوح إنها تنظيمات إسلاموية مسلحة، لأن القرار يبقى فى النهاية للهيئة أو جبهة النصرة سابقًا.
وهنا يتم تقديم المصالح السياسية على القراءة الدقيقة للمشهد والتى تستلزم تسمية هذه التنظيمات بأسمائها الحقيقية، وبالتالى التعامل معها كما ينبغي.
هذا الخطاب ليس معناه الدفاع عن أخطاء النظام السابق فى سوريا، ولكن السؤال، هل المقابل يكون تنظيمات إسلاموية متطرفة؟ وإذا صعدت الأخيرة للسلطة، فما الذى يجب أنّ تفعله المنطقة العربية من أجل مواجهة تحفظ أمن المنطقة؟
لابد من وجود اتفاق عربى على مواجهة الخطر القادم من سوريا، ولابد من تسمية جماعات العنف والتطرف مهما تغيرت أسمائها أو حاولت أنّ ترتدى ثيابًا جديدة، فالمصلحة الأهم هو الحفاظ على أمن المنطقة من خطر جماعات العنف والتطرف.