بعد جهد جهيد، أمكن لكاتب هذه السطور ترتيب لقاء عن بعد، مع نخبة من شبان “الحراك الثوري” السوداني وشابّاته. المهمة لم تكن سهلة أبداً. لا أحد منهم في مكانه. بعضهم ما زال في الخرطوم، لكن في أماكن أكثر أمناً، وبعضهم الآخر انتقل إلى ولايات أخرى، شدة الاشتباكات فيها أقل حدة من مدن العاصمة الثلاث، ومنهم من لجأ إلى دول المنافي القريبة والبعيدة، ومنهم من ينتظر، يعيش بعضهم في معسكرات ومراكز إيواء، وآخرون تدبّروا أمر شتاتهم بشقّ الأنفس.
أجندة الحراك وأولوياته تبدّلت، انتقل من إسقاط حكم العسكر وتسليم السلطة إلى مدنيين ديمقراطيين، إلى عمليات الغوث والإنقاذ وتوثيق جرائم
الحرب والجرائم ضد الإنسانية.ما حاجة السوداني الهائم على وجهه مع عائلته إلى حديث عن “الانتقال الديمقراطي”، في الوقت الذي ينتظره الموت خلف كل زقاق، ويطارده المرض والجوع والعوز من دون رحمة، وأطفاله يتضورون جوعاً من دون أن يقوى على توفير رغيف الخبز، أو يعتصرهم الألم من دون أن يجد حبة دواء. الأولويات انقلبت رأساً على عقب تماماً.ثورة 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 الشعبية المجيدة في السودان، تطوي صفحتها الأخيرة، بعد سيل جارف من التضحيات. وقوى “الدولة العميقة” و”الثورة المضادة”، محلياً وإقليمياً، تنجح في تدمير هذه البلاد، وتقطيع أوصالها، وقطع الطريق على تحولاتها الديمقراطية، في ظل صمت العالم وتواطئه، بينما خصوم السودان، التقليديون، ينتظرون بلهفة “لحظة تصفية الحساب” مع البلد/القارة، الذي استكثروا عليه بقاءه قطعة واحدة، فأعملوا فيه معاول الانقسام والتقسيم والتقاسم.لم يكن دخول الجيش و”الجنجويد” على خط الحراك الشعبي الجارف، بريئاً أبداً، وجنرالات الفريقين لم يرفعوا الغطاء عن نظام عمر حسن البشير، حرصاً على أرواح المحتجين الذين ضاقت بهم الشوارع والميادين.دخولهم على خط الثورة كان منذ اليوم الأول بهدف إجهاضها وامتطاء صهوتها، وفي أذهانهم تحويل سلطتهم الموقتة إلى سلطة دائمة، والحلول محل البشير وبعض أركان حكمه الأكثر إثارة للغضب والاستفزاز الشعبيين.وما لم يكن ممكناً إنجازه فوراً ومنذ البدء، تحقق لهم على نحو سافر في انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021، وقبل أن تندلع نيران القتال داخل “البيت العسكري – الميليشياوي” وبين قطبين تجتاحهما شهوة السلطة والتربع على عرشها: البرهان وحميدتي.صَمَتَ العالم، وخصوصاً الغرب، على تفشي “العسكرة” في نظام ما بعد البشير، ولا سيما بعد أن أظهر قطبا الانقلاب وجنرالاه استعداداً مذهلاً لدفع كل فواتير الظفر بـ”الشرعية” وإضفاء المقبولية والمشروعية على حكمهما البلاد واقتسامهما السلطة والثروة. البرهان دشّن مسار التطبيع في “عينتيبي” مع نتنياهو، وحميدتي شق قناة اتصال بمساعدة داعميه الإقليميين بـ”الموساد” الإسرائيلي.الأول خطب ودّ “إسرائيل” من بوابتَي الخارجية ورئاسة الحكومة، والثاني “أخذها من قصيرها” بالارتباط بأحد أبشع أجهزة الاستخبارات في العالم، صاحب الصيت السيئ، الذي لا يليق إلا به وبكيانه.عطّل الرجلان مسار الانتقال وجداوله الزمنية واستحقاقاته المتفق بشأنها، لكن الصراع بينهما سرعان ما سيطفو على السطح، ليدخلا “لعبة صفرية” بعد أن أدركا أن
السودان لا يُحكم بنظام الرأسين، وأنه إن لم يتمكن أحدهما من إزاحة الآخر عن المسرح، فلا بأس من الذهاب إلى خيار التقسيم والتقاسم، وهو ما يلوح اليوم بقوة في سماء السودان الشاسعة.خلف كل منهما، وقفت أطراف إقليمية ودولية. بعضها رأى في البرهان امتداداً لتجربته الخاصة في امتطاء الثورات وإطفائها، وبعضهم الآخر رأى في حميدتي حصان طروادة للتطبيع ورأس حربة في الهجوم على الثورات الشعبية العربية و”إسلامها السياسي”. وهم أصحاب خبرة طويلة وعريضة في قيادة الثورات المضادة لثورات “الربيع العربي” وتصدرها. هنا، ستنتقل الأزمة من “السودنة” إلى “الأقلمة” و”التدويل”.على أن حميدتي، والحق يقال، كان أكثر ذكاءً في إدارة المعركتين العسكرية والسياسية مع الجيش ومجلسه وقائده، على رغم فارق القوة ميدانياً بينهما، والطابع “غير الرسمي” للميليشيات التي يتزعمها.أكثر من الحديث عن “الفلول” والتحذير من “الأخونة” والتنبيه لمخاطر “الإسلام السياسي”، ولم يكفّ عن إطلاق الوعود لقيادات “الحرية والتغيير” بقرب الانتقال المدني – الديمقراطي، حتى بدا في بواكير الحرب أن للرجل نفوذاً في الأوساط المدنية والشعبية السودانية يفوق كثيراً ما للجيش وبرهانه.وتحت مظلة “الاتفاق الإطاري”، كانت عمليات “الغزل المتبادل”، السريّة والعلنية، تدور بين “قوى الحرية والتغيير” من جهة، و”الجنجويد” من جهة ثانية، ولم يكن رئيس الحكومة السابق حمدوك بعيداً عن كل هذا وذاك.الجيش بدا أنه أُخِذَ على حين غرة. جسمه الثقيل وغير المرن، جعله عرضة للضربات المتنقلة والرشيقة لـ”الدعم السريع”. وبدا لأشهر (حتى اليوم) أنه يقاتل أشباحاً متنقلة. إفراطه في استخدام القوة الجوية والمدفعية أوقعه في المحظور، عن قصد أو من دونه، إذ تسبب بإلحاق أذى شديد بالمدنيين السودانيين وهو يطارد هذه الأشباح التي تزرع الموت والخراب، وتعيث في البلاد قتلاً وتخريباً وسرقة واغتصاباً، من دون رادع قانوني أو وازع من ضمير.على أن “الجنجويد”، مع استمرار القتال في ظل انعدام توازن القوى، سيستعيد فصولاً من سيرته الأولى في دارفور، حين كان يقتل ويدمر ويغتصب ويشرد باسم البشير و”شرعيته” و”نظامه الإسلاموي”، مقترفاً أبشع الجرائم والانتهاكات بحق السودانيين والسودانيات، ومعتمداً على جيوش من المرتزقة جاء بهم من السودان وجواره، وهو صاحب الخبرة الطويلة في تجنيد المرتزقة للقتال في اليمن إلى جانب “الشرعية”، وفي ليبيا إلى جانب الجنرال العجوز خليفة حفتر، وسيُفضي ذلك بالتدريج إلى انفضاض القوم من حوله.حتى القوى السودانية باتت تجد حرجاً في الدفاع عنه، حتى وهي ترفع شعاراً “بريئاً ونزيهاً”: وقف الحرب، من دون أن تفصح عن كيف سيتم ذلك، وما هو مصير نظام الرأسين، وكيف يمكن التوفيق بين مؤسسة عسكرية شرعية، على رغم كل ما يقال عنها وفيها من جهة، وميليشيات سائبة من جهة أخرى.مع احتدام المعارك من دون حسم، وإطالة أمدها من دون أفق للحسم، وفي ضوء تعثر مسارات الحل السياسي، ستتسع دائرة تدويل الصراع السوداني، وسيتحول السودان إلى جبهة جديدة من جبهات الحرب الروسية الأوكرانية: فاغنر تدعم حميدتي وتشاركه في تجارة الذهب والسلاح، والمسيّرات الأوكرانية تضرب مواقع “الدعم السريع”، ويقال على أيدي خبراء أوكرانيين وصلوا إلى السودان مؤخراً.وستبدأ كفة “المجتمع الدولي” تميل لمصلحة الجيش، وسيُدعى البرهان إلى إلقاء كلمة السودان في الأمم المتحدة. كل ذلك لأن الصراع في السودان بات يُنظَر إليه من منظور أكبر وأوسع: الصراع الروسي الأمريكي، ولا سيما مع تنامي ثقل روسيا و”فاغنر” في أفريقيا، وانهيار الدور والنفوذ الفرنسيين فيها، واحتدام المنافسة والصراع على القارة السوداء.لكن ذلك لا يعني أبداً أن الصراع حُسم، أو سيُحسَم لمصلحة الجيش والبرهان، فالقوى الداعمة لحميدتي و”الدعم” ليست قليلة بدورها، وبعضها يريد تصفية الحساب مع السودان على خلفيات عديدة (إثيوبيا)، وبعضها يريد تصفية الحساب مع “الإسلام السياسي، الإخواني بصورة خاصة (دولة عربية)، وبعضها لا يريد لحميدتي أن يُهزم، كما لا يريد ذلك للبرهان أيضاً، ما دام تقسيم السودان وتفتيته سيصبحان مهمة أسهل، إن تعذّر الحسم على الطرفين، واضطر الجانبان إلى البحث في خيارات التقسيم والتقاسم.هي عناوين وتحديات طارئه على أجندة السودان وحراكه الشعبي وحراكه المدني. فالمطلوب اليوم بات يتعلق ببقاء البلد وليس بشكل نظام حكمه. المطلوب اليوم استنقاذ حيوات ملايين السودانيين المشردين في بلدهم والجوار، وليس تمكين الشعب من حكم نفسه بنفسه. المطلوب اليوم المحافظة على وحدة السودان، في ظل هبوب رياح التقسيم العاتية.جرّب السودان شعار “سودان واحد بنظامين” قبل انفصال الجنوب، وفشل فشلاً ذريعاً، والأغلب أن التلويح بحكومتين من جانب طرفي الحرب، ينذر بالعودة إلى هذا الشعار، وإن تحت مسمى “فيدرالي”، وليس مهماً اليوم الاكتفاء بالدعوة إلى وقف الحرب بأي ثمن، فما بعد وقف إطلاق النار، ثمة سيل من الأسئلة التي لم تنجح الأطراف المتحاربة وداعموها في توفير الأجوبة عنها.والأرجح أن الحرب في السودان ستطول، بدلالة البحث عن “عواصم موقتة” خارج العاصمة ومدنها الثلاث، والتي باتت بؤرة “حرب المواقع الثابتة”. ومع كل يوم يمضي، تتزايد احتمالات الوصول إلى “نقطة اللاعودة”، وتتعاظم مخاطر تقسيم البلاد إلى عدة دول، وليس إلى دولتين اثنتين، فلا قعر للانقسامات المتناسلة، ولا خط نهاية لمسار التفتيت.بالعودة إلى الحراك الثوري وشبانه وشابّاته، والذي بدأنا به هذا المقال، يبدو واضحاً أن الإعياء وانعدام اليقين والإحساس بالعجز أخذت تتسرب إلى صفوفهم، ولا غرابة في ذلك، إذ مهما بلغت تضحياتهم وبطولاتهم الفردية والجماعية، فإنه يبدو أن “لعبة الأمم” أشد قوة وتأثيراً منهم.
المصدر: نبض السودان
كلمات دلالية:
السودان
من دون
من جهة
إقرأ أيضاً:
الرياض عاصمة سلام مفصلية بين ترامب – بوتين
في إطار تنامي فاعلية الدبلوماسية السعودية، تحتضن الرياض قمة استثنائية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بمشاركة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وذلك من أجل بدء مفاوضات سلام حول أوكرانيا، فيما أفصحت مصادر روسية بأن غداً الثلاثاء من المقرر بدء أولى اجتماعات محادثات السلام.
وتمنح فرصة انعقاد القمة الاستثنائية في الرياض التأكيد على مكانة السعودية بوصفها دولة مؤثرة يتجاوز نفوذها محيط الإقليم إلى العالم لتلقي بثقلها السياسي على الساحة الدولية من أجل تشخيص واقع المشكلات واجتراح حلول جوهرية للأزمات وبالتالي دعم الاستقرار العالمي، طبقاً لما يؤكده محللون سياسيون لـ”العربية.نت”.
في السياق ذاته، يقرأ البروفيسور صالح الخثلان، أستاذ العلوم السياسية، واقع عقد أول قمة أميركية – روسية في الرياض بأنها تعزز صورة السعودية بصفتها وسيطا محايدا عبر جهودها الإنسانية ومساعيها الدبلوماسية.
ويقول الخثلان: قدمت السعودية مساعدات إنسانية لأوكرانيا، فيما توسطت عام 2022 لإطلاق سراح عدد من الأسرى بين أوكرانيا وروسيا، كما استضافت في جدة في أغسطس 2023 الاجتماع الثاني لمستشاري الأمن الوطني من 40 دولة لبحث سبل إنهاء الحرب.
إنجاز دبلوماسي
ويؤكد الدكتور صالح الخثلان المستشار الأول في مركز الخليج للأبحاث أن اختيار السعودية بصفتها منصة لأول قمة بين الرئيسين الأمريكي والروسي لبحث إنهاء الحرب في أوكرانيا يُعد إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا للسعودية، إذ يؤكد مكانة الرياض دولياً فضلاً عن ثقة القوى الكبرى في حيادها وقدراتها الدبلوماسية كما ذكر.
دور سعودي وازن
ويذهب الخثلان بالإشارة إلى أن قمة الرياض تعد تأكيدا للتقدير الدولي لدور السعودية الوزان في الأزمة الأوكرانية، إذ حافظت السعودية على موقف متزن تجاه الحرب في أوكرانيا، داعمة قرارات الأمم المتحدة ضد استخدام روسيا للقوة العسكرية، غير أنها امتنعت في الوقت ذاته عن المشاركة في فرض عقوبات عليها ما يؤكد نهجها المستقل في السياسة الخارجية.
وساطة دولية
وقال في سياق حديثه: إن للسعودية تاريخا طويلا في لعب دور الوسيط، ولعل أبرز محطات هذا الدور مؤتمر الطائف عام 1989، الذي نجح في إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، غير أن ما يحدث اليوم يمثل انتقالًا نوعيًا من الوساطة في النزاعات الإقليمية إلى الوساطة في القضايا الدولية الكبرى، ما يعكس تطور الدور السعودي العالمي.
الرياض وفرص ترتيب الأوضاع
من جهته، يقول الدكتور عياد المناع، الباحث السياسي الكويتي إن استضافة قمة بين بوتين وترمب في الرياض يعزز فرص السعودية يؤكد مكانة الرياض دولياً خاصة في ظل وجود قيادة سعودية ترتب الأوضاع بشكل يسمح للملتقين والمتفاوضين أن يطرحوا القضايا بوضوح وصراحة وحياد.
وأشار في سياق حديثه بأن السعودية تتمتع بمستوى صداقات واسع مع الطرفين سواء روسيا أو أميركا وتعاملت مع الطرفين تجارياً وسياسياً ما يشجع الأطراف كافة على الذهاب إلى السعودية لطرح قضاياهم التي يعتقدون بأهميتها وضرورتها.
وقال: العامل المشترك الأساسي بين الطرفين هو الحرب الأوكرانية، الرئيس الأميركي ترامب وعد بإنهائها بمجرد وصوله الرئاسة وبوتين يود إنهاءها هو الآخر، لذا فإن السعودية المكان المناسب نظراً إلى أهمية دورها وعلاقاتها مع الطرفين ومكانتها الوازنة في المجتمع الدولي، وهو ما جعل الرئيس ترمب يختارها كأول محطة لزياراته والالتقاء بزعيم الطرف الآخر من العالم بوتين.
وأضاف الدكتور عايد المناع الباحث السياسي الكويتي: تحظى هذه القمة بأهمية عالمية كونها تجمع أهم دولتين في العالم وكذلك لما تناقشه من قضايا مثل الصراع الروسي الأوكراني وبالتأكيد ستكون هناك إشارات لقضايا أخرى مثل مناقشة قضية فلسطين والأوضاع الاقتصادية والنفط باعتقادي أيضا أن السعودية ستدخل بشكل وبآخر لطرح ملف حل الدولتين وبهذا تفعل القرارات الدولية.
العربية نت
إنضم لقناة النيلين على واتساب