"وماذا نستفيد على الأرض من اكتشاف الكربون بأحد أقمار المشتري؟".. ربما قد يثير هذا السؤال الذي كتبه أحد القراء بأحد المواقع العلمية، غضب فريق ليس بالقليل من العلماء، ممن يهتمون بـ"العلم من أجل العلم".

ولكن كانت المفاجأة، أن 4 من 5 علماء، تحدثوا للجزيرة نت، بينهم الباحثة الرئيسية في الدراسة التي أعلنت عن هذا الاكتشاف في 21 سبتمبر/أيلول بدورية "ساينس"، حرصوا على الحديث بمزيد من التفصيل عن الرابط بين ما نكتشفه في الفضاء والحياة على الأرض.

وكان الباحث الوحيد، الذي لا يؤمن بضرورة خلق هذا الرابط هو مايكل براون، الأستاذ بقسم العلوم الجيولوجية والكواكب بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بأميركا، وأحد المشاركين بالدراسة، والتي تم الإعلان من خلالها عن توظيف تلسكوب "جيمس ويب" الفضائي التابع لناسا، لاكتشاف ثاني أكسيد الكربون محلي الصنع على القمر الجليدي لكوكب المشتري "أوروبا".

فهم المحيط الموجود تحت قشرة "أوروبا"

و"أوروبا"، أصغر قليلا من قمر الأرض، وهو مغطى بقشرة من الجليد المائي الذي يغلف محيطا من المياه المالحة، ووجود الماء السائل يجعل هذا القمر موضوعا مثيرا للاستكشاف بالنسبة للعلماء المهتمين بالحياة خارج كوكب الأرض، لذلك تحدث براون بمزيد من التفصيل عن القيمة العلمية للاكتشاف، قائلا في تصريحات عبر البريد الإلكتروني "بالنسبة لي، يعد هذا الاكتشاف أحد المفاتيح لفهم المحيط الموجود تحت القشرة الجليدية للقمر، والذي يحتوي على مياه سائلة أكثر من تلك الموجودة على الأرض، وكنا لا نعرف عنه إلا القليل".

وأضاف "لكن الآن نحن نعتقد أن المحيط به ثاني أكسيد الكربون، وهو أمر مثير للاهتمام، لأنه في محيطاتنا، تجمع بعض الميكروبات ثاني أكسيد الكربون مع مواد كيميائية أخرى (مثل الهيدروجين أو كبريتيد الهيدروجين) لتشغيل خلاياها، وفي حين أننا لا نعرف ما إذا كان هذا يحدث في (أوروبا)، فإننا نعلم الآن أن واحدا على الأقل من المكونات المحتملة موجود".

وبينما أثار الحديث عن القيمة العلمية شهية براون فتحدث بالتفصيل، كانت إجابته عن السؤال حول فائدة مثل هذا الاكتشاف للحياة على الأرض، كاشفا عن انتمائه لمدرسة "العلم من أجل العلم"، إذ قال "أعتقد أن الاستكشاف والاكتشاف والفضول هي أجزاء مهمة في الطبيعة البشرية، ودون هذا تصبح حياتنا قاحلة".

اتصال القيمة العلمية بالحياتية

وعلى عكس براون، كانت زميلته سامانثا ترامبو، من مركز الفيزياء الفلكية وعلوم الكواكب بجامعة كورنيل الأميركية، والباحثة الرئيسية بالدراسة، مهتمة بالحديث بالتفصيل عن القيمة العلمية والحياتية للاكتشاف.

وقالت ترامبو عن القيمة العلمية في تصريحات عبر البريد الإلكتروني "لقد علمنا بالفعل من مهمة (غاليليو) أن سطح (أوروبا) يحتوي على ثاني أكسيد الكربون، لكننا لم نعرف ما إذا كان ثاني أكسيد الكربون يأتي من داخل أوروبا أو خارجه، ولكن الآن، مع هذه النتائج الجديدة، يمكننا القول إن ثاني أكسيد الكربون يبدو أن مصدره المحيط الداخلي، وهذا مهم لأنه يعني أن الكربون، وهو أمر ضروري للسكن، موجود في المحيط تحت سطح الأرض وقد تم تسليمه إلى السطح، حيث يمكننا دراسة كيميائه، وتساعد هذه النتائج في فهم تكوين المحيط، وفهم هذا التكوين أمر بالغ الأهمية لفهم مدى قابلية مياه المحيط للسكن".

وفي رابط بين القيمة العلمية والحياتية، أوضحت ترامبو أن "إمكانية الحياة خارج الأرض هي واحدة من أكبر أسئلتنا، وتشير التقديرات إلى أن (أوروبا) يمتلك حوالي ضعف كمية المياه التي تمتلكها محيطات الأرض مجتمعة، لذا فهو مكان رائع للدراسة لفهم إمكانية وجود بيئات صالحة للسكن في أماكن أخرى في نظامنا الشمسي".

وبسؤالها عن نوع الحياة المتوقع وجودها على (أوروبا)، والتي يمكن دعمها بوجود مصدر محلي لإنتاج الكربون، أوجدت ترامبو رابطا آخر بين القيمة العلمية والحياتية، إذ أضافت "حتى الآن نحن لا نجزم بوجود الحياة على (أوروبا)، ولكن بعد اكتشاف ثاني أكسيد الكربون يمكننا أن ننظر إلى بيئات مماثلة على الأرض للحصول على فكرة، فربما تكون الأنظمة البيئية للفتحات الحرارية المائية في قاع البحار على الأرض، حيث تكون الحياة مستقلة عن ضوء الشمس، وتكون الحياة مدعومة بالتفاعلات الجيوكيميائية بين مياه المحيط وصخور القشرة الأرضية، هي بيئات مشابهة لأشكال الحياة على (أوروبا)".

"أوروبا" يمتلك حوالي ضعف كمية المياه التي تمتلكها محيطات الأرض مجتمعة (رويترز) كشف أسرار مناخ عالمنا المتغير

ولا يختلف العلماء الآخرون الذين استطلعت الجزيرة نت آراءهم على القيمة العلمية للاكتشاف، ولكن كان لكل منهم رؤيته الخاصة في انعكاس هذا الاكتشاف على حياتنا.

ويقول إيثان رايان بورنيت، الباحث بمجال ميكانيكا الطيران الفضائي والديناميكا الفلكية بجامعة كولورادو الأميركية في تصريحات عبر البريد الإلكتروني، إن "الحياة كما نعرفها تتطلب كلا من الماء السائل والكربون للبقاء على قيد الحياة، والنتيجة المتمثلة في وجود مصدر للكربون في المحيط تحت سطح (أوروبا) تعزز أنه وجهة مثيرة في البحث عن بيئات صالحة للسكن والحياة خارج الأرض، مع ملاحظة أن الحياة تتطلب أيضا العديد من الأشياء الأخرى، وهناك العديد من الأسباب غير البيولوجية التي تجعلنا نتوقع العثور على الكربون في المحيط تحت سطح (أوروبا)".

ويأتي انعكاس هذا الاكتشاف على حياتنا في رأي بورنيت من أن "التعرف على كيمياء ومناخات العوالم الأخرى في النظام الشمسي، سيساعدنا على فهم أفضل لآلية العمل وراء مناخ عالمنا المتغير، كما أنه يمكن بسهولة تكييف التطورات التكنولوجية اللازمة بعلوم الفضاء للتطبيقات التجارية على الأرض".

وبالإضافة لهذه الفوائد، جاء في النهاية منطق "العلم من أجل العلم" الذي تحدث به براون، إذ قال بورنيت في ختام تعليقه إنه "من الطبيعة البشرية طرح الأسئلة واستكشاف واختبار الأفكار، والعلم كما نعرفه هو مجرد الطريق الحديث الذي نستخدمه للقيام بذلك على المستوى المهني، لذا، فأنا أزعم أن علوم الفضاء، مثل أي علم، لها قيمة ثقافية متأصلة عميقة، تماما مثل الموسيقى أو الرسم أو الأدب".

الاتصال بين محيط "أوروبا" وسطحه

ومتفقا مع الرأي السابق، تحدث بول هاين، الأستاذ المساعد بقسم الفيزياء الفلكية وعلوم الكواكب بجامعة كولورادو الأميركية، عن أن القيمة العلمية للاكتشاف تأتي من "مصدر الكربون".

وقال في تصريحات بالبريد الإلكتروني "على الرغم من أن وجود ثاني أكسيد الكربون في (أوروبا) ليس اكتشافا جديدا، فإن موقعه استنادا إلى بيانات تلسكوب جيمس ويب الفضائي، يشير إلى أنه قد يكون مصدره المحيط الداخلي للقمر".

وأوضح أن "هذا الاكتشاف يعد مهما لأنه يضيف إلى الأدلة المتزايدة على أن المحيط قد لا يكون معزولا تماما عن السطح بواسطة القشرة الجليدية لأوروبا، وبالتالي إذا كان هناك تبادل بين المواد الموجودة بالسطح والمحيط، قد يؤثر ذلك على كيمياء المحيط الداخلي المالح، ولا سيما تحسين الظروف الملائمة للسكن".

ولا ينكر هاين على من يشكك في أهمية علوم الفضاء، مشيرا إلى أنه يفرق بين نوعين من المتشككين، أحدهم ذو شخصية عاطفية، والآخر ذو عقلية عملية.

وقال إن له تجربة شخصية يستطيع من خلالها توعية النوعين بأهمية علوم الفضاء، حيث يطلب من المجموعة الأولى طرح الأسئلة التي قد تكون لديهم حول الفضاء، فهذا يجعلهم متحمسين وفضوليين، ومن خلال ذلك يستطيع توصيل الرسالة، وإثبات قيمة علوم الفضاء.

أما بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بعقلية عملية للغاية، فيمكنه الإشارة إلى التطورات التكنولوجية العديدة التي تم إحرازها من خلال السعي وراء استكشاف الفضاء، وكذلك الوظائف ذات الأجور المرتفعة في هذا القطاع.

اكتشاف الكربون محلي الصنع أحد المفاتيح لفهم المحيط الموجود تحت قشرة قمر أوروبا (ناسا) تطبيقات مصدرها استكشاف الفضاء

وبدوره، يركز أشرف شاكر، رئيس قسم الفلك بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر، على التطورات التكنولوجية والعلاجية والعسكرية والصناعية، التي تم إحرازها من خلال السعي وراء استكشاف الفضاء، وقال في تصريحات للجزيرة نت إنها "أفضل رد على السؤال المتكرر حول أهمية اكتشافات الفضاء لحياتنا على الأرض".

وأضاف شاكر "ربما يقود السعي وراء الاكتشاف الجديد للكربون في (أوروبا) إلى طريقة معينة لإنتاج الكربون في القمر يكون لها تطبيق صناعي على الأرض، فما لا يعلمه البعض، هو أن الأقمار الصناعية المتخصصة في رصد غازات الاحتباس الحراري على الأرض وغيرها من مؤشرات المناخ، كانت من نتاج تكييف التطورات التكنولوجية اللازمة بعلوم الفضاء للتطبيقات على الأرض".

وأوضح أن "نتاج هذا التكييف يظهر في مجالات متعددة، فمثلا هناك أقراص غذائية تمنح لمرضى قرحة المعدة، مستمدة من الأقراص الغذائية التي تم تصنيعها لغذاء رواد الفضاء بمحطة الفضاء الدولية".

وأضاف أن "الهند مثلا التي أرسلت صاروخا للقمر مؤخرا، يمكنها تكييف هذا الإنجاز لتطبيق عسكري يتضمن إرسال صاروخ لأي مكان، وكذلك تستطيع أميركا التي أرسلت مركبة فضائية في مهمة طويلة حصلت خلالها على عينات من الكويكب (بينو)، إرسال أي مركبة لأي مكان على وجه الأرض للحصول على عينات أيضا، وهذا تطبيق عسكري محتمل".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ثانی أکسید الکربون هذا الاکتشاف علوم الفضاء فی تصریحات على الأرض التی تم

إقرأ أيضاً:

فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟

 

فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟

 

 

تكشف العديد من استطلاعات الرأي حول العالم تراجعاً في صورة الولايات المتحدة الأمريكية منذ الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، واستمرت أزمة القوة الناعمة الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية. وبالتزامن مع ذلك، باتت الصين تتطلع إلى أداء دور أكثر نشاطاً على الساحة الدولية، مدركة بشكل أكبر أن صورتها الذهنية تصنع فارقاً، وعلى نحو جعل عالِم العلاقات الدولية الراحل، جوزيف ناي، يحذر، في مستهل عام 2025، من أن “الصين على أهبة الاستعداد لملء الفراغ الذي خلفته سياسات الرئيس ترامب”. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات من قبيل: هل تملك الصين مقومات حقيقية للقوة الناعمة؟ وهل تستطيع الاستفادة من التراجع النسبي الأمريكي في هذا المجال؟

ترامب وتراجع القوة الناعمة:

قدّم جوزيف ناي، في عام 1990، مفهوم القوة الناعمة للدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية، معرفاً إياها بأنها “قدرة الدولة على جعل الآخرين يريدون ما تريده”؛ ومن ثم فهي القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين، وتنبني بصورة رئيسية على جاذبية الأفكار والممارسات، بخلاف القوة الصلبة أو الخشنة التي تتضمن “إصدار الأوامر” وتستند بالأساس إلى الإكراه العسكري والحوافز الاقتصادية. واعتبر ناي أن الثقافة والقيم السياسية الليبرالية والسياسة الخارجية هي المرتكزات الرئيسية للقوة الناعمة الأمريكية، وقدم المفهوم باعتباره أساساً لرسم سياسة أمريكية أكثر فعالية. وفي العقود اللاحقة، ذاع مصطلح القوة الناعمة وارتبط بجهود الدبلوماسية العامة وبناء السمعة الدولية.

وقد حاولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق القيادة العالمية بالاستثمار في أرصدة القوة الناعمة، مع الاعتماد على الجاذبية والإقناع. ويمكن عزو القوة الناعمة الأمريكية خلال تلك الحقبة، بدرجة رئيسية، إلى تجسيد الولايات المتحدة للقيم الليبرالية، وحيوية مؤسساتها الديمقراطية، فضلاً عن النموذج الأمريكي الناجح المتمثل في مجتمع منفتح يستوعب مختلف الإثنيات.

وتبنى الرئيس ترامب، سواء في ولايته الأولى أم الثانية، سياسات أدت إلى تراجع القوة الناعمة الأمريكية، ومنها الآتي:

1- التشكيك في القيم الديمقراطية: تبنى الرئيس ترامب خطاباً سياسياً يشوه المؤسسات الإعلامية، ويقوض الثقة في الانتخابات الأمريكية مثلما حدث في عام 2020؛ مما نال بالسلب من صورة الولايات المتحدة كبلد يجسد تقاليد راسخة للانتقال السلمي للسلطة. وبعد تنصيبه رئيساً للمرة الثانية في يناير 2025، استمر ترامب في انتهاج السياسات ذاتها التي تنعكس سلباً على مصداقية الولايات المتحدة وقيمها الليبرالية؛ وهو ما ظهر مثلاً في التضييق على الحريات الأكاديمية والدخول في صدام مع بعض الجامعات الأمريكية.

2- تراجع واشنطن عن التزاماتها الدولية: بدت الولايات المتحدة كحليف دولي غير موثوق به، عبر تشكيك ترامب في جدوى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والهجوم على حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية ومطالبتهما بدفع مقابل أكبر للحماية الأمريكية، فضلاً عن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية خلال ذروة انتشار وباء كورونا.

وفي ولايته الرئاسية الثانية، أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بالرغم من تهديدات التغير المناخي، وكذلك الانسحاب من منظمة اليونسكو، فضلاً عن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أطلق ترامب تصريحات غير ودية تجاه حلفاء تقليديين مثل الدنمارك وكندا، وأيقظ المخاوف في أمريكا اللاتينية عبر تهديد بنما ثم فنزويلا. كذلك أدى إفراط ترامب في سياسات الحمائية التجارية إلى جعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها شريك اقتصادي غير موثوق به.

وللتدليل على الضرر الذي ألحقته سياسات الرئيس ترامب بالقوة الناعمة الأمريكية، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز (YouGov) في فبراير 2025 أن شعبية الولايات المتحدة قد انخفضت في سبع دول أوروبية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدنمارك والسويد وإسبانيا وإيطاليا بنحو 8% منذ نوفمبر 2024 لتصل إلى 34%. وفي استطلاع رأي آخر أجرته (Le Grand Continent) في مارس 2025، كان ترامب ثاني قائد يحظى بأقل قدر من الثقة بين 13 قائداً سياسياً، بعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما رأى 70% من المبحوثين أنه يجب على أوروبا الاعتماد على قوتها الذاتية لضمان أمنها، مع تراجع نسبة من يثقون بمصداقية الولايات المتحدة كشريك قادر على الدفاع عن أوروبا إلى 10% فقط.

ركائز القوة الناعمة الصينية:

ظهر مصطلح القوة الناعمة لأول مرة في الصين في الخطاب السياسي الرسمي عام 2007، حين تحدث الرئيس السابق، هو جنتاو، في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي، عن أهمية تعزيز القوة الثقافية الناعمة للصين. ويعمد الرئيس الحالي، شي جين بينغ، إلى التشديد على أهمية القوة الناعمة من خلال استدعاء المفهوم في العديد من اللقاءات والخطابات الرسمية، والتي تفصح عن إدراك متزايد لأهميته في تطور الصين كقوة عظمى، وضرورة تحسين القوة الصلبة في بُعديها العسكري والاقتصادي بالتوازي مع الارتقاء بالقوة الناعمة التي تقوم على القيم والأفكار والثقافة.

ويكشف تقصي السجالات الفكرية للأكاديميين الصينيين أن القوة الناعمة للصين ترتكز على عدد من المصادر والمقومات، من أهمها الإرث الحضاري الصيني، وثقافتها وما تحفل به من قيم مثل: احترام المجتمع، والتكامل ونبذ الشقاق، والتناغم الداخلي، واستيعاب الاختلافات. ويضاف إلى ذلك، خصوصية النموذج التنموي الصيني وجاذبيته للدول الفقيرة، بما يمنحه من أولوية للتنمية الاقتصادية والابتكار.

كما تسعى الصين إلى تعزيز قوتها الناعمة من خلال أدوات متعددة، منها ما يلي:

1- تبني سياسة خارجية نشطة: تشدد المقاربة الصينية على ضرورة أن تبدو سياستها الخارجية مشروعة وذات طابع أخلاقي، مع إبداء استعدادها لتسوية بعض النزاعات الحدودية مع جيرانها. إضافة إلى ذلك، هناك تنامٍ في عدد المؤسسات الدولية والإقليمية التي تشغل الصين عضويتها، كما أصبحت بكين منذ نهاية التسعينيات مشاركاً نشطاً في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفي الوقت الحالي تُعد الصين أكبر دولة مساهمة بقوات حفظ السلام من بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما يعزز صورتها كفاعل دولي مسؤول.

2- التركيز على المكاسب الاقتصادية المشتركة: يكون ذلك من خلال عقد الصفقات التجارية، ومشاريع البنية التحتية مع الدول الأخرى. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى إلى تعزيز الترابط الاقتصادي مع العديد من دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر شبكة واسعة من مشاريع النقل والمواصلات والاتصالات. وتتسم برامج المساعدات الاقتصادية للصين بأنها تُمنح دون مشروطية اقتصادية أو سياسية.

3- نشر الثقافة الصينية: تشهد الصين في السنوات الأخيرة توسعاً ملموساً في جهود نشر ثقافتها عبر معاهد كونفوشيوس التي يبلغ عددها أكثر من 500 معهد حول العالم. كما أدرجت أكثر من 80 دولة اللغة الصينية في أنظمتها التعليمية الوطنية، ويبلغ إجمالي عدد الأجانب الذين يتعلمون اللغة الصينية ويستخدمونها نحو 200 مليون شخص. ولا تزال جامعات الصين تُمثل وجهة تعليمية رئيسية للطلاب الأجانب، ولا سيّما من دول آسيا وإفريقيا، وإن كانت مكانتها كوجهة تعليمية لا تزال أقل من الجامعات الغربية.

مكاسب نسبية لبكين:

يثور التساؤل حول مدى قدرة الصين على الاستفادة من التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية. وبالرغم من أن الصين تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فإن قدرتها على ابتكار منتجات ثقافية مؤثرة خارجياً لم تكن حتى وقت قريب متناسبة مع صعودها الدولي. لكن تغيرات كبيرة تحدث؛ إذ تشهد الصين ثورة في الإنتاج الترفيهي، ومن أمثلتها دمية “لابوبو” (Labubu) التي رفعت القيمة السوقية لشركة “بوب مارت” بنسبة 400%، وسلسلة مطاعم “ميكسوي” (Mixue) التي انتشرت في جنوب شرق آسيا.

وقد أظهر استطلاع رأي لمركز “بيو” الأمريكي للأبحاث في 25 دولة، نُشرت نتائجه في يوليو 2025؛ أن الغالبية ما تزال تنظر بإعجاب أكبر إلى الولايات المتحدة مقارنةً بالصين؛ ولكن الفجوة بين البلدين آخذة في الانحسار. وتراجعت التقييمات الإيجابية للولايات المتحدة. ففي كندا مثلاً، انخفضت نسبة الاستحسان للولايات المتحدة بمقدار 20%، بينما حققت الصين مكاسب هامشية.

وبالرغم من تحسن صورة الصين نسبياً في عام 2025 مقارنةً بفترة ما بعد “كوفيد-19″؛ فإن 54% من المبحوثين في الدول الـ25 يحملون صورة سلبية عنها، و66% لا يملكون ثقة كبيرة في قدرة الرئيس شي على معالجة الأزمات الدولية. ومع ذلك، فإن الذين يبدون ثقة أقل في ترامب فيما يتعلق بالأزمات الاقتصادية أكثر ميلاً إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى مع الصين. وفي دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا، تميل قطاعات واسعة إلى رؤية الولايات المتحدة كمصدر تهديد للمصالح القومية، بينما تُعد الصين حليفاً رئيسياً في دول مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا. وتُقدم الصين نفسها كشريك لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو خطاب يجد صدىً إيجابياً في عدة دول نامية؛ لكن سمعتها تبقى سلبية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية بسبب المخاوف الأمنية.

تحديات أمام الصين:

على الرغم من التحسن النسبي في صورة الصين في العديد من دول العالم؛ فإنها تواجه عدة تحديات قد تحدّ من تعزيز قوتها الناعمة، أهمها ما يلي:

1- الضعف النسبي لوسائل الإعلام الصينية مقارنةً بالنفوذ الواسع للإعلام الغربي؛ إذ لا تزال وكالة “شينخوا” عاجزة عن تحقيق تأثير يماثل تأثير المنافذ الإعلامية الأمريكية الكبرى.

2- طبيعة النظام السياسي الصيني الذي يفرض رقابة على المحتوى الثقافي؛ مما يُصعّب عملية الابتكار. وعلى الرغم من تشجيع الحزب الشيوعي الحاكم للابتكار؛ تظل هناك قيود تفرضها الحكومة، وتؤثر في عملية الإنتاج.

3- عجز بكين عن تقديم بديل جدي لقيادة النظام العالمي أو التعامل الفعّال مع الأزمات الدولية؛ ما يجعل كثيراً من استطلاعات الرأي تشكك في قدرتها على خلافة واشنطن.

ختاماً، يمكن القول إنه مع التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية، تبدو الصين شريكاً أكثر موثوقية في نظر كثيرين، إلا أن ذلك لا يجعلها القائد العالمي غير المنازع في مجال القوة الناعمة. كما أن بكين قلّصت مساعداتها التنموية للدول النامية بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية، وتفاقم الديون في دول “الحزام والطريق”. وتدل الخبرة التاريخية على أن القوة الناعمة للولايات المتحدة شهدت فترات من الازدهار ثم الانحسار، كما حدث بعد حرب فيتنام. ومع أن استعادة أسس القوة الناعمة بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية قد تكون عملاً مكلفاً؛ فإن الديمقراطية الأمريكية ذات التقاليد الراسخة ستظل قادرة على التعافي، بما يجعل استعادة تلك القوة أمراً ممكناً.


مقالات مشابهة

  • غلاف جوي يتحدى المستحيل.. اكتشاف مذهل لكوكب صخري فائق الحرارة
  • وول ستريت جورنال: الجيش الأميركي يغير أدواته وتكتيكاته استعدادا لحرب المحيط الهادي
  • القمر الاصطناعي «813».. نموذج للتكامل العربي في بناء وتطوير المشاريع الفضائية
  • نقطة تحول في تاريخ البشرية.. اكتشاف أقدم دليل على استخدام البشر القدماء للنار في هذا الموقع
  • عملية سرّية في عرض المحيط.. قوات خاصة أمريكية تتحرّك ضد إيران
  • اختناق بغاز أول أكسيد الكربون يسجل 9 حالات وفاة في الأردن
  • الصين تطلق مجموعة أقمار صناعية جديدة للإنترنت
  • فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
  • إيران تطلق 3 أقمار اصطناعية جديدة من قاعدة روسية وسط توتر مع الغرب
  • اكتشاف ذيل الأرض الضخم بطول مليوني كيلومتر في الفضاء .. ما القصة؟