الفقر الإسكاني في السودان .. السكن اللائق في زمن الحرب
تاريخ النشر: 1st, October 2023 GMT
بالرجوع لنموزج ماثلو (هرم ماثلو) لفهم دوافع السلوك البشري، تأتي حوجة الإنسان للمسكن بعد الغذاء والصحة (حوجات فيسيولوجية) مباشرة ضمن الحاجة للأمان (نناقش هنا العلاقة الطردية بين جودة ونوعية المسكن وبين الحالة الفيسيولجية للإنسان). وإذا ما كنا نعرف المسكن على أنه الحماية من عوامل الطبيعة والمخاطر بشكل عام في الأحوال العادية، ففي زمن الحرب، الفقدان المفاجئ للمسكن يعتبر الكارثة الأكبر!.
في عرف المعماريين والحقوقيين هناك معايير ومواصفات معينة يجب أن تنطبق على أي مسكن حتى يكون لائقا بالإستخدام الآدمي، فحسب اللجنة الدولية التابعة للامم المتحدة والمعنية بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية فالسكن اللائق يعني سبعة عناصر أساسية هي: 1) الضمان القانوني لحيازة وإشغال المسكن، 2) الوصول للخدمات، 3) القدرة على تحمل التكلفة الإقتصادية للمسكن، 4) سهولة الوصول والحصول على المسكن، 5) الملائمة للسكن، 6) الموقع الملائم للسكن، و7) الملائمة الثقافية. كما تصنف الأمم المتحدة الحرمان من السكن اللائق كإنتهاك لحقوق الإنسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مادة 25 (1)). لا تكفل التشريعات والقوانين في السودان الحق في السكن اللائق كما أن التبعات المترتبة على انتهاك هذا الحق لا ترصد أو تؤخذ في الإعتبار عند رسم الخطط والسياسات العامة للدولة لإسباب عدة مرتبطة بعدم الإستقرار السياسي والنزاع المستمر حول السلطة في السودان لأكثر من سبعة عقود.
يعرف الباحثون الفقر على أنه: الحرمان الدائم من الموارد، والإمكانيات، والخيارات، والأمان، والقدرة الضرورية للتمتع بمستوى معيشي لائق. والسودان يصنف كواحد من أفقر دول العالم إقتصادياً من حيث ضعف نصيب الفرد من الدخل القومي ومن حيث عدد المواطنين الفقراء حسب تقارير البنك الدولي، وقد بلغ عدد الاشخاص المتضررين من إنعدام الأمن الغذائي في العام 2023 نحو 15.8 مليون شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا). وبالرغم من عدد سكان السودان الذي يقدر ب 45 مليون نسمة في مساحة تفوق ال 1.800.000 متر مربع إلا أن ثلث السكان فقط يسكنون في مناطق حضرية (موزعون على 25 مدينة)، بمعنى أن السودان مازال ريفياً. نسبة إشغال الأسر المعيشية للمسكن تصل إلى 5 أفراد في المتوسط، ويعتمدون في تدبير تكاليف المعيشة على الزراعة أوالرعي أوالمرتبات أوالأجور أوأرباح الأعمال أوالإستثمار العقاري أوالمساعدات أوالتعويضات، وإن 90% من الأسر التي تعتمد على الزراعة كمصدر دخل تسكن في الريف بينما تعتمد 70% من الأسر في الحضر على الأجور أو المرتبات أو أرباح الأعمال والأستثمارات (1).
السكن ما قبل الحرب
الفقر الإسكاني في السودان يمكن تجسيدة في القطيعة البائنة بين السكن ووظيفته الإجتماعية وفقدان الملايين لحقهم في العيش اللائق والتنمية والتي إزدات حدتها في الثلاثة عقود الأخيرة بسبب غياب التشريعات والقوانين من ناحية، ومن ناحية ثانية إتجاه الدولة نحو أمولة السكن المتمثلة في الاولوية والأفضلية التي تمنحها القوانين للإستثمار الخاص والأجنبي في السودان على حساب غياب الدولة كلاعب أساسي في صناعة الإسكان في السودان وإتجاهها لتسييل الأراضي البيضاء لتمويل منصرفاتها الإدارية وإتجاهها عبر صناديق الإسكان والرعاية الإجتماعية لمراكمة رأس مال بالمضاربة في العشوائيات والأحياء الفقيرة وبالتالي إرتفاع كلفة السكن و الأرض والخدمات التي يتحمل تكلفتها المواطن بنسبة تصل الى 100%، حيث أصبح السكن سلعة لمن يستطيع وليس حق من حقوق الإنسان.
وكانت النزاعات المسلحة وعدم الإستقرار السياسي وسياسات التنمية غير المتوازنة ما بين الريف والحضر ومابين مدينة وأخرى السبب في إرتفاع الطلب على إيجار الوحدات السكنية في بعض المدن –أبرزها الخرطوم- خصوصا وسط الفقراء. وقد تأثرت حالة المسكن من حيث الموقع والملائمة للسكن والتكلفة، حيث نجد أن أكثر من 50% من المساكن التي يستطيع الغالبية تحمل كلفة حيازتها (تمليك/إيجار) مشيدة من مواد بناء غير دائمة وبدائية لا تصمد أمام عوامل الطبيعة ومعرضة للإنهيار مع كل خريف. كما أن 10% من متوسطي الدخل يبحثون عن مساكن دائمة منخفضة التكلفة (2)، وتحت ضغط الفقر وتراجع القدرة الشرائية لغالبية السكان، فإن البدائل المتاحة هي التشرد أو السكن في عشوائيات كالأراضي غير المشغولة أو منازل تحت التشييد على أحسن الفروض، وقد نمت العديد العشوائيات والأحياء الفقيرة التي تتمدد كالأشباح في وحول المدن كما تقول الترجمة للكلمة الفرنسية Bidonville. نشير هنا إلى، وكما مهدت هذه الورقة سابقاً، أن فقدان المأوى يعني فقدان الإحساس بالأمان وبالتالي تدهوراً في الصحة الجسدية والسلامة النفسية، وهو كذلك يقلل من الفرص والخيارات والإضطرار للتنازل عن التعليم والعلاج وجودة الغذاء…الخ، وعرضة لعوامل الطبيعة والمخاطر والأمراض والأوبئة. تجدر الإشارة هنا الى أن سكان هذه المناطق نادراً ما يحصلون على دعم أو رعاية إجتماعية من الدولة والدعم الوحيد الذي يوجه لهم يأتي عبر المنظمات الدولية والمساعدات الإنسانية. وحسب إحصائيات ومؤشرات أهداف التنمية المستدامة فإن 12 مليون شخص يسكنون في أحياء فقيرة وعشوائيات داخل المدن السودانية.
وحسب تقرير صادر عن منظمة السكن اللائق في 2023، تراوحت أسعار الإيجارات بالجنيه السوداني في العام 2011 مابين 400-600 للبيوت الشعبية، ومابين 800-1200 للشقق على أطراف المدينة وقريب من أسواق صغيرة، ومابين 2000-2500 للمساكن القريبة من مراكز النشاط التجاري ومركز المدينة. تضاعفت قيمة الإيجارات في الأعوام 2014-2017-2019، ونتيجة للإنهيار العام والأزمات الإقتصادية ما بعد وباء كوفيد-19، إرتفعت قيمة الإيجار بشكل كبير حتى وصلت ما بين 100.000 جنيهاً سودانياً للشقق على أطراف المدينة وقريب من أسواق صغيرة و350.000 جنيهاً سودانياً للمساكن القريبة من مراكز النشاط التجاري ومركز المدينة في العام 2023(3). هذه الزيادات لم تكن مصحوبة بالزيادة في دخل الأسرة المعيشية حيث بلغ الحد الأدنى للإجور 7130 جنيها سودانيا في العام حسب 2023 حسب بيانات وزارة المالية، في الوقت الذي إرتفعت فيه كل أسعار السلع والمنتجات. وقد شهدت البلاد منذ مطلع العام 2021 ومابعد إنقلاب 25 إكتوبر 2021 أزمة إقتصادية حادة متمثلة في الإرتفاع الحاد في معدلات التضخم وإنهيار الجنيه السوداني أمام العملات الإجنبية وتبعاً لذلك فاقت معدلات البطالة ثلث السكان حسب صندوق النقد الدولي.
العاصمة الخرطوم شهدت أسوأ أزمة سكن في تاريخها خلال الخمس سنوات الأخيرة، متمثلة في إرتفاع تكلفة السكن (شراء/إيجار) وزيادة تعرفة الخدمات (كهرباء، مياه، صرف صحي،…الخ) في وقت تراجعت فيه القوة الشرائية لغالبية السكان نتيجة لتردي الأوضاع الإقتصادية والسياسية، وفي ظل غياب القوانين والتشريعات شهدت قاعات المحاكم الجزئية آلاف المنازعات وقضايا الإخلاء القسري بسبب عدم القدرة على دفع قيمة إيجار المسكن وحسب تقرير منظمة السكن اللائق 2023، فقد بلغ عدد قضايا المنازعات حول السكن التي إستقبلتها محكمة الخرطوم شرق الجزئية فقط كمثال حوالي 3603 ملف في العام 2022م(4). الأثر الإجتماعي لهذه الكارثة تمثل في إزدياد معدلات التشرد والمشاكل الإجتماعية وجرائم القتل (الضحية غالباً مالك العقار أو المؤجر) كما أن إرتفاع تكلفة السكن أثر على قدرة الكثير من الأسر المعيشية على الحصول على خدمات الصحة والعلاج وتردي مستوى التغذية وجودته باللإضافة للإرتفاع الحاد في حالات التسرب من المدرسة أوالجامعة. الأوضاع في ولايات السودان الأخرى كانت أسوأ نسبة لسياسات التنمية غير المتوازنة التي كرست التنمية لتكون حكراً على العاصمة في أغلب الأحوال، مما أدى لفقر البنى التحتية من طرق ومساحات عامة وكهرباء ومياه الشرب النقية والصرف الصحي…الخ، وركوض سوق العمل والنشاط التجاري. وبالرغم من أن نسبة ملكية السكان لمنازلهم في الولايات مرتفعة قليلاً عن الحال في العاصمة إلا هذه المساكن كانت فقيرة من ناحية الخدمات ومواد التشييد والإنشاء بالإضافة لمعدل الإشغال العالي. وتحت ضغط الفقر والصدمات الإقتصادية لم تكن هذه المدن في الولايات والقرى في الأرياف مهيأة لإستقبال مفاجئ لأعداد النازحين الضخمة التي توافدت إليها لاحقاً!
السكن ما بعد الحرب
حسب تقارير منظمة الهجرة الدولية المنشورة في الإعلام وعبر صفحتهم الرسمية نزح حوالي 4.1 مليون شخص داخلياً في السودان بينما 1.05مليون شخص عبروا الحدود نحو دول الجوار منذ 15 أبريل وحتى أغسطس 2023، شهدت ولاية نهر النيل أعلى أعداد من النازحين يقدر بحوالي 499 ألف شخص يليها جنوب دارفور التي إستقبلت 486 ألف شخص، بينما نزح حوالي 40 ألف شخص الي غرب دارفور وهناك حوالي 42 ألف شخص نزحوا داخل الخرطوم نفسها الى اماكن أقل خطورة. كما أشار نفس التقرير الى حوجة 24.7 شخص للمساعدات الإنسانية في عموم البلاد، يحتاج كل هؤلاء للغذاء والمأوى والرعاية الصحية بشكل عاجل. بعضهم لجأ الى السكن مع الأقارب والأهل والبعض الآخر لجأ لإيجار البيوت والشقق المفروشة أو الفنادق التي شهدت معدلات إشغال عالية جداً نسبة لسعة الغرف والخدمات، بينما إستطاع البعض الحصول على مأوى مؤقت عن طريق منظمات العون الإنساني والتي غالباً ما تكون في مدارس أو داخليات أو مخيمات وغيرها، مما شكل ضغطاً على الخدمات والمرافق العامة ( غالباً يؤدي لحدوث أعطال في الأنظمة)، ولأسباب إستعرضناها سابقاً، لم تكن ولايات السودان المختلفة بمدنها وأريافها قادرة على إستيعاب الأعداد الضخمة من النازحين الذين توافدوا إليها بعد الحرب. نشير هنا أن تمركز النشاط التجاري والإستثماري في العاصمة ومركزية الإدارة في السودان أدى الى فقدان الكثيرين في الخرطوم وخارجها لمصادر رزقهم، كما تدهور النظام المصرفي وتعطلت معظم الخدمات البنكية المقدمة من البنوك، وإرتفاع خدمات الترحيل للسلع والبضائع والمواصلات بشكل حاد. وكما أشرنا لوضع البلاد ومتوسط دخل الفرد في السودان سابقاً فإن أعداد الفقراء تتزايد نسبة لصرف الغالبية لمدخراتهم طوال شهور الحرب والتي غالباً ما كان السكن يستنزف النسبة الأكبر منها. لهذه الأسباب ولأخرى متعلقة بقدرة المجتمعات المضيفة على إستقبال النازحين من الأسر والأقارب و المعارف أضر الكثيرين للنزوح مرة أخرى أو العودة الى بيوتهم وإنتظار أي مصير قادم. بينما كان النوم في العراء أو التشرد مصير للكثيرين. مع إنعدام لأي آلية رقابة أو ضبط للأسعار في ظل الطلب العالي على السكن إرتفعت قيمة الإيجار بشكل كبير ومتزايد بإستمرار حيث تباينت الأسعار ما بين 500 دولار كأقل قيمة إيجار في الشهر وما يزيد عن 2000 دولار نسبياً لحالة المسكن (البعض عرض منازل متهالكة وبدون ابواب أو شبابيك مقابل 700 دولار للشهر!). قيمة إيجار غرفة في فندق تعادل في المتوسط لليوم الواحد 30 دولاراً، فلجوء سكان الولايات الأخرى للإستثمار العقاري لجمع أكبر قدر من المال بإستغلال حوجة النازحين العاجلة وراء هذه الزيادات. لم تكن هناك أي إستجابة لسد الحوجة للسكن اللائق سواء من الجهات الرسمية أو منظمات العون الإنساني محلية كانت أم دولية ، فقد تركزت معظم جهود الأخيرة على الغذاء والدواء وتوفير بعض الخيام بالتركيز على العالقين في المعابر غالباً بشكل غير مدروس لتحديد أولويات وحوجة النازحين. نشير هنا الى جهود للمجتمع الدولي أكبر وبالتركيز على السكن اللائق بذلت في بلدان نكبت بالحروب كأوكرانيا بينما لم توجه مثلها للسودان.
على الجانب الآخر فإن البيوت المهجورة بسبب وقوعها في مناطق الإشتباك أو لأنها أخليت قسرياً من سكانها تعرضت للنهب والسرقة أو الإحتلال في حال كونها نجت من الدمار أو الحرق. التفاوت الإجتماعي الحاد والفقر الإسكاني في العاصمة بالتحديد كان بمثابة قنبلة موقوتة، فوجود طبقة لا تملك أدوات إنتاج ولا تحصل على رعاية من الدولة، عند حدوث فوضى كالتي خلقتها الحرب، يعني أن البدائل المتوفرة هي السرقة والنهب والإستيلاء على المساكن. هل خلقت الحرب هذه الأوضاع أم أن هذه الأوضاع هي ما فتحت شهية المغامرين والحمقى للإنقلابات والحروب في توقيت إنشغل فيه غالبية السكان بتلبية إحتياجاتهم الأساسية!.
(1) تقرير رقم: AUS0001487- البنك الدولي- الفقر واللامساوة في السودان: 2009-2014
(2) Africa Housing Finance- Sudan, Yearbook 2022.
(3) Adequate Housing Organization- A place to live in dignity for all: Making housing affordable-2023
https://www.ohchr.org/…/call-inputs-place-live-dignity…
(4) المصدر السابق.
بقلم/ أروى كمال
28 September, 2023
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: السکن اللائق فی السودان ملیون شخص فی العام من الأسر ألف شخص حوالی 4 لم تکن
إقرأ أيضاً:
حوار مع صديقي ال ChatGPT الحلقة (71)
د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري
حوار اليوم:
• الحروب الاهلية في افريقيا تاريخ طويل من الصراع الدامي. حدثنا عن ذلك بالتفصيل.
• تشترك الحروب كلها في انها تدمر الانسان والمكان. ما اكثر هذه الحروب بشاعة في التاريخ الافريقي القريب؟
• كيف نكيف الحرب الدائرة في السودان مع تاريح افريقيا المتسلسل من الحروب الاهلية؟
• ايهما اكثر اثارة لهذه الحروب العوامل الداخلية او التدخلات الخارجية؟ وكيف الخلاص من هذا وذاك؟
• كيف الخلاص من هذه الحروب؟
*******************************************************
الحروب الأهلية في أفريقيا تمثل تاريخًا طويلًا ومعقدًا من الصراعات الدموية التي أثرت بشكل عميق على القارة وشعبها. منذ الاستعمار الأوروبي، ومن ثم الحقبة ما بعد الاستعمار، خضعت أفريقيا لمجموعة متنوعة من الحروب الأهلية التي كانت نتيجة لتداخل عوامل معقدة مثل الاستعمار، الانقسامات العرقية والدينية، والنزاعات على السلطة والموارد. دعنا نلقي نظرة على هذه الحروب من خلال بعض المراحل الرئيسية:
1. الفترة الاستعمارية (حتى منتصف القرن العشرين)
عانت العديد من الدول الأفريقية من صراعات وحروب قبل الاستقلال بسبب السياسات الاستعمارية التي فرضها الأوروبيون. جلب الاستعمار معه تقسيمات حدودية غير طبيعية، لم تأخذ في الاعتبار التكوين العرقي والديني للمجتمعات المحلية. أدى هذا إلى خلق انقسامات وصراعات بين الجماعات العرقية المختلفة.
• حروب التحرير: في معظم الدول، خاضت الحركات الوطنية حروبًا ضد الاستعمار البريطاني، الفرنسي، البلجيكي، الإيطالي وغيرهم. أمثلة بارزة على هذه الحروب تشمل حرب التحرير الجزائرية (1954-1962) ضد الاستعمار الفرنسي وحرب الاستقلال في كينيا (1952-1960) ضد البريطانيين.
2. ما بعد الاستعمار (الستينات والسبعينات)
بعد الاستقلال، أُغلِق باب الاستعمار، لكن التوترات العرقية والإقليمية ظلت قائمة. العديد من الدول الأفريقية الجديدة لم تكن قد أنشأت هياكل حكومية قوية بما يكفي لإدارة التنوع العرقي والديني داخلها، مما أدى إلى ظهور صراعات أهلية.
• حرب الكونغو (1960-1965): واحدة من أبرز الحروب الأهلية التي نشأت بعد الاستقلال. الكونغو كانت تحت الاستعمار البلجيكي حتى عام 1960، وعندما نالت استقلالها، اشتعلت حرب أهلية شديدة بسبب النزاع بين الحكومة المركزية والانفصاليين المدعومين من قوى أجنبية.
• حرب نيجيريا الأهلية (1967-1970): المعروفة أيضًا بحرب بيافرا، بدأت بعد إعلان انفصال منطقة بيافرا، وهو نزاع دامي أدى إلى وفاة أكثر من مليون شخص بسبب الحرب والمجاعة.
3. التسعينات - حقبة الحروب العرقية والإثنية
في هذه الفترة، سادت حروب أهلية ضارية بسبب الصراعات العرقية والدينية، فضلاً عن التدخلات الدولية في بعض الحالات.
• الإبادة الجماعية في رواندا (1994): هذه المجزرة المروعة تعتبر واحدة من أسوأ الأمثلة على العنف العرقي في التاريخ الحديث. حيث اشتعل الصراع بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، مما أدى إلى قتل حوالي 800,000 شخص، معظمهم من التوتسي.
• الحرب الأهلية في الصومال (1991 - حتى الآن): بدأت الحرب الأهلية بعد الإطاحة بحكومة سياد بري، مما أدى إلى تفكك الدولة وظهور قوى محلية متناحرة. الصومال عانت من فوضى دامت لعقود، مع تدخلات من الأمم المتحدة وأطراف دولية أخرى.
4. القرن الواحد والعشرون
في العقدين الأخيرين، استمرت الحروب الأهلية في أفريقيا، مع اندلاع العديد من الصراعات في مناطق مختلفة من القارة.
• حرب دارفور (2003-حتى الآن): اندلعت هذه الحرب في السودان نتيجة للصراع بين الحكومة السودانية وجماعات المتمردين في إقليم دارفور. وقد أسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الأشخاص وتهجير الملايين.
• الحرب الأهلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية (1998-2003): بعد الحرب الأهلية الأولى في الكونغو (1996-1997) والتي أسقطت الرئيس موبوتو، اندلعت حرب أخرى في 1998 بين الحكومة الكونغولية ودول أخرى من المنطقة. يُعد هذا الصراع أحد أكثر الحروب دموية في تاريخ أفريقيا الحديثة، حيث أسفر عن مقتل ملايين الأشخاص.
• الحرب الأهلية في جنوب السودان (2013-2018): بعد انفصال جنوب السودان عن السودان في 2011، اندلعت حرب أهلية داخل الدولة الجديدة بين حكومة الرئيس سلفا كير والمعارضة بقيادة رياك مشار. تسببت الحرب في مقتل مئات الآلاف من الأشخاص وتشريد الملايين.
5. أسباب الحروب الأهلية في أفريقيا
تتنوع الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحروب الأهلية في أفريقيا، من أبرزها:
• الصراعات العرقية والدينية: العديد من الدول الأفريقية تشهد تداخلًا معقدًا بين مجموعة من الجماعات العرقية والدينية، مما يؤدي إلى صراعات على السلطة والنفوذ.
• التنافس على الموارد: الثروات الطبيعية في أفريقيا مثل النفط، المعادن، والأراضي الزراعية كانت سببًا في العديد من الحروب الأهلية.
• الضعف الحكومي: الأنظمة الحكومية الضعيفة وعدم القدرة على إدارة التنوع داخل الدول ساعدت في إشعال العديد من النزاعات.
• التدخلات الأجنبية: التدخلات العسكرية من الدول الكبرى أو القوى الإقليمية قد فاقمت الصراعات في بعض الأحيان.
6. التأثيرات الإنسانية
لقد كانت الحروب الأهلية في أفريقيا لها تأثيرات مدمرة على شعوب القارة:
• الوفيات والإصابات: مئات الآلاف من الأرواح قد أُزهِقَت في الحروب الأهلية.
• التهجير القسري: أعداد هائلة من اللاجئين والنازحين بسبب الحروب الأهلية، مما خلق أزمة إنسانية مستمرة.
• دمار البنية التحتية: تدمير المنشآت العامة والخاصة، بما في ذلك المدارس والمستشفيات، مما أثر على مستقبل الأجيال القادمة.
• الإبادة الجماعية: بعض الصراعات شهدت فظائع على مستوى الإبادة الجماعية مثلما حدث في رواندا.
7. الجهود للتسوية والوساطة
شهدت بعض الحروب الأهلية جهودًا من قبل المجتمع الدولي والأمم المتحدة لتحقيق تسوية، لكن في بعض الأحيان كانت هذه الجهود غير فعّالة أو غير مستدامة بسبب تعقيد الوضع المحلي والدولي.
• اتفاقية السلام الشامل في السودان (2005): أسفرت عن إنهاء الحرب الأهلية الطويلة في السودان بين الشمال والجنوب، والتي أدت إلى انفصال جنوب السودان.
• اتفاقات السلام في الكونغو الديمقراطية (2003): تم التوصل إلى اتفاقية سلام في الكونغو بعد الحرب التي استمرت لسنوات، ولكن التوترات لا تزال قائمة في مناطق أخرى.
الخلاصة
الحروب الأهلية في أفريقيا هي جزء من تاريخ القارة المؤلم الذي يعكس الصراع بين الجماعات العرقية والدينية، الصراعات على الموارد، وفشل الأنظمة السياسية في بناء دول قوية ومستقرة. رغم بعض المحاولات للتسوية وتحقيق السلام، فإن التحديات لا تزال قائمة في العديد من الدول الأفريقية، مما يتطلب جهودًا مستمرة من الحكومات المحلية والمجتمع الدولي لتحقيق الاستقرار والعدالة.
• تشترك الحروب كلها في انها تدمر الانسان والمكان. ما اكثر هذه الحروب بشاعة في التاريخ الافريقي القريب؟
بالفعل، الحروب الأهلية في أفريقيا تتسم ببشاعة شديدة، حيث تدمر ليس فقط الإنسان ولكن أيضًا المكان، مما يؤدي إلى فقدان الأرواح وتدمير المجتمعات والبنية التحتية. من بين الحروب الأكثر بشاعة في التاريخ الأفريقي الحديث، هناك عدة صراعات تميزت بعنف غير مسبوق وتدمير شامل. إليك بعضًا من أبرز هذه الحروب:
1. الإبادة الجماعية في رواندا (1994)
تُعد الإبادة الجماعية في رواندا واحدة من أسوأ المجازر في تاريخ القرن العشرين، حيث شهدت البلاد في عام 1994 صراعًا دمويًا بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. بدأت المذبحة بعد اغتيال رئيس رواندا، الذي كان من الهوتو، مما أدى إلى تصاعد العنف.
• عدد القتلى: قُتل حوالي 800,000 شخص في 100 يوم فقط.
• الوحشية: كانت الإبادة جماعية بشكل كبير، حيث استهدفت الهوتو غالبية التوتسي وغيرهم من المعارضين. استخدم العنف بشكل مروع، بما في ذلك القتل بالآلات الحادة، والاغتصاب الجماعي، والتعذيب.
• التأثير: تدمير المجتمع الرواندي، حيث أصبح العديد من الناجين يعانون من صدمات نفسية دائمة، كما شرد ملايين الأشخاص.
2. الحرب الأهلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية (1998-2003)
تعد هذه الحرب الأهلية واحدة من أكثر الصراعات دموية في التاريخ المعاصر، وارتبطت بمصالح اقتصادية وسياسية عميقة. بدأت الحرب بعد التدخل الأجنبي في الكونغو، حيث سعى العديد من الدول المجاورة مثل رواندا وأوغندا لدعم جماعات متمردة في الكونغو.
• عدد القتلى: يُقدّر أن الحرب أدت إلى مقتل ما بين 3 إلى 5 مليون شخص.
• التدمير: دمرت البنية التحتية للبلاد بشكل كامل، ونتج عن الحرب انتشار الأمراض والمجاعة.
• العنف: شهدت الحرب عمليات قتل جماعي، اغتصابًا جماعيًا، وتجنيد الأطفال كجنود.
3. الحرب الأهلية في السودان (1983-2005)
استمرت الحرب الأهلية في السودان لعقود، وكانت واحدة من أكثر الصراعات الطويلة والمروعة في أفريقيا. نشأت الحرب بسبب النزاع بين الحكومة المركزية في الخرطوم وجنوب السودان بسبب الاختلافات الدينية والعرقية.
• عدد القتلى: أكثر من 2 مليون شخص قُتلوا خلال النزاع، ونزح أكثر من 4 ملايين شخص.
• الوحشية: تميزت الحرب بعمليات قتل جماعي، تهجير قسري، ونهب، بالإضافة إلى العبودية والاغتصاب.
• النتائج: أدى النزاع إلى تقسيم البلاد في عام 2011 إلى دولتين: السودان وجنوب السودان.
4. الحرب الأهلية في الصومال (1991 - حتى الآن)
بدأت الحرب الأهلية في الصومال بعد الإطاحة بنظام سياد بري، مما أدى إلى انهيار الدولة وظهور صراعات بين الفصائل المختلفة. الصومال كانت في حالة من الفوضى المستمرة منذ ذلك الحين، رغم الجهود الدولية لفرض السلام.
• عدد القتلى: تُقدّر الأعداد بنحو 500,000 شخص قتلى منذ بداية الحرب الأهلية في 1991.
• الوحشية: العنف في الصومال تضمن عمليات قتل واسعة النطاق، وتدمير للمدن، والمجاعة التي راح ضحيتها الكثير من المدنيين. وارتكبت المليشيات المتطرفة مثل حركة الشباب فظائع رهيبة ضد المدنيين.
• النتائج: دمرت الصومال كدولة، مع غياب حكومة مركزية قوية وتحول العديد من المناطق إلى مناطق خارج السيطرة الحكومية.
5. حرب دارفور (2003 - حتى الآن)
تعتبر حرب دارفور واحدة من أكثر الصراعات فظاعة في القرن الواحد والعشرين، حيث اندلعت بسبب التوترات العرقية والقبلية في إقليم دارفور بغرب السودان. اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد الحكومة السودانية قوبلت بتدخل دولي محدود.
• عدد القتلى: قُتل ما يقارب 300,000 شخص، وتشير بعض التقديرات إلى أن العدد قد يكون أعلى.
• التدمير: أدى الصراع إلى تهجير حوالي 2.5 مليون شخص داخل السودان.
• الوحشية: استخدمت الحكومة السودانية والمليشيات المتحالفة معها أساليب عنيفة مثل القصف الجوي العشوائي، الاغتصاب الجماعي، القتل العشوائي، وتدمير القرى بأكملها.
6. الحرب الأهلية في جنوب السودان (2013-2018)
الحرب الأهلية في جنوب السودان بدأت بعد نزاع سياسي بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار. أدى الصراع إلى تفشي العنف الإثني في البلاد، وتسبب في مقتل مئات الآلاف.
• عدد القتلى: قُتل ما يقارب 400,000 شخص، ويُقدر عدد النازحين بنحو 4 ملايين.
• الوحشية: شهدت الحرب العديد من المجازر، اغتصاب النساء كأداة حرب، وتجنيد الأطفال كجنود. الحرب دمرت كثيرًا من البنية التحتية للبلاد.
الخلاصة
من بين هذه الحروب، تظل الإبادة الجماعية في رواندا و الحرب الأهلية في الكونغو الديمقراطية من بين أكثر الحروب بشاعة في التاريخ الأفريقي الحديث، نظرًا للمذابح الوحشية التي ارتكبت بحق المدنيين، وكذلك التأثيرات المدمرة على الأجيال القادمة.
• كيف نكيف الحرب الدائرة في السودان مع تاريح افريقيا المتسلسل من الحروب الاهلية؟
الحرب الحالية في السودان، والتي اندلعت في أبريل 2023، تتبع نمطًا مأساويًا مشابهًا للعديد من الحروب الأهلية الأفريقية السابقة، حيث تندلع بسبب عوامل سياسية وعرقية واقتصادية، وتشهد عنفًا واسع النطاق ضد المدنيين، فضلاً عن تأثيرات مدمرة على البنية التحتية والاقتصاد والمجتمع.
العوامل المشتركة بين الحرب في السودان والصراعات الأفريقية الأخرى:
1. الصراعات على السلطة والقيادة:
o الاستمرار في الحروب بسبب السلطة: كما في العديد من الحروب الأهلية في أفريقيا، كان الصراع في السودان في جوهره نزاعًا على السلطة بين جماعات متنافسة. في هذه الحالة، تصارع قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقوات الجيش السوداني تحت قيادة عبد الفتاح البرهان على الهيمنة السياسية والعسكرية. وهذا يعكس نمطًا تاريخيًا من الحروب الأفريقية حيث يتمزق البلد بسبب التنافس على السلطة بين النخب السياسية والعسكرية، كما حدث في حرب السودان الأهلية (1983-2005) و الحرب الأهلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية (1998-2003).
2. التأثيرات الإقليمية والدولية:
o التدخلات الإقليمية والدولية: كما في العديد من الحروب الأفريقية السابقة، تشهد الحرب السودانية تدخلات من أطراف إقليمية ودولية. التدخلات الخارجية غالبًا ما تساهم في تعقيد الصراع، إما بدعم أطراف معينة في النزاع أو من خلال محاولات الوساطة. في الحرب السودانية، توجد علاقة مع دول مثل مصر، والإمارات، والسعودية، ما يعكس التأثير المستمر للقوى الخارجية في صراعات أفريقيا، كما حدث في حرب دارفور (2003) أو حرب الكونغو التي شهدت تدخلات من دول الجوار مثل رواندا وأوغندا.
3. الصراعات العرقية والدينية:
o التوترات العرقية: على الرغم من أن الحرب في السودان ليست قائمة فقط على التوترات العرقية، إلا أن هناك عنصرًا عرقيًا في الصراع بين القوى المتنافسة، حيث تمثل قوات الدعم السريع بشكل كبير الجماعات القبلية في غرب السودان، في حين تمثل القوات المسلحة السودانية السلطة المركزية. مثل هذه الصراعات العرقية تذكرنا بمثال الإبادة الجماعية في رواندا (1994)، حيث كان الصراع بين الهوتو والتوتسي نتيجة للتوترات العرقية المستمرة.
o الانقسامات الداخلية: في السودان، كما في دول أخرى مثل الصومال و جنوب السودان، فإن التوترات العرقية والقبلية تلعب دورًا كبيرًا في الصراع، حيث أن عدم القدرة على بناء دولة موحدة ومستقرة مع احترام التنوع العرقي أدى إلى انفجار العنف.
4. الاقتصاد والموارد:
o الصراع على الموارد: كما في العديد من الحروب الأفريقية الأخرى، يؤثر الصراع على السيطرة على الموارد الطبيعية، مثل النفط والموارد الزراعية، في الحرب في السودان. في حرب دارفور، كانت هناك نزاعات حول الأراضي والموارد الطبيعية، وكانت تساهم هذه الصراعات في تعزيز العنف. السودان، من جهته، يعتبر من الدول الغنية بالموارد، وخاصة النفط، ما يجعل الحرب على السلطة في البلاد جزءًا من صراع أوسع يشمل السيطرة على هذه الموارد.
5. الضعف الحكومي وضعف المؤسسات:
o الانهيار المؤسسي: مثل العديد من الحروب الأهلية في أفريقيا، يعاني السودان من ضعف المؤسسات الحكومية والانقسامات داخل الجيش والشرطة. الجيش السوداني، الذي كان القوة الحاكمة في البلاد، يعاني من انقسامات داخلية، مما يجعل من الصعب توحيد صفوفه ضد قوات الدعم السريع. كما حدث في حرب الصومال أو الحرب الأهلية في جنوب السودان، حيث يؤدي ضعف الدولة إلى انفجار الصراع بين الأطراف المحلية التي تسعى للسيطرة على مقدرات البلد.
6. المجاعات والدمار الإنساني:
o الدمار الإنساني والتهجير: الحرب في السودان، كما في معظم الحروب الأهلية في أفريقيا، تسببت في مآسٍ إنسانية ضخمة. وفقًا للتقارير، فقد أودت الحرب بحياة آلاف الأشخاص وأدت إلى نزوح الملايين. كما هو الحال في حرب الكونغو و حرب دارفور، يعاني المدنيون بشكل رئيسي من العنف الدائر ويعيشون في ظروف قاسية، بما في ذلك نقص الغذاء والدواء والمأوى.
الفروق بين الحرب في السودان والحروب السابقة:
على الرغم من التشابهات العديدة، هناك بعض الفروق بين الحرب في السودان والصراعات السابقة في أفريقيا:
1. الانقسام بين الجيش و"قوات الدعم السريع": في العديد من الحروب السابقة، كان الجيش يقاتل جماعات متمردة في مناطق معينة، لكن في السودان، يشهد الصراع حربًا بين فصيلين عسكريين أساسيين كانا حليفين سابقًا، مما يعكس تدهور الوضع الداخلي بشكل غير مسبوق.
2. التحولات السياسية السريعة: في السودان، حدثت تغييرات سياسية سريعة بعد الإطاحة بعمر البشير في عام 2019، ومن ثم تصاعدت التوترات بين المكونين العسكري والمدني في الحكومة الانتقالية، مما جعل الوضع أكثر تعقيدًا. يشير هذا إلى أن الصراع في السودان مرتبط مباشرة بتحولات سياسية غير مستقرة، وهو ما قد يختلف عن بعض الحروب الأخرى التي كانت تنجم عن صراعات أكثر استقرارًا على السلطة.
الخلاصة:
الحرب في السودان تمثل استمرارًا لنمط طويل من الحروب الأهلية في أفريقيا التي نشأت بسبب صراعات سياسية وعرقية واقتصادية، فضلاً عن ضعف المؤسسات الحكومية والانقسامات الداخلية. لكن هذه الحرب تتميز بعوامل إضافية، مثل انقسام الجيش نفسه وتدخلات إقليمية ودولية معقدة. في النهاية، يشترك الصراع في السودان مع تاريخ القارة من الحروب الأهلية في أنها تدمّر الإنسان والمكان بشكل مأساوي، تاركة وراءها أزمة إنسانية هائلة.
• ايهما اكثر اثارة لهذه الحروب العوامل الداخلية او التدخلات الخارجية؟ وكيف الخلاص من هذا وذاك؟
الحروب الأهلية في أفريقيا هي نتيجة لتفاعل معقد بين العوامل الداخلية و التدخلات الخارجية، ويصعب تحديد أي منها هو الأكثر إثارة لهذه الصراعات، حيث أن كلا العنصرين يلعب دورًا مهمًا في تأجيج النزاعات وتفاقمها. ومع ذلك، يمكن القول إن العوامل الداخلية هي غالبًا ما تكون أكثر تأثيرًا في إشعال الحروب الأهلية، بينما التدخلات الخارجية يمكن أن تعقد الصراع وتطيل أمده.
العوامل الداخلية المؤثرة في اندلاع الحروب الأهلية:
1. التنافس على السلطة: يعتبر الصراع على السلطة من أكبر المحركات الداخلية للنزاع في العديد من الحروب الأفريقية. فبعد الاستقلال عن الاستعمار، العديد من الدول الأفريقية لم تتمكن من بناء مؤسسات سياسية قوية قادرة على إدارة التنوع العرقي والسياسي. هذا التنافس يؤدي إلى صراعات عنيفة بين النخب الحاكمة، كما حدث في حرب السودان و الحرب الأهلية في جنوب السودان.
2. التوترات العرقية والدينية: أفريقيا تتسم بتنوع عرقي وديني كبير، وغالبًا ما كانت الحروب الأهلية تنشأ نتيجة للصراعات بين جماعات عرقية ودينية مختلفة على السلطة والموارد. الصراع بين الهوتو والتوتسي في رواندا مثال على ذلك. العديد من الحروب في أفريقيا تنشأ نتيجة لهذه التوترات، حيث يسعى كل طرف إلى الحفاظ على نفوذه أو فرض سلطته على الآخرين.
3. الصراع على الموارد: الصراعات حول الموارد الطبيعية مثل الأرض، المياه، النفط، والمعادن تعد أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحروب الأهلية. في حرب دارفور و حرب الكونغو الديمقراطية، كان النزاع حول السيطرة على الموارد أحد الأسباب الرئيسية التي أثارت العنف بين الجماعات المختلفة.
4. الفساد وضعف المؤسسات الحكومية: في العديد من البلدان الأفريقية، تؤدي الأنظمة السياسية الفاسدة إلى تفشي الفقر والظلم الاجتماعي، مما يؤدي إلى الاستياء الشعبي والنزاع. ضعف المؤسسات الحكومية في إدارة شؤون الدولة والاقتصاد يزيد من احتمالية اندلاع حروب أهلية.
5. التفاوت الاجتماعي والاقتصادي: التفاوت في توزيع الثروة والفرص في المجتمع الأفريقي، مثلما حدث في حرب نيجيريا الأهلية (1967-1970) وحروب أخرى، يعزز الفقر ويزيد من التوترات، مما يجعل الناس ينخرطون في النزاع كوسيلة لتحقيق مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية.
التدخلات الخارجية وتأثيرها:
1. التدخلات العسكرية من دول مجاورة أو قوى عالمية: تدخل بعض الدول المجاورة أو القوى العالمية مثل الولايات المتحدة أو فرنسا في النزاعات الأفريقية يمكن أن يفاقم الصراع. في حرب الكونغو على سبيل المثال، كانت التدخلات العسكرية من قبل دول مثل رواندا وأوغندا قد زادت من تعقيد النزاع. كما أن القوى العالمية أحيانًا تقوم بدعم طرف ضد الآخر لأسباب استراتيجية أو اقتصادية.
2. التدخلات الاقتصادية والسياسية: القوى الخارجية تتدخل أحيانًا من خلال تقديم دعم مالي أو سياسي لأطراف معينة في النزاع، ما يعزز من استمرار القتال. هذا التدخل يمكن أن يكون له مصلحة في ضمان السيطرة على الموارد الطبيعية أو تأمين مصالح استراتيجية. على سبيل المثال، حرب دارفور شهدت تدخلات سياسية واقتصادية من بعض الدول في المنطقة.
3. التأثيرات الثقافية والإيديولوجية: في بعض الأحيان، يمكن أن تؤدي القوى الأجنبية إلى إضعاف الهويات الوطنية من خلال نشر أفكار أو إيديولوجيات خارجية تؤدي إلى الانقسام الداخلي. كان الاستعمار نفسه سببًا رئيسيًا في رسم حدود مصطنعة بين المجموعات العرقية في أفريقيا، مما ساهم في الصراعات بعد الاستقلال.
• كيف يمكن الخلاص من هذه الحروب؟
1. معالجة العوامل الداخلية:
• بناء مؤسسات قوية: من الأهمية بمكان بناء مؤسسات سياسية قوية وفعالة قادرة على إدارة التنوع العرقي والديني في الدول الأفريقية. يجب أن تتمتع هذه المؤسسات بالشفافية والمساءلة لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
• الإصلاح السياسي والاقتصادي: ضرورة إصلاح الأنظمة السياسية والاقتصادية لتقليل التفاوتات الاجتماعية. توفير الفرص الاقتصادية لجميع المواطنين يمكن أن يساعد في تقليل جذور الاستياء الذي يؤدي إلى الصراعات.
• الحوار والمصالحة الوطنية: يجب أن تسعى الدول الأفريقية إلى إجراء حوار بين جميع الأطراف المعنية في النزاع من أجل تسوية النزاعات بشكل سلمي. نموذج اللجان الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري هو مثال ناجح على ذلك.
• إدارة الموارد بطرق عادلة: وضع سياسات لإدارة الموارد الطبيعية بشكل عادل يضمن توزيعًا متساويًا للأرباح والفرص بين مختلف الفئات السكانية لتقليل التوترات الناتجة عن الصراع على هذه الموارد.
2. مواجهة التدخلات الخارجية:
• الحفاظ على سيادة الدولة: الدول الأفريقية يجب أن تحرص على الحفاظ على سيادتها السياسية والاجتماعية، ومنع التدخلات العسكرية من قبل أطراف خارجية قد تزيد من تعقيد النزاعات.
• المشاركة الفعّالة في المنظمات الإقليمية: تعزيز دور المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي و المنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في الوساطة وحل النزاعات. هذه المنظمات يمكن أن تكون ذات دور محوري في التدخل المبكر لمنع الصراعات أو إنهائها.
• الضغط الدولي لتجنب التدخلات السلبية: المجتمع الدولي يجب أن يمارس ضغوطًا على القوى الخارجية التي تتدخل بشكل يفاقم النزاع في الدول الأفريقية، سواء كان ذلك عبر الدعم العسكري أو السياسي.
3. التوجه نحو التسوية السلمية:
• الدبلوماسية والوساطة: يجب تشجيع الوساطة الدولية والمحلية للتوصل إلى حلول سلمية للنزاعات. يمكن للدول الأفريقية الاستفادة من الوساطة الدولية لوقف الصراع والوصول إلى اتفاقيات سلام.
• إعادة بناء المجتمعات: بعد إنهاء النزاع، يجب أن تركز الدول على إعادة بناء المجتمع والنسيج الاجتماعي من خلال برامج تعليمية، ومشروعات تنموية، وتنمية ثقافة السلام والمصالحة.
الخلاصة:
إن الحرب الأهلية في أفريقيا لا يمكن أن تُعزى إلى عامل واحد، بل هي نتيجة لتفاعل معقد بين العوامل الداخلية مثل التنافس على السلطة والتوترات العرقية وضعف المؤسسات، والتدخلات الخارجية التي يمكن أن تزيد من تعقيد الصراع. الخلاص من هذا الصراع يتطلب حلولًا شاملة تشمل بناء مؤسسات قوية، الإصلاحات السياسية والاقتصادية، تعزيز الحوار والمصالحة، والحد من التدخلات الخارجية السلبية.
aahmedgumaa@yahoo.com