في خطابه الأخير الذي ألقاه في المسيرات المليونية التي انطلقت من خمس عشرة محافظة يمنية بمناسبة أضخم احتفال على وجه البسيطة بالمولد النبوي الشريف للعام 1445 هجري الموافق للعام 2023 ميلادي، وضع السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي قائد حركة أنصار الله، خريطَةَ الطريق لما بعد اندحار الاحتلال وانتصار اليمن على تحالف العدوان.
إن ما بعد خطاب السيد الحوثي ليس كَما قَبله، فقد كان خطاباً استراتيجاً بامتياز، ومُبَشِّراً بالنصر بامتياز. وبَقِيَ أن يعرف الفرقاء اليمنيون في عدن كيف يَتَلَقَّفُونَهُ ويلاقون السيد في منتصف الطريق. ومُلاقاتُهُ في منتصف الطريق تُحَتِّمُ عَلَيهِم لَـملَمَةَ أوضاعِهِم والتَلاقي فيما بَينَهَم وحسم أمرِهِم باتخاذِ القرار الذي يُحَقِّقُ طرد العدو من الشطر الجنوبي لليمن وتحرير الأرضِ والثروات والإنسان اليمني. وعندما نقول (العدو) نعني قطيعاً متعدد الرؤوس والمخالِب والأنياب وَكُلِّ عيارات الجشع والإجرام. ويضم هذا العدوان السعودية والإمارات والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبقية دول الناتو والكيان الصهيوني وغيرهم من العصابة التي تسمي نفسها زُوراً “المجتمع الدولي”. وهذه العصابة هي نفسها التي دَمَّرَت الدول العربية وما زالت تُدَمِّرُها في إطار تحقيق أهداف النيوليبرالية والأجنحة الأكثر تطرفاً فيها، بتفتيت العالمين العربي والإسلامي.
خصص السيد عبد الملك الحوثي القسم الأول من خطابه للحديث عن الأُسُسِ والمبادئ التي يجب على الأمة الإسلامية الارتكاز عليها لإعادة الاعتبار لِقُوَّتِها وهَيبَتِها، ما يُمَكِّنُها من إثبات وجودها وفرض احترامِها على مَشارِقِ الأرض ومغاربها. وطبعاً هذه قاعدة عالمية وأخلاقية وسلوكية، فالاحترام لا يُطلَبُ ولا يُستَجدَى، بل يُفرَضُ فَرضاً، خاصةً عندما يكون الخصم أو العدو مُتَفَلِّتاً من أيَّةِ قِيَم، بل أكثر من ذلك، هذا العدو يعتمد البلطجة، ولا يتأخر عن إذلال خَصمِهِ كُلَّما وَجَدَه ضعيفاً هزيلاً وذا شخصية مُنفَصِمَة، كما هي حال الدول العربية والإسلامية حالياً أمام جبروت أمريكا المتغطرسة وأمام وحشية الغرب الذي يعتمد سياسة القرصنة والنهب، ولا يحترم قوانين الدول ولا حتى القوانين والاتفاقيات الدولية.
تحدث السيد الحوثي بإسهابٍ عن المبادئ والقيم التي بَنَى عليها الرسول(ص) دولةَ الإسلام، فوصلت بِفَضلِها إلى قِمَّةِ القُوَّةِ والشُموخ، وإلى مستوىً من الهيبة جعلت الأعداء لا يجرؤون على امتِهانِها أو إهانة نبيها أو قرآنِها وَمُعتَقَداتِها. وخَلُصَ إلى القول أن السبيل الوحيد لاسترجاع القوة والشموخ والهيبة ولفرض احترامنا على الشرق والغرب، ولكي نكونَ أحراراً بالفعل، هو العودة إلى تلك المبادئ والقيم، والتحرُّر من العبودية، وحصر العبودية لله الواحد القَهَّار، فلا عبودية للصنم ولا للمال ولا لطاغية ولا هَوىً أو غريزة أو حب دنيا. وشَدَّدَ السيد على أهمية احترام الإنسان والأسرة وتطبيق العدالة والرحمة، ونبذ الشذوذ والانحراف، والتَذَكُّر الدائم أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض، عَلَّمَهُ الأسماء كُلَّها، وَوَهَبَهُ الحكمة والرشد والاستقامة والعفة والالتزام بالفطرة التي فَطَرَهُ عليها.
ووجه نداءَهُ إلى الشعوب الإسلامية داعياً إياهم إلى الحَذَرِ مما يُحاكُ لهم من مكائد تدميرية، بالإفساد وترويج الشذوذ وتوهين الدين عبر حرق القرآنِ الكريم وإهانة الرسول(ص) بالرسوم الـمُشينة وبالشتم والاستهزاء. وأكد سماحتُهُ أن العودة إلى الجذور التي أنبتت القوة والعزة والكرامة، هي الطريق لإصلاح ما فَسُدَ من الحال، لأنه “لا يَصلُحُ آخر هذه الأمة إلا بما صَلُحَ به أَوَّلُها».
وتضيق الصفحات إن أردنا الحديث عن ذلك الخطاب الغني بمضامينه وقِيَمِه ورسائله بخصوص القضايا المعاصرة التي يَنُوءُ تحتها المجتمع البشري.
أما فيما يتعلق بالداخل اليمني، فقد رسم السيد الحوثي خريطة طريق ما بعد التحرير ومرحلة ما بعد توحيد اليمن. وضع في الخريطة تلك المبادئ العامة للبناء الصحيح في اليمن، التي تُكسِبُهُ القوةَ والمناعة وتمنُّ عليه بِمُستَقبَلٍ مليءٍ بالتقدم والازدهار. وأبرز تلك الـمبادئ هي الابتعاد عن الفئوية والتعصب والمذهبية والعنصرية، والتمسك بالشراكة الوطنية وتكامُلِ الأدوار والالتقاء حول مصلحة الوطن والمجتمع، وتصحيح السياسات الكفيلة ببناءِ يَمَنٍ مُوَحَّدٍ سعيدٍ وعَصِيٍّ على غدر الزمان وكيد الأعداء. ودعا اليمنيين إلى الاستنفار لإعادة إعمار اليمن الجديد وتوحيده. وفي شبه إعلان لبداية مرحلة السلام ما بعد الحرب، دعا السيد الحوثي إلى تشكيل حكومةٍ جديدة تضم الكفاءات وتشمل الأطياف اليمنية كافة، من مختلف المناطِقِ والاتجاهات والمذاهب والأحزاب والـمِلَل، وترعى هذه المرحلة البالغة الأهمية من تاريخ اليمن.
كما دعا السيد الحوثي إلى إصلاح القضاء. ويُعتبر قمة الوعي والإدراك والتفكير الاستراتيجي، أن يدعو القائد إلى إصلاح القضاء، فهو بذلك يُوَجِّهُ البوصلة إلى الاتجاه الصحيح الذي يكفل بناء الدولة المدنية العادلة والـمُستَقِرَّة والآمنة، التي يكون فيها القضاء هو بيضة القبان والضامن لأمن المجتمع ولسلامة العمل على مختلف المستويات، وللتوازن بين السلطات التشريعية والتنفيذية والإعلامية، ولأمن المجتمع وازدهارِهِ ورخائِه.
ونقطة القوة الأبرز في خطاب السيد عبد الملك الحوثي، كانت نصيحتُه لتحالف العدوان بالإسراع في إنهاء عدوانِهم عن اليمن ورحيل قواتهم عنه وكسر حصارِهِم له دون قيدٍ أو شرط، وبِكَفِّ يدِهِم عن ثَرَواتِهِ وَمَوانِئِهِ وَلُقمَةِ عَيشِ شَعبِه، قبل فوات الأوان. وأنذَرَهُم، من موقع القوة، وليس من موقع الاستجداء كما هي حال بعض قادة العرب، أن يستجيبوا لمساعي السلام العُمانية(واللافِت أنه لم يُعِر الأهمية للقاء الوفد اليمني ولي العهد السعودي، وهذا له دلالاتُه)، لأن عدم استجابتهم ستجلب لهم الكوارث. وهذا الإنذار أتى بعد أيام من العرض العسكري اليمني الكبير الذي أدهش العالم بحجمه وتَنَوُّعِه وتَطَوُّرِهِ وغِناه، برغم الحرب والحصار وتكالب عشرات الدُوَلِ الغربية والخليجية عليه. وهذا العرض جاء بمثابة السند الذي يرتَكِزُ عليه السيد الحوثي، بعد الله، في فرض إرادة شعبة وانتزاع حقوقه من فم التنين الغربي المتوحش.
أما فلسطين، فلم تَغِبْ، كالعادة، عن خطاب القائد اليمني، كما لم تَغِب عن اهتمام الشعب اليمني حتى في أشَدِّ أيام الحرب والحصار عليه. لقد تَمَسَّكَ السيد الحوثي بدعمهِ لفلسطين في قَضِيَّتِها حتى التحرير الكامل لأرضها ومقدساتِها. وأعلن مرةً أخرى عن تكامله مع محور المقاومة إلى أن يُحَرِّرَ هذا المِحور، بلاده من الوجود العدواني الـمُجرِم.
لقد كان خطاب السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، خطاب الانتصار بامتياز، وهذا يحمل الكثير من المؤشرات الواعِدة. ولكن يجب أن لا ننسى أن تحالف العدوان لم يَتَخَلَّ عن نواياه الخبيثة ولا عن خططه لمتابعة العدوان على اليمن بوسائل أخرى لا تتوقف عند الحرب العسكرية، بل تتعداها إلى مختلف الوسائل الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والثقافية والاجتماعية، وإلى مختلف أنواع العقوبات والحصار. فتاريخ أمريكا وحاضرها حافلان بالعدوان على البشرية، والأمثلة حاضرة أمامنا في سوريا والعراق وإيران ليبيا وأفغانستان والبوسنة وغيرها، وأمريكا اللاتينية وروسيا والصين، وفي كل مكانٍ يصله الأذى الأميركي والغطرسة والإجرام.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً: