حليم عباس: في هذه اللحظة هناك أشخاص مشكلتهم البراء إبن مالك!
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
في اللحظة التي تقدم عدة دول السلاح وبشكل علني للمليشيا؛ دعم واضح من الإمارات وليبيا حفتر وتشاد وأفريقيا الوسطى وربما جنوب السودان في الطريق بعد زيارة سلفاكير لروسيا وأيضاً دولة إثيوبيا تدعم التمرد سياسياً على الأقل؛ ورأينا مشاركة قوات مع التمرد من ليبيا وتشاد والنيجر وربما أيضا من دولة الجنوب؛ في هذه اللحظة هناك أشخاص مشكلتهم البراء إبن مالك!
في التسعينات أيام تمرد جون قرنق والتجمع الديمقراطي الذي يضم بعض مكونات قحت الحالية مثل حزب الأمة (بعض الوجوه هي نفسها مثل ياسر عرمان ويوسف عزت الذي كان شيوعياً حينها في بداية مشواره).
كان الهجوم على السودان من عدة جبهات من الشرق في الحدود مع إرتريا وإثيوبيا إلى الجنوب حتى حدود يوغندا مرورا بكينيا. حينها استنفرت الإنقاذ الشعب السوداني واستحثت فيهم قيم الجهاد بالمفهوم الديني الإسلامي فتكون ما سيُعرف لاحقاً بالمجاهدين والدبابين وغيرها من المسميات، كلها كانت تصب في مساندة القوات المسلحة وتحت قيادتها، قدم الشعب السوداني عشرات آلاف من المجاهدين وآلاف الشهداء. في ذلك الوقت لم تكن الإنقاذ قد حكمت لثلاثين عاماً حتى تضعف الجيش وتدمره، ولكن الجيش السوداني الذي وجدته الإنقاذ من كان عاجزاً عن مواجهة التمرد لوحده وهزيمته ما استدعى إيجاد قوات مساندة من دفاع شعبي وغيره. ضعف الجيش هذه ليست مشكلة الإنقاذ، بل هي مشكلة موروثة.
ثقافة المجاهدين والكتائب المساندة للجيش لم تنشأ اليوم ليكتشفها ديسمبري عبقري كان يريد شنق البرهان وحميدتي وتفكيك الدعم السريع وإبعاد الأحزاب كلها ومعها الحركات المسلحة أيضاً والكيزان بكافة فصائهم والقوى التقليدية لتحكم ثورة عبر لجان المقاومة وذلك باستخدام المظاهرات في عدد من شوراع الخرطوم. موضوع المجاهدين ليس بهذه البساطة، تماماً مثلما أن مسألة شنق حميدتي والبرهان معاً ليست تلك البساطة.
لسوء حظ العلمانيين هناك ارتباط عضوي بين فكرة الاستنفار ومفهوم الجهاد والاستشهاد في سياقنا السوداني وبالتالي بالأيديوجيا الدينية؛ هذه ليست مشكلة الإسلاميين أيضاً. وفي الواقع فقد كان الاستنفار إلى الجهاد هو المدخل لبعض السودانيين العاديين ليصبحوا إسلاميين. ولكن هل كل مجاهد هو مؤتمر وطني بالضرورة؟ طبعاً لأ.
الجهاد بطبيعة الحال مفهوم ديني، ومن الصعب علمنته في السودان تحديداً. ولقد تكوَّن ما يُمكن تسميته بالأُطر الإجتماعية للجهاد في السودان وذلك خلال حقبة الإنقاذ، وهي أُطر ترسخت مع مرور الوقت عبر رفقة السلاح والعلاقات الشخصية والأنشطة الإجتماعية. هذه أطر غير قابلة للتفكيك ولا يمكن استيعابها داخل مؤسسة مثل الجيش، وهي لها طريقة عملها الخاصة في الحشد والتعبئة وفي التنظيم والإدراة، ولكنها عملياتياً تعمل تحت إمرة الجيش وضمن خطته العسكرية، وهناك تجربة طويلة لهذا العمل المشترك طوال عمر الإنقاذ.
فهناك علاقة نشأت بين الجيش وبين هذه الأطر الاجتماعية للجهاد وهناك تفاهم بينهم وهم يعملون بتوافق وبانسجام منذ أيام حرب الجنوب، وأيضاً البعد الاجتماعي حاضر هنا أيضاً في العلاقة بين الجيش والمجاهدين. فعندما تقاتل مع مجموعة من الرجال مرات عديدة في متحركات ومعارك مختلفة ويتعرف بعضكم على بعض بشكل وثيق في مناطق العمليات “محل الرجال بتعرف بعض” و”محل الكوع يحمى واللسان يبقا دقيق” كما قال الشهيد عبدالمنعم الطاهر، وعندما تمتد هذه العلاقات في الحياة العامة خارج سوح القتال في الأفراح والأحزان وغيرها من المناسبات، تكون هنا علاقة مختلفة. وهي شيء لا يمكن تفكيكه ولا ضربه، خصوصاً في أوقات الشدة التي تواجه فيه البلد خطراً يهدد كيانها ووجودها نفسه. هكذا تسير الأمور في السودان الآن على الأقل، ويجب استيعاب ذلك.
حليم عباس
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
الموت بالوكالة: كيف صار الشعب السوداني رهينةً لسلطتين قاتلتين؟
في البدء، كان الحلم هشًّا، يتنازعه الواقع والممكن، بين دولة لا يحكمها العقل وجيوش يحكمها الرعب. لم يكن السودان يومًا استثناءً في سياق التراجيديا التاريخية التي صنعتها الجيوشُ العربية منذ أن تحولت من مؤسساتٍ وظيفية إلى كياناتٍ فوق الدولة، تمارس السلطة دون مساءلة، وتحكم دون أن تُحاكم.
لكن في هذا البلد، كان للعسكر وجوهٌ كثيرة، كلٌّ منها أكثر فتكًا من الآخر، حتى أصبح المواطن السوداني، ذاك الكائن المعذَّب، رهينَ طاحونةٍ تدور برؤوسٍ متشابكة، إحداها الجيش الذي خنق الدولة منذ 1956، والأخرى مليشيا خرجت من رحم التوحش وصارت قوة تنازع الطاغية ذاته على سلطانه، في مشهد عبثي تتداخل فيه الأدوار بين الجلاد والضحية، حتى بات الوطن كله رهينةً بين المطرقة والسندان.
بدأت السردية القاتلة منذ أن استيقظ السودان المستقل على حقيقة أنه لم يُخلق ليحكم نفسه، بل ليكون حقلَ تجاربٍ لأوهام الضباطِ الذين قرأوا نصفَ كتبِ القوميةِ العربية، وظنوا أن الشعب صفحةٌ بيضاءُ قابلةٌ لإعادة التشكيل وفق أوامرِ القيادةِ العامة.
الفريق عبود، أول الطغاة، جاء كظلالٍ ممتدة لجيوشِ ما بعد الاستعمار، حيث لم يكن الاستقلالُ سوى قناعٍ رثٍ لاستعمارٍ داخلي أكثر فجاجة. ثم تلاهُ نُميري، العائد من شطحاتِ البعثِ الماركسي إلى خرافاتِ الهوسِ الديني، في مسيرةٍ عكست هشاشةَ السرديات التي حاول العسكرُ تسويقها، والتي انتهت إلى أن الشعب ليس سوى متغيرٍ ثانوي في معادلة الحكم.
لكن اللعبةَ الأكثر فجاجةً كانت في 1989، حين اختُزلت الدولةُ في معادلةٍ وحيدة: الإسلاميون والجيشُ كيانٌ واحد، والحربُ على المواطنِ أصبحت معركةَ استئصالٍ مفتوحة.
هنا، بدأ الجيش في التحول إلى عصبةٍ متآمرة، حيث لم يعد مجردَ قوةٍ تحكم باسم الدولة، بل صار جهازًا أيديولوجيًا يعمل لتصفية أي مشروعٍ خارج ثنائية “الطاغية المخلص” و”العدو الوجودي”. كانت الإنقاذُ لحظةَ التحامِ القمعِ المقدسِ مع السلاحِ الدنيوي، حيث أصبح الوطنُ مجردَ ساحةٍ تُعادُ هندستها وفق أوهامِ البقاءِ الأبدي.
في تلك اللحظة، وُلدت المليشيات.
وجيف الخطى الأولى ظهرت في دارفور، حيث اختُزلت الدولةُ في معسكراتِ الموت، وتحولت الجيوشُ النظاميةُ إلى أشباحٍ تراقبُ المذابح من بعيد. ومن رماد الجنجويد، خرجت قوات الدعم السريع، كظلٍّ كثيفٍ لنظامٍ أفرط في صناعة الوحوش، حتى كادَ يُبتلع بها.
حميدتي، بائع الإبل الذي صعد من ثقافة الغزو البدائي، أصبح رجل الدولة بامتياز، في استعارةٍ فظةٍ لصعود العوامِ المسلحين في الإمبراطورياتِ الآفلة. هنا، لم يكن الصراعُ مجردَ لعبةِ سلطة، بل كان إعادةَ توزيعٍ للقوةِ خارج أطرها التقليدية، حيث أصبح الموتُ رأسمالًا قابلًا للمساومة، وصارت الحربُ استثمارًا مفتوحًا، بمدخلاتِ الذهبِ ومخرجاتِ الخراب.
حين انفجرت الحرب في 15 أبريل 2023، لم تكن سوى لحظةٍ حتمية في سياقٍ بدأ منذ أن تخلّى الجيشُ عن كونهِ مؤسسةً وطنية، وأصبح مجردَ أداةٍ لصناعةِ الطغاة. لكنها كانت أيضًا إعلانًا لانهيارِ النموذجِ نفسه، حيث لم يعد بالإمكان إخفاءُ هشاشةِ الدولةِ خلفَ أستارِ البيروقراطيةِ العسكرية. الجيشُ الذي كان يُراد له أن يكون درعَ الدولة، أصبح شبحًا يتآكل من داخله، والدعمُ السريع، الذي أُنشئ كأداةِ قمع، أصبح دولةً صغيرة داخل الدولة، حتى خرجت الأمور عن نطاق السيطرة.
لا شيء يعبر عن هذه اللحظة أكثر من أصواتِ الخرطومِ المنكوبة، حيث تحوّلت المدينة إلى أطلالٍ تتردد فيها أصداءُ الأسئلة التي لم تجد إجابة: من يحكمُ السودان؟ هل هو الجيشُ الذي صار ظلًّا لنفسه؟ أم المليشياتُ التي خرجت من رحمِ الفوضى وأصبحت القوةَ الوحيدةَ القادرةَ على فرضِ معادلاتها؟ أم أن البلادَ محكومةٌ بمنطقِ الحربِ الدائمة، حيث الدولةُ مجردُ مرحلةٍ عابرة بين معركتين؟
إذا كان ماركس قد تحدث عن “الدولة كأداةٍ للقمع الطبقي”، فإن السودان يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا، حيث الدولةُ لم تعد موجودةً أصلًا، والقمعُ أصبح مُوزّعًا بين عدةِ أقطابٍ، كلٌّ منها يحاولُ أن يؤسسَ روايتهُ الخاصة.
الأمر ليس صراعًا بين سلطةٍ وشعب، بل بين عدةِ سلطاتٍ، كلٌّ منها ترى في الشعب مادةً خامًا لإعادةِ التشكيل.
هذا ما يُفسرُ لماذا تحولت المليشياتُ إلى كياناتٍ اقتصاديةٍ ضخمة، ولماذا أصبح الجيشُ نفسه طرفًا في تجارةِ الحرب، حيث لا أحد يرغبُ في إنهاءِ النزاع، لأن النزاع ذاتهُ أصبح مصدرَ الشرعيةِ الوحيد.
لكن المأساةَ الحقيقية ليست في القتلةِ فحسب، بل في الذين ما زالوا يبحثون عن تبريرٍ أخلاقي لهذه الفوضى. هنا، تأتي السردياتُ التي تحاولُ اختزالَ الأمرِ في “حربٍ بين معسكرين”، وكأن هناك حقًا معسكرًا يمثلُ الشعب. الحقيقةُ أن الشعبَ السوداني، الذي ظلَّ لعقودٍ محاصرًا بين الطغاةِ والجلادين، لم يعد طرفًا في المعادلة. لقد صار مادةً للفرجةِ في مسرحيةٍ دمويةٍ تُعيد إنتاج نفسها بوجوهٍ مختلفة، لكنها تحتفظُ بالحبكةِ ذاتها: الوهمُ، القمع، ثم السقوط.
عبد الخالق محجوب، الذي قُتل لأنه رفض أن يرى في الجيشِ حليفًا، كان يُدركُ أن العسكرَ لا يصنعون الثورات، بل يُجهضونها. غرامشي، الذي تحدث عن “الهيمنة” كأداةٍ لصياغةِ الوعي، كان ليجدَ في السودانِ نموذجًا فريدًا لهيمنةٍ لم تُصنع عبر الأفكار، بل عبر الرصاص. وبين هذا وذاك، يظل المواطنُ السوداني، الذي اعتاد أن يكون مشروعَ شهيد، في انتظارِ أن يسألهُ أحدهم: متى تُريدُ أن تكونَ مواطنًا كاملَ الحقوق؟
لكن لا أحد يسألُ هذا السؤال، لأن في السودان، كما في كل الدول التي سقطت في قبضةِ العسكر، السؤالُ الوحيدُ الذي يُسمعُ دائمًا هو: لمن السلطة؟ وما دامت الإجابةُ تأتي بالسلاح، فإن المواطنَ لن يكونَ سوى صدىً للأقدامِ التي تجوبُ الخرطوم، بحثًا عن غنيمةٍ جديدة.
zoolsaay@yahoo.com