الترجمة الثقافية وتقاطعاتها.. معـركة الحفاظ عـــلى الهـــوية اللغـوية وفتـح أبـواب الفـهم المتبـادل
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
في زمن تتسع فيه رقعة التواصل العالمي على نحو لم يسبق له مثيل، تتصاعد الحاجة الملحة لتداخل الثقافات واللغات، وتبرز أهمية الترجمة كجسر يمهد الطريق لهذا التفاعل. إذ تكتسب الترجمة الثقافية أهمية خاصة في هذا السياق، حيث تصبح عنصرا حاسما في تمكين التفاهم والتواصل بين مختلف الثقافات، ومع ذلك، تظل التحديات الكبيرة تواجه المترجمين، خصوصا فيما يتعلق بالترجمة من وإلى اللغة العربية، ويتجلى التحدي في التوازن الدقيق بين تقديم ترجمة دقيقة تفي بغرض التواصل، وبين الحفاظ على الروح والهوية اللغوية والثقافية للنص الأصلي.
تفتح هذه المتغيرات بابا واسعا للنقاش حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الترجمة في تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات المختلفة، أو في المحافظة على الهوية اللغوية والثقافية، فهل تعتبر الترجمة وسيلة لتوطيد العلاقات، أم أنها تشكل تهديدا محتملا للتفرد الثقافي واللغوي؟ وكيف يمكن للمترجمين التعامل مع هذه التحديات المعقدة؟
نهدف في الاستطلاع إلى فهم كيف يمكن للترجمة أن تسهم في تخطي التحديات التي تنشأ من التفاعل الثقافي. إضافة إلى ذلك، نسعى لاستكشاف الصعوبات التي يواجهها المترجمون، سنتناول تجاربهم ووجهات نظرهم حول تحديات الحفاظ على الهوية اللغوية وكيفية توازنهم بين الأصالة اللغوية وضرورة التواصل الثقافي، كما سنناقش كيف يمكن للترجمة أن تسهم في تقارب الثقافات أو تعزيز الفوارق بينها، وتمكين المترجمين من تقديم نصوص تفاعلية تتجاوز مجرد ترجمة للكلمات..
هل يمكن للترجمة أن تصبح جسرًا بين الثقافات أم أنها تقوي الفوارق الثقافية؟ بهذا السؤال ننطلق في استطلاعنا مع المترجمة العمانية ريم داوود التي تجيب عليه قائلة: الفوارق الثقافية، كما أشرتَ في سؤالك، موجودة وملموسة، بطبيعة الحال، لكن جوهر الترجمة في رأيي، ودورها الرئيسي، هو تقريب الثقافات، ونقلها بين المجتمعات المختلفة، فالفطرة الإنسانية والمشاعر واحدة لدى كافة الناس، أينما كانوا، والمبادئ الأخلاقية متشابهة إلى حدٍّ كبير، لكن التجارب والخبرات الحياتية مختلفة، باختلاف الأشخاص ومجتمعاتهم.
وتضيف: يلعب الأدب والفن دورًا كبيرًا في التعبير عن الملامح المميِّزة لكل مجتمع، وهنا يأتي دور الترجمة في نقل تلك الملامح والاختلافات للقرّاء، ليلاحظوها ويفكّروا بها، ويتعرّفوا إليها، وهو ما سيعينهم على تجاوزها، ومنحها حجمها الطبيعي، دون أن يسهم توجسهم منها في تضخيمها ورفضها. أتحدّث، بشكلٍ أساسي، عن الترجمة الأدبية، تحديدًا. كثيرًا ما نقرأ رواية أو قصّة قصيرة لكاتبٍ من بلدٍ مختلفٍ عنّا تمام الاختلاف، لكننا، مع ذلك، نرى في شخصياته جانبًا أو أكثر، يشبهنا، ونتعاطف مع مشاعر هذه الشخصية أو تلك، لأنها أحاسيس نعرفها جيّدًا. مررنا بها، وخبرناها، وساهمت في تشكيل طباعنا وصفاتنا. فالكتب أقرب شيء لفكرة السفر. عبرها، تطوف بلدانًا كثيرة، وتقابل شخصيات عديدة، وتتعرّف إلى عادات وتقاليد، قد يبدو بعضها لك عجيبًا، غير مألوف لك بتاتًا. وما قد يبدأ بمزيجٍ من الدهشة والانبهار، وربّما الرفض أيضًا، ينتهي عادةً بالتفهّم، إن لم يكن بالتقبّل التامّ، واحترام المجتمعات الأخرى وثقافاتها، وهو أمر عظيم، بتنا في أمسّ الحاجة إليه اليوم. إلى جانب ذلك، تمدّنا الأعمال المترجمة بمعلوماتٍ شتّى، عن تاريخ الدول. واقع الأمر، أنني ـ بشكلٍ شخصي ـ اكتسبتُ جزءًا من معلوماتي المتعلّقة بالتاريخ والجغرافيا والصراعات والاحتقانات والثورات والحروب الأهلية، من خلال بعض الأعمال التي قمت بترجمتها، مثل «أمّي عميلة سِرّية» للكاتب الهنجاري «أوندراش فورجاتش»، و«لا صديق سوى الجبال» لـ«بهروز بوتشاني»، ورواية «القنّاص» لـ«بلايز مينيفسكي»، بالإضافة إلى أعمال الكاتبة الزيمبابوية «تسيتسي دانجاريمبجا»، وغيرها من الإصدارات التي تنتمي إلى الصين والهند وتركيا. كانت أعمالًا أعانتني على رؤية الأمور بشكلٍ مختلف، أكثر وضوحًا، وساهمت في إزالة الالتباس الذي عرفته سابقًا.
وترى ريم داوود أننا في عالَم متغيّر، يتبدّل إيقاعه بسرعةٍ مُذهلة ومُربِكة، ولمواكبة هذه التغيّرات تقول: علينا أن نعرف شيئًا عن ثقافات المجتمعات الأخرى، عمّا أسهم في تشكيلها، وكيف هو وضعها الراهن.. عن الناس والأشخاص والتفكير العامّ، وهو ما لن يتحقّق دون الترجمة، وتبادل المعارف المتعددة، لتقليل الفوارق، قدر الإمكان، ويهمّني هنا أيضًا أن أذكّر بضرورة الاهتمام بترجمة الأعمال المعاصرة، والتوقف ـ ولو لفترة ـ عن إعادة ترجمة الأعمال الكلاسيكية، التي صارت المكتبة العربية تحوي منها نسخًا عدّة؛ لأننا ـ كما أشرتُ سابقًا ـ بحاجةٍ ماسّةٍ للتعرّف إلى طبيعة الحياة والمجتمعات، كما هي عليه اليوم، فلا شكّ أن ترجمة أعمال كلاسيكية لا يعرفها القارئ العربي أمرٌ مهمّ، ومرحَّب به، بطبيعة الحال، لكنني أشير فقط إلى إعادة ترجمة أعمال سبق لنا ترجمتها مرّات عدّة.
متعدد الأوجه وبعيد المدى
من جانبه يتحدث المترجم الباكستاني الدكتور أفضل أحمد شعيب الأنصاري السندي مدير جامعة أنس بن مالك الإسلامية بمدينة هالا السند بباكستان عن تصوره حول دور الترجمة في تمكين التفاهم الثقافي ويقول إن هذا الدور متعدد الأوجه وبعيد المدى ـ من الأدب والفن إلى الحفاظ على اللغة والفهم العالمي حيث تؤثر الترجمة بشكل عميق على كيفية التفاعل مع الناس والتفاهم مع العالم ومن حوله من خلال سد الفجوات اللغوية والثقافية، حيث تمنح الترجمة تقديرا أكبر للتنوع، وتعزز التعددية الثقافية، وتساهم في نهاية المطاف في مجتمع عالمي أكثر ارتباطا وشمولية، وتقدم الترجمات الجيدة للقراء نفس المشاعر حول نص معين عندما تتم ترجمته إلى اللغات الأصلية كما يشعر الشخص تجاه محتوى النص عندما يكون بلغته الأم، وتساعد الترجمة على توصيل الأفكار والمعتقدات بالشكل الصحيح حتى يشعر الأشخاص الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية وأدبية مختلفة بنفس الشعور تجاه النص.
نافذة على الآخر
في حين تفصّل المترجمة العمانية فاطمة بنت ناصر فكرة «التواصل الثقافي» وترى أنه دائما ما ترتبط كلمة الترجمة بمفردات تعبر عن الوصل والالتقاء، فيقال إنها جسر يصل بين الثقافات، وهي نافذة نطل بها على الآخر، وعلى الرغم من نشاط الترجمة الذي أصبح أكثر انتعاشا في هذا الوقت من الزمان، إلا أن الترجمة نالها ما نال غيرها من المجالات.
وتشرّح فاطمة عملية الترجمة إلى ثلاثة أقسام حيث تبرز تحديات كل منها على حدة فتقول حول «المترجم والآلة» إن: المترجم هو حلقة الوصل بين النص الأجنبي والقارئ العربي، المترجم قد يكون بشرا وقد يكون آلة بشرية من ابتكار الإنسان كمحركات الذكاء الاصطناعي اليوم. وعلى الرغم من أن البعض قد يعتقد أن هذه الآلات سوف تحل محل المترجم، إلا أنها في الواقع كأي آلة أخرى ستحتاج حتما لمن يشرف على أدائها من أصحاب الاختصاص، وقد تنجح الترجمة الآلية من أن تحل محل المترجم إذا تعاملت مع نصوص جامدة وثابتة كالنصوص القانونية والإرشادية وغيرها، ولكنها تحتاج إلى قدر كبير من البراعة والموهبة لتقدم نصا إبداعيا أدبيا، فعلينا ألا نتعامل مع التقنية كمهدد للترجمة بل كعنصر مهم لزيادة الإنتاجية. الأمر يشبه تماما وجود آلات المصانع التي قد تقص وترسم وتصنع ولكن كل منتج يخرج منها يفحصه المشرف ليضمن سلامة وخلو المنتج من العيوب. ولكن ماذا لو لم يكن المترجم مؤهلا أساسا لكشف العيوب، ماذا لو كانت الآلة اليوم تقدم منتجا أكثر جودة من المترجم؟! الحقيقة أن جامعاتنا تخرج آلاف الطلبة في فرع الترجمة ولكن عددا قليلا منهم سوف يكونون مترجمين جيدين. فمع الأسف هناك ضعف لغوي كبير في اللغتين: اللغة الأم واللغة الأخرى. نعم هناك ضعف مخجل في اللغة العربية في الأجيال الحديثة، وذلك قد يعود لأسباب كثيرة على سبيل المثال وليس الحصر: قلة القراءة لأمهات الكتب وكثرة القراءة للكتب المترجمة، ضعف مناهج اللغة العربية، طغيان اللهجات والتسويق لها ودعمها على حساب اللغة الفصحى وغيرها من الأسباب. هذا الضعف اللغوي انعكس بلاشك على المادة التي ينتجها هذا المترجمة. فقد لاحظت أن المترجم العربي والكاتب العربي كذلك أصبحت لغته تشابه لغة الأدب المترجم الذي يقرأه في غالب الوقت وهو يبتعد عن هوية اللغة العربية وثرائها. فيستخدم عبارات باردة باهتة قد تحل محلها عشرات الكلمات العربية الفصيحة لو كان قد ألم بلغته الأم قبل إلمامه باللغة الأخرى. وليت الأمر يقتصر على هذا بل أن الكثير من الكتاب يكتبون مفردات وعناصر أجنبية لكثرة ما تتردد عليهم في قراءاتهم المترجمة: فيتكلم عن السنديان والصنوبر ورائحة الثلج والدببة والأنهار وأزهار التوليب وهو لم يبرح مكانه في بلاده الحارة القصية، أنا لا أتكلم عنها عن روح نص مترجم إلى العربية، بل عن كاتب عربي يكتب عن حالة ومكونات لم يعشها سوى في قراءاته! مما يجعل ترجمة عمله إلى اللغات الأجنبية لا يضيف شيئا للقارئ الذي سيشعر بأنه متنكر لمكونات بيئته الذي يريد الأجنبي أن يتعرف عليها. وهنا يمكن تلخيص القول بأن المترجم اليوم يملك عصا سحرية قد تساعده في إنتاج نص مبهر إذا ما امتلك الذائقة والقدرة على تشكيل نص بديع.
وتتحدث فاطمة بنت ناصر حول «النص» حيث تقول: إن ترجمتنا إلى العربية أراها أهم بكثير من ترجمتنا للغات الأخرى، لأسباب كثيرة أولها إننا متأخرون في معظم الجوانب: علمي، اقتصادي، ثقافي ... إلخ.. حاجتنا إلى المعرفة الغربية تزداد كل يوم، وتحديات النص كثيرة فالنص المتقدم علميا وحضاريا يحتوي على مفردات جديدة تتشكل يوميا بفعل الابتكارات الحديثة وهذه المفردات لا نظير لها بالعربية! وهنا تكمن إشكالية حقيقية في صياغة ونحت الكلمات الحديثة، نحت الكلمات الجديدة لم ينل حقه من الاهتمام حتى اليوم، فنجد أن ما يستخدمه العامة بشكل شائع يصبح هو المصطلح المعتمد في الترجمة. فهل يعقل أن عددا كبيرا من الناس مقتنعون تماما بمصطلح «التغذية الرجعية»!!!= feedback فالنص هو ابن بيئته خاصة إذا كان نصا أدبيا فسيحتاج منك ما هو أكثر من الإلمام باللغتين، فأنت مطالب بالإلمام بثقافة النص الأصلي لتتمكن من خلق ترجمة بديعة للنص الأصلي، وأظن أن الذكاء الاصطناعي سيسهل عملية البحث على المترجم وسيساعده بشكل كبير في معرفة الخلفيات التاريخية والثقافية لأي نص كان، الإبقاء على هوية النص مطلب ومسبب رئيسي لنجاح الترجمة.
وعن «المادة المترجمة وجمهورها» ترى المترجمة فاطمة بنت ناصر أن المادة المترجمة تخضع لأحكام السوق التي تدير هذه الصناعة كما تدير غيرها، ونعلم كذلك أن المادة المترجمة لتنجح عليها أن تطيع موجات السوق وحركات مده وجزره من عرض وطلب. فعملية إنتاج النص المترجم في العالم العربي عالي التكلفة قليل الربح. فنرى تقلبات السوق تنعكس بجلاء على صنوف الترجمة التي ننتجها، ففي وقت ما كان هناك اهتمام كبير بكتب الطبخ بينما اليوم كتب التنمية البشرية تتفوق عليها، والسبب أن كلا من الطباخ ومدرب التنمية البشرية هما منتج يحاول التسويق لنفسه وبضاعته عن طريق الكتب، أما المبدع الذي لا يرى نفسه كسلعة نرى في الغالب بأنه مغمور وبضاعته صعبة البيع. وفي الختام الترجمة لن تموت ولكنها تضعف بسبب ضعف المترجم الذي يحتاج إلى أن ينمي مهارته في الإمساك بزمام لغته ومكونات النص الأصلي والبحث عن تاريخها وجذورها، ليتكلم عن معرفة ولا يكتفي بنقل الحروف فقط.
انعكاس لروح الأمة
حول الرابط بين الثقافات عبر الترجمة تقول المترجمة الدكتورة بيك ها يون (ليلي) من كوريا الجنوبية: ترجمتُ روايتين عربيتين إلى اللغة الكورية ونشرتهما في بلادي وهي «صورة وأيقونة وعهد قديم» لسحر الخليفة، و«ساق البامبو» لسعود السنعوسي، ومن خلال ترجمة الروايتين أديت دور الجسر بين الثقافتين الكورية العربية، إذ إن كثيرا من الكوريين الذين قرأوا ترجماتي صارت لديهم فرصة للتعرف على المجتمع العربي والثقافة العربية والقضايا التي تؤرق الناس فيه، وهكذا يلعب المترجم دور الجسر الذي يربط بين الثقافتين والشعبين المختلفين من خلال أعماله، كما ترجمت القصائد الكورية والقصص القصيرة الكورية إلى العربية وسوف أقدمها في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2023 ومن خلال ترجماتي سوف يتعرف العرب على الأدب الكوري أكثر والقضايا الرئيسة المعاصرة التي نهتم بها ونركز عليها في هذه الأيام بكوريا، وسعدت جدا بأني أغتنم فرصا كثيرة لترجمة الكثير من الأعمال الأدبية والإنسانية فضلا عن الترجمة في المجالات الأخرى، لأن الأعمال الأدبية الإنسانية هي خلاصة التصورات الفكرية والنفسية والإيديولوجية التي تعكس روح الأمة.
نواقل المعرفة
من جانبه يرى المترجم العماني بدر الظفري أن الترجمة في جوهر تعريفها تعني النقل، والمشتغل بهذه المهنة هو المترجم، وهو ناقل للمعرفة من مصدرها إلى هدفها الذي يسعى إلى إيصالها إليه، وهذه المعرفة تشمل اللغة بألفاظها، بالإضافة إلى المعاني التي تحملها هذه الألفاظ.
ويقول «الظفري»: بقدرة المترجم على نقل المعنى الكامل من لغة منتج النص إلى لغة متلقيه، تتضح مهارته في الترجمة، ولذلك فإن المعنى لا يمكن أن يكتمل إلا بنقل اللفظ والسياق المحيط به، وهذا السياق قد يكون سياقا داخليا يتعلق ببنية الكلمة وتركيب الجملة وتناسق العبارات والفقرات والعلاقات بين الكلمات، وقد يكون خارجيا يتعلق بالمتحدث من حيث سنه وعلمه ومنصبه ووظيفته، وكذلك مكانه وزمانه وما يرتبط به من عادات وتقاليد ودين وتاريخ وسلوك حالة إنتاجه للنص، ومجموع ذلك كله هو الثقافة، وعلى هذا، فإن الترجمة تعنى أساسا بنقل الثقافات، ولا تقتصر على نقل اللغات، لأن اللغة ما هي إلا جزء من ثقافة الإنسان.
ويشير الظفري إلى أن المترجم بحد ذاته ليس مسؤولا مباشرا عن التفاعل والتفاهم بين الثقافات، لأنه مجرد ناقل، بل إن من شروط المترجم الحاذق هو الوقوف على خط الحياد بين ثقافتي المصدر والهدف، وتقتضي الأمانة العلمية لديه نقل النصوص بجميع أشكالها كما هي، ويترك أمر التفاعل والتفاهم للأطراف المعنية، فلو كان المترجم على سبيل المثال ينقل كلام الطبيب إلى المريض بأنه مصاب بداء عضال، فليس للمترجم التفكير في مشاعر المريض وتفاعله مع الخبر، بل يجب عليه التعامل مع النص المنطوق كما هو، وهناك جدل قائم ومثار بشكل مستمر في معظم نظريات الترجمة وهو ما إذا كان على المترجم الميل إلى الالتزام بما ورد في النص الأصلي دون الالتفات للثقافة المنقول إليها، أو مراعاة الثقافة المنقول إليها حتى لو اضطر إلى تغيير النص الأصلي، وهنا يجب على المترجم مراعاة «الحاجة»، والحذر من «الخطر»، ومن وجهة نظري الشخصية فإن العنصر الثقافي غير المقبول في الثقافة الهدف لا يجب نقله إلا بتوضيح يعرفه ويبين سبب نقله، وبهذا يحقق المترجم التوازن بين النصين.
تأثير اللغة العربية
مؤكدا على دور الترجمة في تمكين التفاهم الثقافي ينطلق المترجم الهندي محمد رافع في حديثه بمقولة المفكر والناقد الأمريكي جورج ستاينر « لولا الترجمة، كنا سنعيش في مناطق يحاذيها الصمت» ويقول: الترجمة تساعد في اجتياز حواجز اللغات وفتح الأبواب أمام التفاعل الثقافي والاجتماعي بين الشعوب المختلفة، وعندما يقرأ العربي الأدب الهندي فيمكن أن يتقرب من الثقافات الهندية المختلفة ويثور في قلبه شغف لاكتشاف هذه الثقافات ويدرك مزاياها وبالتالي يتحقق التواصل بين الثقافات وتعزيز التفاهم الثقافي، وفي العصر الراهن يتزايد التفاعل الثقافي بشكل سريع، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي ولكن علينا في هذا الوضع الحفاظ على ثقافاتنا وهويتنا مهما كلّف الأمر، فيجب على المترجم أن يكون دقيقاً في ترجمة المفاهيم والمصطلحات الثقافية عاكسا دقة المعنى الأصلي بهويته اللغوية، حيث إن ترجمة الأساطير والقصص الشعبية بكل دقة واحترافية تعكس غالبا الهوية الثقافية واللغوية للشعوب، ولكن هل تستطيع الترجمة أن تبني جسراً ثقافياً .. نعم الترجمة الجيدة لا شك أنها تمكن التفاعل الثقافي وتعززه عند المجتمع ولكن الترجمة إذا كانت سيئة فتكون هناك علامة استفهام عن ثقافتهم وهذه تؤدي في بعض الحالات إلى الفوارق الثقافية فتنعكس سلبا.
وحول «تحديات الترجمة» يرى «رافع» أنها لا تحصى، ومن أهمها إدراك الثقافات؛ فيجب على المترجم أن يكون على دراية تامة بالثقافة التي يريد الترجمة منها، وأن يختار التعبيرات والمصطلحات في أمكنة مناسبة وهذه مهمة شاقة بالنسبة للمترجم ومع ذلك فإن بعض القيود اللغوية قد تصطاد المترجم في بعض الحالات ما يعوضها بكلمات تقترب من المعنى ولكن تكون من أصلها اللغوي.
وحول تجربته يقول محمد رافع: بالنسبة لي أنا أنتمي إلى كيرلا جنوب الهند وأهل كيرلا يتحدثون باللغة المليالمية حتى أن كل ولاية تمتلك لغة خاصة وثقافة فريدة، ومن المؤسف أن الأعمال الهندية المترجمة إلى العربية قليلة جدا وفي نفس الوقت ترجم بعضها بواسطة الإنجليزية وهذا ما يفقد جماليات اللغات أحيانا، عندما أتحدث عن الترجمات في اللغة الماليالمية للعربية فإنها لا تزيد عن ٣٠ كتابا فقط، ولدي الرغبة في أن أشكل هذا الجسر الثقافي بين العرب وكيرلا من خلال الترجمة من لغة الأم مباشرة، وكما تعلمون أن العرب اتصلوا بالهند وأهلها منذ العصور القديمة، وتداخلت العربية حتى أصبحت لغة تُكتَسب بالتعلم والدراسة، وكنتيجة حتمية لذلك أثرت اللغة العربية بشكل كبير في اللغة والثقافة الهنديتين، ويمكن أن نكتشف ألفاظا لا تحصى ترجع جذورها إلى اللغة العربية، كما نجد أن هناك متشابهات على مستوى الثقافة والفنون بين الهند والعالم العربي، ولا شك أن اللغة العربية انتشرت في المجتمع الهندي بفضل العلاقة الوطيدة بين الجانبين.
وحول التحديات يقول المترجم الهندي محمد رافع إن تقنية الكتابة في النص الأصلي تقف حجر عثرة أمامي في الترجمة، ففي البداية كنت أواجه هذه المشكلة بشكل كبير، لكنني واصلتُ عملي بهمة، كما أن ممارستي المستمرة للترجمة مهَّدت لي الطريق لأن يصبح الأمر سهلاً تدريجياً، وعموماً أبذل قصارى جهدي لاجتياز هذه الصعوبات، وأعتقد أن عملية الترجمة ستصبح أكثر سهولة مستقبلاً.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللغة العربیة بین الثقافات إلى العربیة على المترجم الترجمة فی الحفاظ على قد یکون أعمال ا یمکن أن من خلال
إقرأ أيضاً:
حكم صلاة الجمعة بخطبة واحدة بغير العربية .. الإفتاء تجيب
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (ما حكم صلاة الجمعة بخطبة واحدة بغير اللغة العربية في دولة لا تتحدث العربية؟ فقد سافر رجلٌ إلى إحدى الدول التي لا تتحدث العربية للعمل، وأقام في إحدى المقاطعات التي يسكنها المسلمون، وعند دخوله المسجد لأداء صلاة الجمعة وَجَد الخطيب يلقي الخُطبة بغير اللغة العربية، كما أنه اقتصر فيها على خُطبة واحدة، ويسأل: ما حكم صلاتهم الجمعة بهذه الكيفية المذكورة؟
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال إن صلاة الجمعة بخطبة واحدة بغير اللغة العربية صحيحةٌ شرعًا، وهي مجزئةٌ لمن حَضَرها مع الإمام، سواء في حق ذلك الرجل المذكور أو غيره مِن المأمومين، ولا إثم عليهم في ذلك ولا حرج، والأولى الإتيان بخطبتين خروجًا من خلاف الفقهاء.
وأوضحت أنه مِن المقرر شرعًا أنَّ النَّظَر في عباداتِ المسلمين وتنزيل الأحكامِ عليها يستوجب معرفة أحوالهم ومذاهبهم التي استقر عليها عملُهم، "والمذاهبُ كلُّها مسالكُ إلى الجنة وطُرقٌ إلى السعادة، فمن سَلَكَ منها طريقًا وَصَّلَهُ"، كما قال الإمام أبو عِمْرَانَ الزَّنَاتِي [ت: 430هـ] فيما نقله عنه الإمامُ شهاب الدين القَرَافِي في "الذخيرة" (1/ 140، ط. دار الغرب الإسلامي).
وذكرت أن هَيْئَةُ خُطْبَةِ الجمعة المسؤول عنها صحيحةٌ شرعًا، وذلك على ما وَرَد عن الإمام أبي حنيفة مِن مشروعية أنْ تَكُونَ الخُطْبَةُ بغير اللغة العربية مطلقًا، سواء كان الخطيب يَعرف اللغة العربيةَ ويَتكلم بها أوْ لَا.
ووافق الإمامَ أبا حنيفةَ في جواز أداء خُطبة الجمعة بغير اللغة العربية: صاحِبَاهُ الإمامان: القاضي أبو يوسف، ومحمدُ بن الحسن -بِقَيْدِ أن يَعْجَزَ الخطيبُ عن أدائها باللغة العربية-، والشافعيةُ في وجهٍ -واحتَمَله الإمامُ الأَذْرَعِي على ما إذا عَلِم الحاضرون تلك اللغة-، وهو أيضًا مذهب الحنابلة، وذلك باعتبار أنَّ المقصودَ مِن خُطبة الجمعة هو الوعظُ والتذكيرُ، وهو حاصلٌ بكلِّ اللغات.
أما الاقتصارُ على خُطْبَةٍ واحدةٍ فإنه يُجْزِئُ عند الحنفية، والمالكيةِ في مقابل المشهور، وهو مقتضى كلام الإمام أحمد، وهو قول الأئمة: عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثَوْر، وابن المَنْذِرِ، وذلك لحصول المقصودِ بها وهو الذكر والوعظ كما سبق ذِكْرُهُ، لكن يُكْرَهُ فِعْلُ ذلكَ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، والأَوْلَى أنْ يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ؛ اتِّبَاعًا للمأثُورِ، وخروجًا مِن خلاف مَنْ أَوْجَبَهُما مِن الفقهاء.