مرفأ قراءة... الترجمة في يومها العالمي.. خواطر وتأملات!
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
- 1 -
أزعم أنني من قراء الترجمات النهمين من كل اللغات لتعويض قصورٍ مؤلم وبيِّن في القراءة بلغةٍ أجنبية واحدة على الأقل! كنت مدركًا منذ بدايات الطلب والدرس ضرورة إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، غير العربية، للتواصل المباشر دون وسيط مع ما يحدث في العالم حولنا، لكن ولأسبابٍ كثيرة لم أتمكن من تحقيق هذا المطلب المهم والضروري لكل ساع للمعرفة وراغب في الثقافة الرصينة.
لكن، واتباعًا للمقولة الشائعة بأن ما لا يدرك كله فلا يترك جله؛ فكان لزامًا عليّ أن أعوض هذا النقص بنهم محموم لا يشبع لقراءة كل ما أتمكن من قراءته من ترجمات عن كل اللغات في كل المجالات..
وبداية، فالترجمة لديّ هي عملية مثاقفة شاملة مكتملة الأركان؛ بدونها لا تتم أي نهضة أو عملية تحديث في أي مجتمع من المجتمعات. الترجمة ركن ركين من هذه العملية. أما الآن، فالترجمة ليست في أحسن أحوالها؛ لا لنقص في المترجمين الأكفاء أو في الاتصال بمصادر الثقافات المختلفة والبحث عما يجب أن ننقله إلى ثقافتنا ولغتنا إنما الأمر يتلخص في غياب الرؤية ورسم السياسات.
لو رجعنا إلى بداية نهوض الترجمة في الثقافة العربية مع الجد العظيم رفاعة الطهطاوي (1801-1873) سنجد أن الرؤية كانت واضحة، والمهام محددة، والغاية تنويرية حضارية مستقبلية. من هنا جاء تأسيس "مدرسة الألسن" لتخريج تراجمة محترفين في المقام الأول لنقل كل العلوم والمعارف والثقافات إلى اللغة العربية عن جميع اللغات.
- 2 -
لم تنفصل هذه الرؤية أبدًا عن سياق النهضة العربية ككل، أو البحث عنها، فالنهضة (إذا تأملناها من منظور فلسفي تحليلي) تبدأ بصدمة الوعي التي تنتج عندما تواجه "الأنا" حضور "الآخر" الذي يستفزّها تقدمه، أو يعصف بها غزوه أو بطشه العسكري. هذه الصدمة يفسرها الدكتور جابر عصفور بأنها قرينة رغبة المعرفة التي تنفجر في داخل "الأنا" مجاوزة كل النواهي التي تدعوها إلى الانغلاق على نفسها، والاكتفاء بذاتها. وإما أن تستيقظ هذه الأنا من سباتها، وتفارق خمولها، أو تتمرد على ما اعتادت عليه، ومن ثم تضع نفسها موضع المساءلة في مواجهة التقدم المؤرِّق لهذا "الآخر"، وإما أن تستسلم لسباتها إلى ما لا نهاية.
وبقدر ما تكتسب أبعاد تقدم هذا "الآخر" دلالة الوعد الذي ينتقل بواقع "الأنا" إلى إمكان التقدم، وذلك في عملية المساءلة الذاتية التي لا تخلو من توتر الصدمة، تغدو أبعاد تقدم الآخر إنجازا لا بد من نقله والصنع على منواله.
وهنا طرح السؤال الأول في تاريخنا الثقافي بوضوح هل هي "ترجمة" أم "نقل"؟
وكانت الإجابة الضمنية العملية أن "الترجمة" هي الخطوة الأولى في النقل، وأداته الفاعلة في تحقيق رغبة النهضة وتأصيلها والمضيّ في طريقها الصاعد، وذلك بما يدني بهذه "الأنا" من ذلك "الآخر" المتقدم، أو يضعها في موازاته على طريق التقدم نفسه، ومن ثم يخايلها بإمكان منافسته أو حتى التفوق عليه.
وعندئذ، تصبح الترجمة نقلا لأسرار التقدم التي يحتكرها الآخر، ووسيلة لاكتساب معارفه وعلومه التي يتحقق بها هذا التقدم. وتغدو الترجمة، كذلك، جسرا يعبر هوة الزمان والمكان واللغة، ويفتح أفقا جديدا من التواصل والاتصال، ويحفز على الإنجاز الموازي، وعلى مواصلة السعي من حيث انتهى "الآخر" السابق في طريق التقدم. والهدف هو تحقيق التميز أو تأكيد الهوية الذاتية في مدى الإضافة التي تنطوي على معنى الخصوصية.
وتاريخنا الثقافي والحضاري العربي خير دليل على ذلك، فقد وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى ذرى نهضتها التي أفادت منها الإنسانية كلها بواسطة حركة ناشطة في الترجمة، حتى من قبل أن ينشئ الخليفة المأمون "مدرسة الحكمة" أو "دار الحكمة" في بغداد العباسيين. ونعرف من المصادر القديمة أن حركة الترجمة العربية الأولى بدأت في العصر الأموي، موازية لاتساع مدى الفتوح الإسلامية التي أسهمت على نحوٍ غير مباشر في الانفتاح بالحضارة العربية على ميراث العالم القديم حولها، خصوصا بعد أن شعر العرب أنهم ورثوا الحضارات السابقة عليهم، وأنّ عليهم الإفادة منها، والبدء من حيث انتهت إليه.
- 3 -
ولا بد هنا -في سياق التعرض لحضور الترجمة في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية- من إضاءة سريعة لميلاد هذه الحركة المباركة التي أدرجت حضارتنا العربية الإسلامية في سلك الحضارات الإنسانية الكبرى، هذه الحركة ولدت في عصر الترجمة الأول، الذي يمكن اعتبار "بغداد" رمزًا له وعلامة عليه ونقطة انطلاق لما هو أبعد من ذلك، فبعد أن جعل الفتح العربي الإسلامي للمنطقة خلال القرنين السابع والثامن، من مجموعةٍ جديدة، حكامًا على منطقة الحضارات القديمة، وجد هؤلاء "الجدد" أنفسهم مضطرين للاستعانة بمن يترجم لهم الإرث الثقافي المكتوب المتاح بين أيديهم، لكي يتمكنوا من فهمه، وبالتالي من تأمين سلطتهم: فإن ضرورة إيجاد سند منطقي لدينهم الجديد؛ أي الإسلام، وإيمانهم بأن القرآن يشجع على اكتساب المعرفة أينما وجدت.
هذا بالإضافة إلى الثقة في أن للعلوم المختلفة مثل التنجيم، والفلك، والطب، والكيمياء فوائد عملية، كل هذا دفع الحكام في بغداد "الجديدة"، لا سيما منذ بداية القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) للاهتمام بمختلف أنشطة الترجمة. فتمت الترجمة إلى لغة السادة الجدد -العربية- عن اليونانية، غالبًا عبر الآرامية (كلغة وسيطة): مخطوطات أبقراط، وجالينوس، وأرسطو، وأفلاطون وغير ذلك الكثير. إلا أن هذا النشاط الذي يمكن وصفه بالمحموم وصل لمنتهاه بصورةٍ أو بأخرى بحلول نهاية القرن العاشر، حيث كان قد تم بالفعل نقل كل ما هو متاح، وكانت الثقافة الجديدة قد طورت ديناميكياتها الخاصة.
- 4 -
ثم جاء في المقام الثاني عصر الترجمة الثاني، الذي يمكن اعتبار مدينة "طليطلة" رمزًا له. مرة أخرى شكلت الصراعات السياسية والعسكرية الركيزة الأساسية: فمع التوسع الأوروبي خلال الحروب الصليبية (في القرنين الثاني عشر والثالث عشر) تأتي كذلك حركة الاسترداد في إسبانيا؛ أي الاضطهاد التدريجي للعرب، ثم طردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية. وقد شارك في ذلك أيضًا أوروبيون من وسط أوروبا وغربها، محاربين، ومغامرين، ومتعصبين دينيًّا، وعلماء. ففي القرن الحادي عشر بدأ ما يسميه المؤرخون الأوروبيون عصر "الإفاقة" المسيحية، وبدأ المسيحيون يعملون على استعادة الأرض الإسبانية من أيدي العرب والمسلمين، وفي سنة 1085 استولوا على مدينة "طليطلة"، ومع هذا فلم تفقد صبغتها العربية، بل ظلت مركزًا ثقافيًا يجتمع في جنباته علماء المسلمين والمسيحيين واليهود.
وفي بلاط ملوكها المسيحيين بدأت حركة إحياء علمية، وبدأت هذه النهضة في عهد الملك ألفونسو السادس، واستمرت في عهد ألفونسو السابع، إذ قام أسقف المدينة "راموندو" Ramunde بحماية هؤلاء العلماء ورعايتهم والحدب عليهم، وتشجيعهم على الاستمرار في جهودهم العلمية القائمة -حينذاك- على الترجمة عن العربية، فترجموا الكثير من الكتب العربية إلى اللغة القشتالية أولًا، ثم إلى اللغة اللاتينية بعد ذلك، وبعضها مما ترجمه العرب قبلًا عن اليونانية، والبعض الآخر مما ألفوه هم وضمنوه إضافات جديدة إلى الفكر الإنساني، وهذه وتلك كانت شيئًا جديدًا بالنسبة لأوروبا المسيحية مما خلق من طليطلة مركزًا ثقافيًا كبيرًا يجتذب إليه العلماء والأدباء والدارسين من مختلف أنحاء أوروبا.
- 5 -
وبالإضافة إلى هذا "التدويل" للصراعات الداخلية الإسبانية، كانت هناك بعض الأوضاع الديموغرافية المواتية: مجتمع قائم على ثلاثة أديان، وليس ثلاث ثقافات، كما قد يقال اليوم على الفور، فكان هناك مسيحيون، ومسلمون، ويهود؛ مجتمع متعدد اللغات واللهجات كذلك: العربية (كتابةً ولهجة)، واللغات العامية الرومانية، واللاتينية لغةً للكنيسة وللعلماء، وأخيرًا اللغة العبرية أيضًا.
وقد أتاحت هذه المعطيات ترجمة عدد كبير من الكتب العلمية (لا سيما الطبية والفلكية) والفلسفية. كانت تلك مخطوطات تم نقلها قبل قرون من اليونانية إلى العربية، أو كُتِبت أصلًا باللغة العربية. هكذا وصل أرسطو وجالينوس، وبطليموس وديسقوريدوس -بل وكذلك الرازي وابن سينا وابن رشد- إلى أوروبا باللغة اللاتينية، ودَعّموا "الحداثة" الناشئة هناك..
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ترجمة سفر المزامير من "السبعينة" إلى اللغة الهولندية .. صور
أقيمت احتفالية في المركز الثقافي القبطي امستردام تحت عنوان "مزامير الكنيسة الأولى: طريقة مختلفة للقراءة" وذلك بمناسبة صدور الطبعة الاولي من ترجمة سفر المزامير من الترجمة السبعينية إلي اللغة الهولندية حيث شكل معهد القديس إيريناوس للدراسات الآبائية وجمعية الكتاب المقدس الهولندية الفلمنكية فريقًا للترجمة تكون من خمسة أفراد ظلوا يعملون طوال السنوات الخمس الماضية.
والمعروف أن هذه الترجمة اليونانية للعهد القديم تمت في الإسكندرية قبل ميلاد المسيح، واستخدمتها معظم البلاد في الكنيسة الأولى.
واستخدمت الكنيسة القبطية في مصر هذه الترجمة منذ القرن الأول الميلادي وحتى القرن الثالث عشر حينما ترجم العلماء الأقباط المعروفين باسم أولاد العسال كتب الكنيسة ( مثل القطمارس والخولاجي والأجبية) إلى اللغة العربية.
تحاول هذه الطبعة من سفر المزامير استخدام اللغة الهولندية المعاصرة، مع الاحتفاظ بالكلمات الرئيسية من التقليد المسيحي مثل "مبارك" و"نعمة" و"رحيم".