البوابة نيوز:
2025-03-29@17:52:27 GMT

السياسة والاقتصاد توأم ملتصق

تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT

فى سنوات الشباب الأولى، قبل نحو نصف قرن وبضع سنوات، خطت قدماى أولى خطواتها فى رحاب جامعة القاهرة العريقة، ومازلت أتذكر حالة الإنبهار التى تملكتنى وظلت ترافقنى طيلة سنوات الدراسة الأربعة، زمن مرحلة البكالوريوس، وحتى أصل الى كلية التجارة، كنت أعبر أمام كليتى الحقوق والآداب وعلى بعد خطوات منهما يقف البرج الذى يحمل ساعة جامعة القاهرة، التى طالما انتبهنا إلى رنات أجراسها الرخيمة والمميزة المنقولة عبر أثير الإذاعة المصرية، وهى تحدد التوقيت المحلى لمدينة القاهرة، وعلى يسارها تقبع قاعة الاحتفالات الكبرى العريقة والتى شهدت أحداثا تاريخية فارقة فى تاريخنا الحديث والمعاصر، ثم نعبر ممرًا خلفها بين أبنية كلية العلوم، يفضى بنا إلى كلية التجارة.

خلف كلية الآداب تقع مكتبة الجامعة التاريخية، وغير بعيد منها تقابلك كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الشابة، وقتها، فقد أنشئت بموجب قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم 91 لسنة 1959، وتخرجت أول دفعة فيها عام 1963، كنت كلما مررت أمامها يلح على سؤال وما علاقة العلوم السياسية بالاقتصاد؟، كان سؤالًا ساذجًا أجابت عليه بعمق محاضرات علم الاقتصاد وعلوم الادارة عبر سنوات كلية التجارة وقتها. وأيقنت بعدها الدور العلمى والعملى والضرورى الذى تقوم به كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى تمتد جذورها إلى كليات التجارة والحقوق والآداب وانعكس هذا على أقسامها التى بدأت بها مشورها، وهى: العلوم السياسية، الاقتصاد، الإحصاء، الإدارة العامة، والحاسب الآلي، وكان الرعيل الأول من أساتذتها من المتميزين فى تلك الكليات، ولهذا استطاعت عبر خريجيها فى سنواتها الأولى أن تجد لهم مكانة متقدمة فى مفاصل الدولاب السياسى والاقتصادى والدبلوماسى والمصرفى والتشريعى والإعلامى للدولة، وكان لهم دورهم فى تأسيس مراكز البحوث والدراسات السياسية والاقتصادية فى كبريات المؤسسات الصحفية وأجهزة المعلومات، والتى تمد صاحب القرار وجهات سن وتشريع القوانين، بالتقارير والتحليلات الموضوعية لما يتعرضون له من قضايا وإشكاليات داخلية وقومية وعالمية فى الداخل والخارج.

جاء التحاقى بالجامعة متزامنًا مع أحداث جسام، تشكلت عقب وبفعل هزيمة يونيو 67، والتى وضعت نقطة فى نهاية سطر شغف الشباب بالتجربة الناصرية، ليبدأ سطرًا جديدًا من المواجهة المثخنة بجراح انهيار الحلم، وتشهد الجامعة حراكًا طلابيًا فيما يمكن تسميته انتفاضة الطلاب، فبرلير 68، التى بدأت من كلية الهندسة، القابعة فى مواجهة الحرم الجامعى، لتمتد إلى كليات الحرم التى اشرنا إليها قبلًا، وكانت الشرارة التى فجرت حمم الغضب الطلابى، صدمة الأحكام الهزيلة التى قضت بها المحكمة على قيادات الطيران آنذاك، وكان من أبرز قيادات الطلاب وقتها الصديق أحمد عبد الله رزة، والذى تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1973 وحصل لاحقًا على درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية من جامعة كمبردج بانجلترا 1984، وأصدر العديد من الكتب التى تتناول قضايا الحرية والديمقراطية والعمل السياسى، وقد التقيته قبيل رحيله عام 2006 فى ندوة ثقافية عقدها مركز الجزويت الثقافى بالأسكندرية وبدعوة من الأب الراحل وليم سيدهم، المؤسس لدعوة تمصير "لاهوت التحرير"، وحفر هذا اللقاء فى ذاكرتى.

كانت مطالب الطلاب فى انتفاضتهم؛ بحسب البيان الصادر عن اعتصام كلية الهندسة آنذاك الإفراج فورا عن جميع الطلاب المعتقلين، وحرية الرأى والصحافة، ومجلس حر يمارس الحياة النيابية الحقة السليمة (مجلس الأمة)، وإبعاد المخابرات والمباحث عن الجامعات، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف العمل بها، والتحقيق الجدى فى حادث العمال فى حلوان، وتوضيح حقيقة المسألة فى قضية الطيران، والتحقيق فى انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلبة.

ويعلق د. أحمد رزة على هذا البيان بقوله "يتضح من ذلك أن ثلاثة من هذه المطالب تدور حول مسألة الديمقراطية فى البلاد ككل، بينما تشير ثلاثة أخرى منها إلى غياب الديمقراطية فى الجامعة بوجه خاص، ويركز مطلبان منها فقط على قضية الطيران والأحداث المرتبطة بها.

وقد تفاعل الرئيس جمال عبد الناصر فى تفهم لافت لهذه المطالب ـ بحسب التقارير الإخبارية وقتها فأمر بإعادة محاكمة الضباط المتهمين بالإهمال، وتشكيل وزارة جديدة كان أغلبها من أساتذة الجامعات (المدنيين) وذلك لأول مرة فى عهده، وطرح برنامج 30 مارس، الذى تضمن إصلاحات مستقبلية فى نظام الحكم. واستجاب لبعض مطالب الطلاب، فبرغم بقاء الحرس الجامعى داخل الجامعات إلا أنه لم يعد يتدخل مباشرة في النشاط السياسى للطلاب. كما انتشرت مجلات الحائط بكثافة داخل الجامعات المصرية. وصدرت لائحة لاتحاد الطلاب بموجب قرار جمهورى تمخض عنها اتحاد طلابى بلا وصاية من أعضاء هيئة التدريس.

كانت سنوات الجامعة تلك، بكل ما شهدته من أحداث جسام، مرحلة مهمة فى تشكيل الوعى الوطنى لى ولجيلى عمقت فينا قيم الانتماء لوطن يستحق.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: جامعة القاهرة العلوم السیاسیة

إقرأ أيضاً:

عيد الفطر في مصر.. بين طقوس الاحتفال ومعادلات السياسة والمجتمع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يُعدّ العيد ظاهرة اجتماعية متجذرة في الوجدان المصري، حيث يمثل مساحة زمنية خاصة تحتفي فيها المجتمعات بالتواصل والتكافل وإعادة إحياء الروابط العائلية. في مصر، يأخذ عيد الفطر طابعًا احتفاليًا مشتركًا بين جميع الطبقات الاجتماعية، لكنه يعكس أيضًا الفوارق الطبقية من خلال أنماط الاحتفال المختلفة. فعلى الرغم من أن جميع المصريين يشاركون في الطقوس الأساسية مثل صلاة العيد، وتوزيع العيديات، وتحضير الكعك، إلا أن قدرة الأفراد على الإنفاق والاستمتاع بالعطلة تختلف باختلاف أوضاعهم الاقتصادية. وكما يوضح عالم الاجتماع بيير بورديو في تحليله للتمييز الاجتماعي، فإن الطقوس والعادات التي تبدو موحدة غالبًا ما تحمل في طياتها انعكاسًا للبنية الطبقية، حيث يعبر كل فرد عن هويته الاقتصادية والاجتماعية من خلال أسلوب الاحتفال بالعيد.

العيد ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو مساحة زمنية لتعزيز التلاحم الاجتماعي. فمنذ العصور الإسلامية المبكرة، وحتى يومنا هذا، يشكل العيد فرصة استثنائية للتواصل العائلي، حيث تكثر الزيارات بين الأقارب، وتجتمع العائلات حول موائد الطعام في أجواء ودية. ووفقًا لما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته، فإن المناسبات الاجتماعية الكبرى، مثل الأعياد، تسهم في تجديد روابط العصبية والتضامن بين الجماعات، حيث تخلق لحظات من التوافق والاحتفال الجماعي تُعيد إنتاج قيم المجتمع التقليدية (ابن خلدون، المقدمة، 1377م). وفي السياق المصري، يظل العيد وسيلة لإحياء الصلات العائلية حتى في ظل التفكك الذي تشهده بعض المجتمعات الحضرية الحديثة، حيث تصبح هذه المناسبات فرصة ضرورية لتعويض البعد الاجتماعي الناتج عن ضغوط الحياة المعاصرة.

شهدت الاحتفالات بالعيد في مصر تحولات اجتماعية كبيرة بين الماضي والحاضر، متأثرة بعوامل عدة، أبرزها التحضر والتغيرات الاقتصادية والتكنولوجيا. ففي الماضي، كانت الاحتفالات بالعيد تأخذ طابعًا أكثر تقليدية، حيث يخرج الجميع إلى المساجد والساحات الكبيرة لأداء الصلاة، ثم يتجمعون في البيوت لتناول الإفطار الجماعي وتوزيع العيديات. أما اليوم، فقد أصبحت المظاهر الاستهلاكية تهيمن على الاحتفال، حيث تحولت العيديات إلى تحويلات رقمية عبر التطبيقات البنكية، وبدأت العائلات في استبدال اللقاءات التقليدية بالخروج إلى المولات التجارية والمطاعم الفاخرة. ويرى عالم الاجتماع زيجمونت باومان أن هذه التغيرات تعكس ظاهرة "الحداثة السائلة"، حيث تتغير القيم والأنماط الاجتماعية بسرعة، مما يجعل العيد يتحول من مناسبة اجتماعية للتلاحم إلى موسم استهلاكي تُهيمن عليه الدعاية التجارية.

ورغم هذه التحولات، فإن بعض الطقوس العيدية التقليدية لا تزال صامدة، مما يعكس قدرة المجتمع المصري على الاحتفاظ بجذوره الثقافية مع التكيف مع المستجدات. فعلى سبيل المثال، لا يزال إعداد كعك العيد في المنازل طقسًا أساسيًا في كثير من العائلات، حتى مع انتشار المخابز التي توفره جاهزًا. كما أن ظاهرة توزيع العيديات للأطفال لا تزال مستمرة رغم تغير شكلها، مما يدل على أن العيد ليس مجرد مناسبة زمنية تتغير مع الزمن، بل هو جزء من "الذاكرة الجمعية"، وفقًا لما يصفه موريس هالبواكس، حيث يستمر المجتمع في إعادة إنتاج الطقوس والتقاليد بصيغ مختلفة ولكن بروحها الأصلية نفسها.

البعد التاريخي لاحتفالات العيد في مصر

احتفلت مصر بعيد الفطر عبر العصور المختلفة بطقوس احتفالية مميزة، تتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية لكل عصر. في العصر الفاطمي (909-1171م)، اكتسب العيد طابعًا رسميًا وشعبيًا واسعًا، حيث كان الخليفة الفاطمي يخرج في موكب مهيب من قصره بالقاهرة إلى الجامع الأزهر أو جامع الحاكم بأمر الله، برفقة القضاة وكبار رجال الدولة، بينما تُوزَّع الهدايا والصلات على العامة. كما اهتم الفاطميون بإعداد موائد ضخمة وإضاءة الشوارع بالمشاعل والفوانيس، وهي طقوس تعكس سعي الدولة لتعزيز شعبيتها وسط الجماهير (المقريزي، "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين"). أما في العصر المملوكي (1250-1517م)، فقد استمر الاحتفال بعيد الفطر بأسلوب مشابه، حيث أقيمت الاحتفالات الكبرى في القلعة، وشهدت الميادين العامة سباقات الخيل والعروض العسكرية، ما يعكس التداخل بين الطابع الاحتفالي وإظهار القوة السياسية (ابن إياس، "بدائع الزهور في وقائع الدهور").
لعبت السلطات الحاكمة في مصر دورًا رئيسيًا في صناعة الطقوس الاحتفالية للعيد وتوظيفها سياسيًا، حيث استخدم الحكام هذه المناسبات لتقوية شرعيتهم والتقرب من الشعب. خلال العصر العثماني (1517-1798م)، حرص الولاة العثمانيون على تنظيم احتفالات رسمية تتخللها مواكب ضخمة تجوب شوارع القاهرة، حيث كان العيد فرصة لاستعراض قوة السلطة والتأكيد على استقرار الحكم. كما استُخدمت الأعياد لإصدار قرارات العفو عن بعض المساجين وتوزيع الرواتب الإضافية على الجنود، وهو نهج استمر حتى العصر الحديث، حيث درجت الأنظمة الحاكمة على استغلال العيد لتعزيز شعبيتها عبر تقديم الإعفاءات والعطايا الرمزية (الجبرتي، "عجائب الآثار في التراجم والأخبار").
برزت خلال هذه العصور بعض العادات التي صارت أيقونية في الاحتفال بعيد الفطر، مثل إعداد "كعك العيد"، وهو تقليد يعود إلى العصر الفاطمي، حيث كانت الدولة تشرف على توزيعه على العامة، وكانت تُنقش عليه عبارات مثل "كل واشكر". كما أن الخروج إلى الصلاة في الساحات العامة ظل سمة أساسية للعيد منذ العصر الإسلامي المبكر، لكنه اكتسب أبعادًا سياسية في بعض الفترات، إذ كانت ساحات العيد مكانًا لإظهار الولاء للحاكم عبر الخطابات الرسمية والمواكب الاحتفالية (المقريزي، "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"). أما إعطاء العيدية، فيعود أصلها إلى العصر المملوكي، حيث كان السلاطين يوزعون النقود والهدايا على الجنود وكبار المسؤولين، قبل أن تتحول العيدية إلى عادة اجتماعية متوارثة بين الأسر، تعبيرًا عن الفرح والتواصل بين الأجيال (ابن تغري بردي، "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة").
ومع دخول مصر العصر الحديث، شهدت احتفالات العيد تحولات كبيرة متأثرة بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. في عهد محمد علي باشا (1805-1848م)، أصبحت الاحتفالات أكثر تنظيمًا، مع إصدار قرارات خاصة بالعطلات الرسمية والمواكب السلطانية. ومع انتشار وسائل الإعلام في القرن العشرين، أصبح العيد مناسبة لترويج الخطابات السياسية، حيث استُخدمت الإذاعة والتلفزيون في بث خطب القادة وتحياتهم للمواطنين، كما ازدادت المظاهر التجارية المرتبطة بالعيد، مثل بيع الملابس الجديدة والحلويات، مما جعل العيد يتحول تدريجيًا من مناسبة دينية ذات طابع اجتماعي إلى موسم اقتصادي وثقافي واسع التأثير (رشيد، "التغيرات الاجتماعية في مصر الحديثة").

الدولة والاحتفال بالعيد: 

لطالما استغلت الأنظمة السياسية في مصر عيد الفطر لتعزيز شرعيتها أمام الشعب، حيث تحولت هذه المناسبة الدينية إلى فرصة لإظهار قرب السلطة من المواطنين وترسيخ مفهوم "الحاكم الأبوي". فمنذ العصر المملوكي، كان السلاطين يستغلون العيد لإقامة الاحتفالات الضخمة، والتي تضمنت توزيع الأموال والهدايا على العامة، في محاولة لضمان ولاء الشعب وإظهار سخاء الدولة (ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور). ومع دخول العصر الحديث، استخدمت الدولة العيد كأداة لخلق حالة من التوافق الوطني، فعلى سبيل المثال، كان الملك فؤاد والملك فاروق يحرصان على حضور صلاة العيد وسط الجماهير، والتقاط الصور أثناء توزيع العيديات على الأيتام، وهو نهج استمر لاحقًا مع الرؤساء المصريين في فترات الجمهورية (الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
من أبرز ممارسات الدولة في توظيف العيد سياسيًا تنظيم مواكب العيد الرسمية، والتي بدأت منذ العصور الفاطمية واستمرت بأشكال مختلفة حتى اليوم. في العصر العثماني، كان والي مصر يخرج في موكب رسمي بعد صلاة العيد، ترافقه شخصيات الدولة وأمراء الجيش، كإشارة إلى استقرار السلطة وإظهار قوتها أمام العامة (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار). أما في العصر الحديث، فقد تحولت هذه المواكب إلى زيارات رسمية للمؤسسات الاجتماعية ودور الأيتام والمستشفيات، حيث يسعى القادة إلى تقديم أنفسهم على أنهم قريبون من الشعب، وهي ممارسة واضحة في احتفالات العيد التي تواكبها التغطية الإعلامية المكثفة.
كما يُعدّ الإفراج عن المساجين في العيد أحد أهم الإشارات الرمزية التي تستخدمها السلطة السياسية لإظهار التسامح والقوة في آنٍ واحد. هذه العادة ترجع جذورها إلى العصر الإسلامي المبكر، لكنها أصبحت ممارسة ثابتة في التاريخ المصري الحديث، حيث يصدر رئيس الجمهورية قرارات بالعفو عن بعض المسجونين بمناسبة العيد، خاصة في القضايا ذات الطابع غير السياسي. هذه الخطوة تُستخدم لتعزيز صورة النظام كجهة رحيمة، في محاولة لكسب تأييد فئات اجتماعية مختلفة (رشيد، السياسة والمجتمع في مصر الحديثة). إضافة إلى ذلك، فإن هذه القرارات غالبًا ما تُوظف سياسيًا، حيث تُستخدم لتهدئة الأوضاع الداخلية في فترات التوتر السياسي.
أما الإعلام الرسمي، فقد لعب دورًا محوريًا في إبراز صورة الحاكم القريب من الناس خلال العيد. فمنذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، أصبحت التهاني الرئاسية وبث خطب العيد عبر الإذاعة والتلفزيون تقليدًا ثابتًا، حيث ظهر عبد الناصر أكثر من مرة وهو يؤدي صلاة العيد وسط المواطنين، في رسالة رمزية إلى بساطة الحاكم وانتمائه للشعب. استمر هذا النهج في عهد السادات ومبارك، حيث ركزت وسائل الإعلام على تصوير زيارات المسؤولين لدور الأيتام والمستشفيات، في محاولة لإظهار تلاحم الدولة مع الفئات الأكثر احتياجًا (حسين أمين، الإعلام والسلطة في مصر). وفي العصر الرقمي، باتت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا في إعادة إنتاج هذه الصورة، من خلال نشر صور القادة وهم يؤدون صلاة العيد، أو يهنئون الشعب عبر المنصات الإلكترونية، مما يعكس استمرار استخدام العيد كأداة للترويج السياسي.

التحولات الحديثة في احتفال المصريين بالعيد

تختلف مظاهر الاحتفال بعيد الفطر في مصر بين الريف والحضر، حيث لا تزال القرى تحتفظ بالكثير من العادات التقليدية التي تراجعت في المدن الكبرى. في الريف، يستمر التركيز على التجمعات العائلية الممتدة، وصلاة العيد في الساحات المفتوحة، وتحضير الأطعمة المنزلية مثل الفطير والمخبوزات التقليدية، بينما في المدن أصبح العيد أكثر فردية واستهلاكية، حيث يفضل الكثيرون قضاء العطلة في المولات التجارية أو السفر إلى المنتجعات الساحلية (غالي، التغيرات الاجتماعية في مصر المعاصرة). كما أن الأعياد في الريف لا تزال تحمل بعدًا مجتمعيًا قويًا، حيث تكثر الزيارات بين الجيران، ويتمسك الأهالي بتقاليد مثل زيارة المقابر صباح العيد، وهي طقوس تراجعت في المدن مع تسارع نمط الحياة الحديثة.
أثرت العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ على شكل الاحتفال بالعيد في مصر، حيث تحولت بعض العادات التقليدية إلى ممارسات رقمية. على سبيل المثال، حلت التهاني الإلكترونية ورسائل "واتساب" و"فيسبوك" محل الزيارات العائلية التقليدية، وأصبح تقديم العيديات يتم أحيانًا عبر التحويلات البنكية أو التطبيقات المالية بدلًا من تبادل العملات الورقية، وهو ما يعكس تحول العيد إلى تجربة أكثر رقمية (Castells، The Rise of the Network Society، 1996). كما لعبت وسائل الإعلام الحديثة دورًا في تصدير أنماط احتفالية جديدة، مثل السفر للخارج خلال العيد، أو إقامة حفلات ضخمة للفنانين، مما أوجد فجوة بين الاحتفال التقليدي والممارسات العصرية التي باتت أكثر انتشارًا بين الطبقات الشابة والميسورة.
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، تأثر الاحتفال بالعيد في مصر بشكل واضح، حيث أدى ارتفاع الأسعار إلى تقليص الإنفاق على الملابس الجديدة، والحلوى، والخروجات العائلية، وهو ما انعكس على طقوس العيد التقليدية. تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يشير إلى أن متوسط إنفاق الأسرة المصرية على الكعك وحلويات العيد انخفض بنسبة 30% في السنوات الأخيرة، بسبب ارتفاع تكلفة المواد الخام (التعبئة والإحصاء، تقرير 2024). كما أن ارتفاع أسعار وسائل الترفيه مثل السينما والملاهي جعل الكثير من الأسر تعتمد على الأنشطة الأقل تكلفة، مثل زيارة الحدائق العامة أو مشاهدة الأفلام في المنزل، مما غيّر شكل العيد خاصة لدى الطبقات المتوسطة والفقيرة.
في السياق السياسي، أصبح العيد ساحة للجدل حول دور الدولة في دعم المواطن في ظل الأزمة الاقتصادية. فبينما تُعلن الحكومة عن إجراءات مثل زيادة المرتبات أو تقديم معونات محدودة في هذه الفترة، يرى البعض أنها محاولات رمزية لا تعالج المشكلات الهيكلية في الاقتصاد (المصري اليوم، تقرير اقتصادي 2024). كما أن هناك انتقادات متزايدة لغياب الفعاليات العامة التي كانت تُنظم سابقًا خلال العيد، مثل الحفلات المجانية أو العروض في الميادين الكبرى، حيث يُنظر إلى ذلك على أنه تراجع في دور الدولة في خلق مناخ احتفالي مشترك (الشروق، مقال رأي 2023). وبينما تستمر بعض الأسر في الاحتفال رغم الضغوط، فإن الطابع الاقتصادي والسياسي للعيد بات أكثر حضورًا في النقاشات العامة، مما يعكس كيف أن هذه المناسبة لم تعد مجرد تقليد ديني واجتماعي، بل صارت مرآة للتحولات العميقة التي تمر بها مصر.

رمزية العيد في الحراك الشعبي والمقاومة

على مدار التاريخ، لم يكن العيد مجرد مناسبة دينية واجتماعية، بل تحوّل في بعض الفترات إلى ساحة لإظهار الاحتجاجات والتعبير عن التحولات السياسية، خاصة بعد الثورات أو التغيرات الكبرى في الحكم. في مصر، شهد عيد الفطر بعد ثورة 1919 احتفالات ممزوجة بروح الثورة، حيث خرجت المسيرات الاحتفالية حاملة صور سعد زغلول والهتافات ضد الاحتلال البريطاني، ما جعل العيد يتجاوز كونه مناسبة دينية ليصبح لحظة وطنية جامعة (طه، الحركات الوطنية في مصر الحديثة). بعد ثورة 25 يناير 2011، أخذ العيد بعدًا سياسيًا جديدًا، حيث تحوّلت صلاة العيد في بعض الساحات إلى تجمعات سياسية، رُفعت فيها لافتات تطالب باستكمال الثورة، كما استخدمت بعض القوى السياسية العيد كفرصة لإعادة الحشد الجماهيري (السيد، الثورات العربية: ديناميات التغيير).
لطالما كان العيد موسمًا لعودة الخطابات الوطنية والدينية، حيث تستغل الأنظمة الحاكمة ورجال الدين هذه المناسبة لتوجيه رسائل ذات طابع سياسي أو اجتماعي. في العصور الإسلامية المبكرة، كانت خطب العيد تحمل مضامين تعبوية تدعو للجهاد أو الطاعة للحاكم (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار). ومع تطور الدولة الحديثة، أصبح العيد فرصة لبث خطاب الوحدة الوطنية، ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كانت خطب العيد تركز على القومية العربية والصراع مع إسرائيل، بينما استخدم الرئيس السادات خطب العيد للترويج لسياساته، خاصة بعد انتصار أكتوبر 1973 (هيكل، سنوات الغليان). حتى اليوم، تستمر هذه الممارسة، حيث يُستخدم العيد لتوجيه رسائل سياسية، سواء عبر الخطب الرسمية أو البرامج الإعلامية، لتعزيز صورة السلطة وتعميق الشعور بالانتماء الوطني.
من جهة أخرى، أدركت القوى السياسية أهمية العيد كوسيلة لتجييش الشارع سياسيًا، خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي استغلّت هذه المناسبة لحشد أنصارها وإظهار قوتها. ففي فترة حكم الجماعة لمصر (2012-2013)، نظّمت صلاة العيد في ميادين رئيسية مثل "رابعة العدوية"، حيث رُفعت شعارات دعم الرئيس محمد مرسي، ما أعطى العيد بُعدًا سياسيًا غير مسبوق (عز الدين، الإسلاميون والسلطة في مصر). كما استخدمت الأحزاب السياسية العيد لعقد لقاءات جماهيرية، أو تقديم مساعدات للأسر الفقيرة لتعزيز شعبيتها، وهي ممارسة استمرت حتى بعد سقوط حكم الإخوان، حيث لجأت الجماعة إلى استخدام العيد كفرصة لتنظيم تظاهرات صغيرة في بعض المناطق احتجاجًا على النظام الحاكم.
أما الأنظمة السياسية، فقد تعاملت مع هذه الظاهرة إما بالقمع أو الاحتواء، حيث شهدت بعض أعياد ما بعد الثورات تواجدًا أمنيًا مكثفًا لمنع أي تحركات احتجاجية. في عيد الفطر 2013، وبعد فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، حاول أنصار الإخوان استغلال صلاة العيد لإعادة التظاهر، ما أدى إلى مواجهات أمنية في بعض المحافظات (الأهرام، تقرير عيد الفطر 2013). على الجانب الآخر، استخدمت الدولة العيد لإعادة توجيه المشهد السياسي، عبر بثّ مشاهد الاحتفالات الرسمية، وتنظيم فعاليات وطنية تهدف إلى تعزيز سردية الاستقرار، وهو ما يعكس كيف أن العيد لم يعد مجرد طقس ديني، بل أداة ضمن توازنات القوى في المجال العام المصري.

المستقبل: هل يفقد العيد معناه التقليدي؟

مع تصاعد الأزمات الاقتصادية، باتت قدرة المصريين على الاحتفال بالعيد كما كان سابقًا تتعرض لتحديات متزايدة. فالارتفاع المستمر في الأسعار أدى إلى تراجع مظاهر البذخ التي كانت تميز العيد، مثل شراء الملابس الجديدة، وصناعة كعك العيد في المنازل، والتنزه العائلي في الأماكن العامة. وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2024)، فإن نسبة الإنفاق الأسري على مستلزمات العيد تراجعت بنسبة 25% مقارنة بالسنوات الماضية، ما يعكس ضغوطًا اقتصادية متزايدة تدفع الأسر إلى تقليص احتفالاتها (التعبئة والإحصاء، تقرير 2024). هذا التحول الاقتصادي لا يؤثر فقط على العادات، بل أيضًا على الشعور العام ببهجة العيد، حيث بات يُنظر إليه لدى بعض الفئات كعبء مالي أكثر من كونه مناسبة احتفالية.
ورغم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فإن بعض العادات الأصيلة لا تزال صامدة في مواجهة التحولات الحديثة، مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان العيد يفقد معناه التقليدي أم يتطور بشكل مختلف. العيدية، صلاة العيد، وزيارات الأقارب لا تزال قائمة، حتى لو تغيرت أشكال ممارستها. على سبيل المثال، في ظل الغلاء، لجأت بعض الأسر إلى استبدال الكعك الفاخر بالحلويات البسيطة، أو تقليل قيمة العيديات للأطفال، لكن المبدأ ذاته لم يختفِ (الشافعي، التحولات الثقافية في المجتمع المصري). ورغم انخفاض عدد الزيارات العائلية بسبب تسارع نمط الحياة، فإن المصريين لا يزالون يحرصون على لمّ الشمل خلال العيد، وإن كان ذلك عبر مكالمات الفيديو أو الرسائل النصية، مما يعكس قدرة التقاليد على التكيف مع التغيرات.
لكن في المقابل، هناك مؤشرات على أن العيد أصبح يتحول تدريجيًا إلى "موسم اقتصادي" أكثر من كونه ظاهرة اجتماعية. فمع توسع ثقافة الاستهلاك، باتت الشركات تستغل العيد كفرصة لزيادة المبيعات، من خلال حملات إعلانية مكثفة، وعروض خاصة على الملابس والحلويات والترفيه. وأصبح التركيز على الجانب الاستهلاكي للعيد، مثل التسوق والسفر، أكثر وضوحًا في المدن الكبرى، حيث تنتعش الأسواق والمولات التجارية خلال الأيام السابقة للعيد، مما يجعل الاحتفال بالمناسبة مرتبطًا بالقدرة الشرائية أكثر من ارتباطه بالروح الاجتماعية والتقليدية للعيد (Castells، The Rise of the Network Society، 1996).
في هذا السياق، لعب الإعلام الجديد دورًا رئيسيًا في إعادة صياغة صورة العيد، وتحويله من مناسبة روحية واجتماعية إلى منتج استهلاكي. وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت طريقة تفاعل الناس مع العيد، حيث أصبح التركيز على نشر صور الاحتفال أكثر من معايشته فعليًا. فبدلًا من التجمعات العائلية الكبيرة، بات البعض يهتم بإظهار تجربته الشخصية في العيد عبر "إنستغرام" و"فيسبوك"، مما يعزز النزعة الفردية في الاحتفال (المصري اليوم، تقرير 2023). كما أن انتشار الإعلانات الرقمية والمحتوى الترويجي جعل العيد يُختزل أحيانًا في صورة عروض تسوق وسفر، بدلًا من كونه فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية، مما يثير التساؤل حول مستقبل العيد في ظل هذه التغيرات.
 

مقالات مشابهة

  • منافسات قوية بختام الدورة الرمضانية لطلاب الجامعات.. وبني سويف تتوج باللقب
  • واشنطن بوست: حرب ترامب على الجامعات تضع الولايات المتحدة في خانة الاستبداد
  • عيد الفطر في مصر.. بين طقوس الاحتفال ومعادلات السياسة والمجتمع
  • توأم نجم مان يونايتد السابق يحملان شارة قيادة منتخبين مختلفين
  • جامعة المنوفية تفوز بالمركز الأول في القصة القصيرة والمركز الثاني في المراسل التلفزيوني بمهرجان إبداع "13"
  • من الجامعات لمراكز الاعتقال.. كيف تستهدف أمريكا الطلاب المشاركين في التضامن مع غزة؟
  • بسبب "تأييد حماس".. روبيو يكشف عن ألغاء 300 تأشيرة
  • جدل بين «أمهات مصر» حول مقترح عقد امتحانات الثانوية العامة داخل الجامعات
  • اتحاد أمهات مصر يكشف تخوفات الأهالي من عقد امتحانات الثانوية العامة بالجامعات
  • أعلى معدل منذ سنوات | أهمية تحقيق الموازنة أعلى فائض أولي بلغ 330 مليار جنيه