لا يترك المفكرون الأميركيون أي فرصة تمر دون طرح سؤال متكرر يتعلق بإمكان استمرار وديمومة القيادة الأميركية للعالم. مناسبات مثل ذكرى أحداث 11 سبتمبر، أو مناسبة انتخاب رئيس غريب الأطوار على شاكلة دونالد ترامب، أو وقوع تطورات عالمية من العيار الثقيل مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، أو استمرار الصعود الصيني عسكريا وتكنولوجيا واقتصاديا.

تراجعت ثقة حلفاء واشنطن الأوربيين عبر المحيط الأطلنطي، كما تراجعت ثقة حلفاء واشنطن الآسيويين عبر المحيط الهادي، أثناء سنوات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب. وطالب ترامب هؤلاء الحلفاء بلعب دور أكبر في معادلة العلاقات الإستراتيجية التي تجمعهم بواشنطن، وطالبهم بطريق غير لائقة بدفع ثمن توفير الحماية الأميركية لدولهم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولم يتردد ترامب في انتقاد حلف شمال الأطلسي (الناتو) ولم ير أي ضرورة لوجوده. كما بدأ ترامب خطوات فعلية لسحب آلاف من جنود بلاده المتمركزين في ألمانيا كجزء من الترتيبات العسكرية لحلف الناتو. ودفع اتفاق ترامب مع حركة طالبان إلى الانسحاب من أفغانستان دون التنسيق أو التشاور مع حلفاء واشنطن حتى تلك الدول التي كان لها جنود يقاتلون جنبا إلى جنب مع القوات الأفغانية.

بدأت واشنطن عقب انتهاء حكم ترامب في يناير 2021 في تبني بدء خطوات فعلية لترميم علاقاتها مع حلفائها التقليديين. وعملت، ولاتزال، إدارة بايدن على التنصل عمليا من إرث ترامب المتمثل في مبدأ "أمريكا أولا"، وتبنت سياسة "أميركا عادت" من خلال التركيز على استعادة الدور الأميركي في إدارة الشؤون العالمية من خلال آلية العلاقات والمنظمات الدولية المتعددة الأطراف. وقد انعكس ذلك في تحركات بايدن المبكرة للانضمام مرة أخرى إلى اتفاقيات باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وإعادة تأسيس القيادة الأميركية في قضايا دبلوماسية المناخ. كما أتاحت جائحة كوفيد-19 لبايدن فرصة لإعادة تأكيد الدور القيادي العالمي لأميركا.

في الوقت ذاته، هرع حلفاء أميركا الأوربيون ومن بعدهم الآسيويون إلى واشنطن من أجل التأكيد على أهمية القيادة الأميركية في الساحة الأوربية بعدما بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، واتبعت آسيا نفس السيناريو بعدما بدا واضحا طبيعة الأنشطة الصينية العدائية في منطقة بحر جنوب الصين.

أوروبيا، فقد حفز غزو روسيا لأوكرانيا الإجماع والتماسك داخل الناتو الذي لم نشهده منذ نهاية الحرب الباردة، وتعهد بايدن بالتدخل حال تهديد روسيا الدول الأعضاء بحلف الناتو، وتبنى الرئيس الأميركي إستراتيجية ثلاثية الأبعاد يأمل معها بوقف التصعيد الروسي أو تركه عند حدوده الدنيا. وتشمل هذه الإستراتيجية فرض عقوبات أليمة على روسيا، ودعم الوجود العسكري في دول الجوار الأوكراني عن طريق تمركز آلاف الجنود الأميركيين في بولندا وليتوانيا ورومانيا، وغيرهم، إضافة لتقديم السلاح والدعم العسكري المباشر للقوات الأوكرانية بما زادت قيمته عن 50 مليار دولار حتى الآن. ويؤكد بايدن للشعب الأميركي ضرورة الحفاظ على توازنه المتمثل في تعزيز الدعم الغربي للصراع بأوكرانيا مع تجنب اندلاع حرب مع روسيا القوة النووية، كما احتاج إلى تذكير الأميركيين لماذا يجب الاستمرار في إرسال مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب إلى كييف. وعاد بايدن ليؤكد في كلمته قبل أسبوع أمام الأمم المتحدة أن "روسيا وحدها هي التي تتحمل المسؤولية عن هذه الحرب. وروسيا وحدها هي التي لديها القدرة على إنهاء هذه الحرب على الفور. وروسيا وحدها هي التي تقف عقبة في طريق السلام، لأن ثمن السلام الذي تطلبه روسيا هو استسلام أوكرانيا وأراضي أوكرانيا وأطفال أوكرانيا".

آسيويا، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تبنت بكين نهجا عسكريا ودبلوماسيا أكثر عدوانية في جنوب شرق آسيا. كما أن تكرار بيكين للتحركات العسكرية الاستفزازية بقرب المناطق البحرية التابعة لتايوان، إضافة لرفض جيران بيكين لفرض الهيمنة الصينية عل مناطق وجزر بحر جنوب الصين. كما جدد الصعود والسلوك الصيني المخاوف التاريخية لدى اليابان وكوريا الجنوبية.

وبعد وصول بايدن للحكم، كانت إحدى مهامه الأولى هي البدء في إعادة بناء العلاقات عبر المحيطين الهادئ والهندي. ولجأت الفلبين وفيتنام، كل على حدة، لتطوير علاقات التحالف العسكري مع واشنطن، وسمحت مانيلا لواشنطن باستخدام قواعدها العسكرية، والقيام بتدريبات عسكرية لمواجهة الاستفزازات الصينية. كما رفعت فيتنام علاقتها بواشنطن إلى درجة مستوى الشريك الإستراتيجي الشامل، وهو أعلى مستوى من الشراكة الدولية التي يمكن أن تجمع فيتنام بدولة أجنبية. وقبل ذلك عملت واشنطن على ترتيب لقاء ثلاثي مع اليابان وكوريا الجنوبية فيما وصفه البعض بنواة "الناتو الآسيوي". وقبل ذلك أسست واشنطن لتحالف ثلاثي "أوكوس “ (AUKUS) مع أستراليا والمملكة المتحدة، وأسست كذلك التجمع الرباعي (QUAD) مع الهند، وأستراليا، واليابان.

وقال بايدن في كلمته أمام الأمم المتحدة إنه "عندما يتعلق الأمر بالصين، أريد أن أكون واضحا ومتسقا. نحن نسعى إلى إدارة المنافسة بين بلدينا بشكل مسؤول حتى لا تتحول إلى صراع. لقد قلتُ “نحن نؤيد الحدّ من المخاطر، وليس فك الارتباط مع الصين”. وتعهد بايدن بمقاومة العدوان والترهيب والدفاع عن القواعد العالمية، من حرية الملاحة إلى التحليق الجوي إلى تكافؤ الفرص الاقتصادية التي ساعدت في الحفاظ على الأمن والازدهار لعقود من الزمن.

في النهاية، تعتقد المدرسة الفكرية الأميركية أن "العالم ينتظر من الولايات المتحدة أن تقود العالم وأن تحل مشكلاته، لذا فعليها أن تمهد الطريق لقيادة العالم في العقود المقبلة، وأن حل مشكلات العالم يتطلب مؤهلات وإمكانيات ودورا تستطيع أميركا فقط أن تقوم به".

وعلى الرغم من وجود تيار فكري يؤمن بأن زمن الأفول الأميركي قد بدأ بالفعل، فإن الأزمات العالمية الكبرى تعيد الاعتبار للقيادة الأميركية كما تشهد بذلك القارة الأوربية وجنوب شرق آسيا.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القیادة الأمیرکیة

إقرأ أيضاً:

بايدن يصدر قانوناً لتجنب الإغلاق الحكومي

أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن، السبت، نصاً صادق عليه مجلس الشيوخ، يضمن تمويل الحكومة حتى منتصف مارس (آذار)، وفق ما أعلن البيت الأبيض، في خطوة تجنّب البلاد إغلاقاً حكومياً قبل أيام قليلة من عيد الميلاد.

وبعدما استمر الجدل التشريعي للحظات الأخيرة وسط ضغوط مارسها الرئيس المنتخب دونالد ترامب، صادق المشرّعون في نهاية المطاف في أولى ساعات السبت على النص، متجنّبين بصعوبة إغلاقاً واسع النطاق لإدارات حكومية، قبل عطلة عيد الميلاد.
وصعد ترامب الذي يُنصب رئيساً في 20 يناير (كانون الثاني) من لهجته بين عشية وضحاها، داعياً إلى تعليق النظر في سقف الدين الأمريكي لمدة 5 سنوات، حتى بعد أن رفض أعضاء الجناح اليميني في حزبه تمديده لمدة عامين في اقتراح سابق.
وكتب ترامب في منشور على منصته للتواصل الاجتماعي،: "يتعين على الكونغرس التخلص من سقف الديون السخيف، أو يطيل أمده، ربما حتى 2029. ودون هذا، لن نتوصل لصفقة أبداً". ترامب وماسك يقلبان الطاولة على الكونغرس.. الإغلاق يهدد أمريكا - موقع 24تتجه الحكومة الأمريكية نحو إغلاق جزئي خلال موسم الأعياد بعد تدخل متأخر من الرئيس المنتخب دونالد ترامب وإيلون ماسك أدى إلى إحباط الجهود الرامية إلى تمرير مشروع قانون ضخم لتمويل نهاية العام في الكونغرس. وكانت صفقة سابقة مدعومة من الحزبين قد ألغيت بعد أن أعلن ترامب وحليفه إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، معارضتهما يوم الأربعاء. وأُحبطت صفقة بديلة تم تعديلها على عجل بدعم من ترامب بحصولها على 174 صوتاً مؤيدا مقابل 235 صوتا معارضا مساء أمس الخميس.
وكانت هذه الصفقة المنقحة تحافظ على استمرار الميزانية الاتحادية البالغة نحو 6.2 تريليون دولار عند مستواها الحالي حتى مارس (آذار)، وتقدم 100 مليار دولار في شكل إغاثة من الكوارث. لكنها أسقطت تدابير أخرى لاسترضاء الديمقراطيين الذين ما زالوا يسيطرون على مجلس الشيوخ الأمريكي والبيت الأبيض لأربعة أسابيع قادمة.
وقال البيت الأبيض إن بايدن عارض مشروع القانون المعاد صياغته.
وأثارت المعارك السابقة حول سقف الديون مخاوف الأسواق المالية، لأن عجز الحكومة الأمريكية عن سداد ديونها قد يتسبب في صدمات ائتمانية في أنحاء العالم. وتم تعليق الحد بموجب اتفاق ينتهي من الناحية الفنية في الأول من يناير (كانون الثاني)، لكن المشرعين ربما لا يكونون مضطرين إلى معالجة هذه القضية قبل الربيع.

مقالات مشابهة

  • روسيا تصف بيع الغاز إلى أوروبا بالمعقد مع قرب انتهاء اتفاق مع أوكرانيا
  • قبل وصول ترامب.. بايدن يفي بوعد كبح "موجة الإعدام"
  • واشنطن بوست: مسؤول عراقي يتوقع تمديد بقاء القوات الأميركية
  • روسيا: بيع الغاز إلى أوروبا بات معقدا للغاية
  • زيادة 0.2%.. ارتفاع محدود للذهب في البورصة العالمية والأوقية تسجل 2633 دولارا
  • بايدن: سوف أحضر حفل تنصيب ترامب
  • بايدن يوقع على مشروع قانون التمويل ويجنب إغلاق الحكومة الأميركية
  • العالم يتغير بعد الحرب الأوكرانية: أوروبا قد تخسر أمريكا.. والصين تربح روسيا
  • بايدن يصدر قانوناً لتجنب الإغلاق الحكومي
  • إدارة بايدن توافق على بيع معدات عسكرية لمصر بقيمة خمسة مليارات دولار