حكاية أسرة سودانية عالقة في مصر.. متى ينتهي الوجع؟!
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
"تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"، عبارة عربية شهيرة للشاعر أبي الطيّب المُتنبي، تعكس الواقع الذي نختبره الآن، كل الأشياء خرجت عن إطار التوقعات وحدود المنطق.
تدفع الظروف أحيانًا أشخاصا عاديين، يحلمون بالسلام وراحة البال إلى قسوة في العيش يتحملونها كالأبطال الخارقين، يتحملون أعباء تتجاوز طاقتهم، مستمرين وصامدين.
قد تكون الأزمات مخيفة، ولكنها تظهر أجمل ما فينا.
واندلعت الحربراودتني تلك المشاعر المختلطة الآن وأنا أشرع في كتابة قصة غرائبية وغريبة لعائلة سودانية، تعيش ظروفا طبيعية، يشعرون بالفرح والحزن، كحال كل الأسر، سافروا إلى مصر لحضور حفل زفاف أحد أقربائهم. ولكن، لم يتمكنوا من العودة بسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها السودان الآن.
ماذا يحدث لأسرة سودانية علقت في مصر، ولم تتمكن من العودة، لأنها كانت هنا وقت اندلاع الحرب، وهو عكس كل ما حدث للنازحين السودانيين، فهم سافروا قبل الأزمة.
هذه الحكاية التي تناولها جميع سكان عمارتنا في حي مصر الجديدة العتيق، المكان الذي أسكن فيه، سمعتها أكثر من مرة مما دفعني إلى الكتابة عنها، وقبل ذلك لأن ألتقيها، وأسمع منها هي.
رحبت بي السيدة إيمان، بوجهها البشوش المبتسم، وعرفتني على ابنتيها "نانسي" و"بربارة"، وأخبرتني أن لديها 3 أبناء آخرين مع والدهم في السودان.
جاءت إيمان إلى مصر يوم الرابع عشر من إبريل 2023، أي قبل الحرب السودانية بيوم واحد فقط، لحضور حفل زفاف.
تحكي إيمان: "نظرا لتكاليف السفر لم يأت زوجي وأبنائي الآخرين، كما أننا لم نخطط للبقاء طويلًا في مصر، فقد حجزنا فقط 15ر يوما، لكن القدر كان له رأي آخر."
"في اليوم الثاني الذي تلا وصولنا، سمعنا أخبارا عن اشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم، ثم توالت الأخبار عن وقوع عدد من القتلى، كانت الأحداث متسارعة وصادمة، لم نكن نتوقعها على الإطلاق، فالسودان ليس بحاجه لمزيد من الحروب والصراعات"، تضيف إيمان "نحن من الخرطوم، والوضع في الخرطوم مأساوي، ونظرا للأوضاع وحالة الخوف التى يعيشها الجميع ليلا نهارا، انتقل زوجي ومعه أبنائي للعيش مع أخيه وأبنائه، وفى الرابع والعشرين من سبتمبر استيقظنا على فاجعة، فقد تعرض منزلهم للقصف الجوي وتوفي اثنان من أبناء أخ زوجي، لم تعد البلد آمنة، ولا يستطيعون الذهاب إلى دول الجوار فالأبناء ليس لديهم جوازات سفر"
مصر لم تعد مثل ماضيهالاحظت إيمان اختلافا تدريجيا في مصر، فهي تزورها على فترات متباعدة بلا انقطاع كبير، أشياء تخص المعيشة وتكلفتها، وعادات الناس خاصة الغذائية، تقول: "زرت مصر عدة مرات في فترات مختلفة، الحياة المعيشية فيها كانت أقل من الآن، سعر الدولار الأميركي اليوم بعد التعويم فى البنوك تجاوز الـ30 جنيها، وفي السوق السوداء يصل الى 40 جنيها، وهذه كلفة كبيرة تتطلب مني البحث عن عمل، فالمعيشة وأسعار الشقق السكنية عالية جدا، وعليّ أن أعيل بناتي".
تكرر إيمان جملتها دون أن تعي: "إعالة بناتي، إننا لا نعلم إلى متي سيستمر هذا الوضع".
السودان وما أدراك ما السودان؟شهدت البلاد على مر التاريخ عددا من الانقلابات والصراعات التي أثرت بشكل كبير على استقرارها ونهضتها، منذ استقلالها في الأول من يناير عام 1956 والانقلابات ما انفكت تلاحقها، فبعد استقلالها بعام واحد قام مجموعة من ضباط الجيش بانقلاب ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية، وبينما فشل هذا الانقلاب نجح آخر فى العام 1958 ليكون أول انقلاب عسكري ناجح في تاريخ البلاد.
تبع ذلك الانقلاب انقلابا ناجحا في عام 1969 بقيادة العميد جعفر النميري وقد كان لهذا الانقلاب تأثير كبير، إذ أصبح النميري رئيسا للبلاد واستمر حكمه لمدة 16 عاما، لم تسلم تلك الأعوام أيضا من محاولات الانقلاب، ففي عام 1971 حدث انقلاب عسكري استطاع أن يسيطر فيه الانقلابيون لمدة 3 أيام على الخرطوم حتى استعاد النميري السيطرة مرة أخري، ثم انقلاب عام 1976 قمعه النميري أيضا، لينتهي به المطاف بانقلاب قاده عمر البشير عام 1989، وهو العام الذي تولى فيه الأخير حكم البلاد، حتى عام 2019 بعد أن أطاح به الجيش بسبب الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق فى البلاد.
بطل خارقكان لقاءً قصيرا، ويكاد يكون روتينيا، الذي حدث مع السيدة إيمان ولكن بالنسبة لي، تخاطفتني مشاعر حالمة، ولكن قوية، حلمت بأن تتبدل الأحداث والظروف، وفي نهاية المطاف، يأتي الأمل ليغمر قلوب الجميع.
رغم الصعوبات والتحديات، أؤمن أنها ستنجح، تلك الأسرة السودانية، والسيدة إيمان ستحولها تلك الظروف الصعبة إلى بطل خارق، عليه أن يواجه أزمات شديدة للغاية، ولكنها تتعلق بأساسيات الحياة وضروراتها.
ومن يدري ربما بعد أشهر طويلة من الانتظار والتشوق، تتحسن الأوضاع في السودان، وتفتح الأبواب لعودة ايمان وأبنائها إلى الوطن، يجلسون على الطرف الآخر من النيل، يراقبون سفن الأمل الذاهبة والعائدة من مصر بخيرات الله من بضائع وطعام، ينعمون بلحظة مؤثرة حين يجتمعون بأحبائهم من جديد.
هذه هي النهاية السعيدة التي رسمها عقلي المنهك، وقلبي المتألم.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی مصر
إقرأ أيضاً:
هل تزيد الكوارث البيئية إيمان الناس بالأشباح؟
في أعقاب الكوارث الطبيعية المدمرة من حرائق غابات وأعاصير وفيضانات، والتي تزداد وتيرتها نتيجة التغير المناخي، تشهد ظاهرة قصص الأشباح عودة ملحوظة، وفق مجلة "ناشونال جيوغرافيك".
إذ يبدو أن الصدمة النفسية الناتجة عن هذه الكوارث لا تؤثر فقط على الأجساد والممتلكات، بل تمتد لتغذي إحساسا باللاواقع، يُترجَم أحيانا إلى مشاهدات غريبة وتفسيرات خارقة للطبيعة.
تقول خبيرة الطب النفسي في سياق الكوارث ليزلي هارتلي جيز، والتي عملت مع ناجين من حرائق هاواي عام 2023، إن الحزن العميق يمكن أن يُحدث تغييرات ملموسة في الدماغ.
وتوضح أن "الكثير من الناس يعتقدون أنهم بدؤوا يفقدون صوابهم حين يرون أو يسمعون أحبّاءهم بعد وفاتهم، لكن في الواقع، هذه تجربة شائعة تعكس طريقة العقل في معالجة الفقد".
ويشير علماء النفس إلى أن مثل هذه "الهلوسات الحزينة" هي وسيلة دفاعية لعقل مرهق يحاول التكيف مع الخسارة، وفق المجلة.
وفي لحظات الأزمات، ترتفع معدلات الإيمان بالظواهر الخارقة. ففي المملكة المتحدة، خلال الأشهر الأولى من إغلاق جائحة كوفيد-19، سجل الاتحاد الوطني للروحانيين زيادة بنسبة 325% في طلبات العضوية.
كما أبلغ محققو الخوارق وطاردو الأرواح الشريرة في عدة دول عن قفزات كبيرة في الطلب على خدماتهم بعد كوارث مثل زلزال اليابان عام 2011 أو فيضانات ليبيا وحرائق ماوي عام 2023.
الآليات التي تفسر هذه المشاهدات متشابكة. فعلى المستوى البيولوجي، يؤدي الحزن والقلق إلى إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول، التي بدورها تُضعف النوم وتزيد من حساسية الدماغ للمثيرات، مما قد ينتج عنه هلوسات واقعية للغاية.
إعلانأما في البيئة المحيطة بالكوارث، فإن الظلال الطويلة، الصمت الغريب، والأماكن المهجورة تضفي جوا شبه سريالي يجعل من السهل إسقاط الخوف على المحيط.
وتشير جيز إلى أن بعض الناجين يشعرون أنهم فقدوا إحساسهم بالواقع تماما، قائلة "يشعر البعض بأنهم ليسوا أنفسهم، أو أنهم مجرد أشباح في عالم لم يعد كما كان".
وفي أحيان أخرى، قد تسهم التلوّثات الكيميائية التي تنتشر بعد الكوارث الطبيعية -كالزئبق أو المبيدات- في تعزيز الإحساس بالهذيان أو "رؤية" أشياء غير موجودة.
أبعاد ثقافيةبعيدا عن التفسيرات البيولوجية، يذهب بعض الباحثين إلى أن قصص الأشباح تحمل بعدا ثقافيا واجتماعيا عميقا.
ويقول عالما الأنثروبولوجيا كريستين وتود فانبول إن الأشباح قد تكون رموزا تحذيرية، تُجسد مخاوف المجتمع من الجشع أو الفقد أو التغيير الجذري. وهي، بذلك، ليست فقط للتسلية أو الترويع، بل وسيلة للتكيف الجماعي وبناء سرديات تعزز التماسك المجتمعي.
في بعض الحالات، ترتبط الأشباح بالمكان أكثر من الإنسان. فقد تحدّث سكان جبال الألب عن "أشباح جليدية" بعد اختفاء الأنهار الجليدية التي رافقتهم لعقود، فيما يرى آخرون أن اختفاء المعالم الطبيعية يُولّد حدادا يشبه الحداد على إنسان.
لكن ما يجعل قصص الأشباح أداة فعالة، هو قدرتها على الحفاظ على الذاكرة. فبعد الزلازل المدمرة في تركيا عام 2023، واجه كثير من الناس صعوبة في دفن أحبائهم بسبب حجم الدمار، وهو ما أفضى إلى "صدمات ثانوية"، بحسب منظمة الصحة العالمية.
وفي مثل هذه الظروف، تُصبح القصص وسيلة للحفاظ على الروابط العاطفية، واستمرار الحوار مع الماضي رغم غياب الأجساد.
في اليابان، بعد تسونامي عام 2011، انتشرت ظاهرة "الكايدانكاي"، أي سرد قصص الأشباح في جلسات جماعية، كوسيلة للشفاء الجماعي وتكريم الأرواح الغائبة.
وفي هاواي، كما تقول جيز، شعر أفراد من الجالية اليابانية بالصدمة لما حدث في وطنهم، رغم المسافة، في دلالة على الامتداد العاطفي العابر للحدود للكوارث الجماعية.
إعلانوفي ظل استمرار الكوارث المناخية والبيئية حول العالم، تشير جيز إلى أن العالم قد يشهد المزيد من هذه الظواهر النفسية الخارقة.
وتربط بين ارتفاع القلق الجماعي والمعلومات المضللة والتدهور العقلي لدى بعض الأفراد، مما قد يدفعهم للعودة إلى تفسير العالم من خلال ما هو غير مرئي، موضحة "حين لا نجد تفسيرا منطقيا لمعاناتنا، نبحث عن أجوبة في أماكن أخرى، حتى لو كانت على شكل أشباح".
وهكذا، في زمن تتسارع فيه الكوارث، قد لا تكون الأشباح مجرّد خرافات، بل انعكاسات نفسية عميقة لجراح لم تندمل، ورسائل معلقة بين عالم فقَد استقراره، وآخر نحاول إعادة بنائه بكل ما أوتينا من ذاكرة وخيال، بحسب مجلة ""ناشونال جيوغرافيك".