سماح إدريس... المثقف الذي نفتقد
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
لا تجتمع أساليبُ الممانعة الفكرية وأشكالُ المقاومة، على تعدد ثغورها وجبهاتها، من مقاومة الاحتلال الصهيوني والتطبيع معه إلى مقاومة التغريب والاستعمار على الأرض أو الاستعمار المدسوس في مشاهد السينما الغربية أو المطوي في صفحات الكتب، ولا تنفتح جبهات النضال الثقافي الملتزم (لا المُلزَم) في وجه خطباء الاستسلام والسلطة ومثقفيها، ولا تتكالب قضايا مثل غياب الصحافة العربية الجريئة والمستقلة، أو فسادِ سوق النشر والناشرين، أو فقرِ القراءة أو تهميشِ اللغة العربية وسوءِ استخدامها من قبل بنيها- إلا وأتذكر رجلا واحدا، مثقفا عربيا بعينه، هو الراحل الكبير سماح إدريس الذي نفتقده منذ 25 نوفمبر 2021.
هو كل ذلك المجموع الساخن المتجانس من القضايا العالقة والمتنازع عليها على الحدود بين الثقافة والسياسة، في زمن التخصصات الدقيقة الذي تزدهر فيه صيحةُ المنادين بخصخصة الفن من أجل الفن، والصحافة من أجل الصحافة، والسياسة من أجل السياسة- إلخ! هو ذلك المزيج من النضالات الصغيرة والكبيرة، قَدَمٌ تمشي على غمام الحُلُم والشوق، الشوق إلى كل شيء ذاهب قد يعود، وَقَدَمٌ واثقة على تراب صلبٍ يتشرب التجربة والخبرة من واقع العمل الميداني على أرض شرسة ومتحركة. هو الرجل المتعددُ الصَّنعة، المتفردُ انتماءً وأسلوبا، كاتبا ومناضلا عاش، بل عاش كاتبا مناضلا كما يليق به، وذلك حتى لا تزيد واو العطف من المسافة الدقيقة التي تكاد تمَّحي بين ضفتيه، بين خطه السياسي ومخطوطه المكتوب.
هو سماح سهيل إدريس، الكاتبُ ابن الكاتبين، والمترجمُ ابن المترجمين، عن أم وأب، دون أن يدل هذا النسب العائلي بالضرورة على ما هو أكثر أو أقل من ذلك حين سنمر على اسمه البارد في نقش الرخام، اسمه الذي ما زال ينتج صفاته من تلقاء نفسه ومن سيرة الشخص الشاخص في النص والأثر.
هو سماح إدريس، الأستاذ الذي تربيك كتاباته عن بعد دون أن تراه، دون أن تلتحق به في محاضرة أو درس لتتحلَّق من حوله في جوقة من المريدين، ودون أن يتركك بحاجة لأن ترافقه في حياته صديقا أو رفيق نضال حتى يحق لك أن ترثيه بعد أيام، بعد سنوات من رحيله، كما يرثيه أولئك الذين عرفوه فأحبوهُ واختلفوا معه لا عليه.
هو سماح إدريس التلميذ «السعيدي» في جامعة كولومبيا، والذي لم تتأخر شجاعته مطلقا عن إبداء معارضته الصريحة لأستاذه الكبير إدوارد سعيد؛ وذلك حين رأى التلميذ أن أستاذه، صاحب كتاب «الثقافة والإمبريالية» يخوض في شراكة فنية مع عازف البيانو وقائد الأوركسترا الإسرائيلي دانييل بارينبويم، تلك الشراكة التي اعتبرها سماح نوعا واضحا من التطبيع الثقافي الذي لا يقبل الشك، بينما كان المفكر الفلسطيني الراحل يرى (من خلال سياقه الأمريكي كأكاديمي في جامعة غربية) بأن المستَهدَف الحقيقي من استراتيجية مقاطعة الاحتلال وداعميه هي المؤسسات والكيانات المنظمة أو شبه المنظمة التي تعمل لخدمة أهداف إسرائيلية ضمنية أم مباشرة، مستثنيا من حملة المقاطعة هذه الأشخاص الأفراد، خاصة أولئك العاملين بالثقافة، التي -على الرغم من خطورتها السياسية- يمكن لها أن تكون وسيطا بالغ الأثر في اقتراح وجهة نظر إنسانية تساهم في صناعة إجابة مشتركة عن السؤال الفلسطيني.
نفتقد سماح إدريس المثقف «حامل السُّلَّم بالعرض» في سوق الكتابة التي تعجُّ بخريجي مدارس «الحداثة» و«الواقعية» و«العقلانية» الذين توهموا في عز النقمة على الماضي بأن المثال، أو القدوة، ليس إلا رمزا تقليديا، تراثا لا بدَّ من نقض شرعيته وتحطيم صنمه تحت شعار «قتل الأب»، دون أن يتريث هؤلاء فيميزوا «بأن المثالَ شيء، والصنمَ شيءٌ آخر. المثال قنديلٌ يعينُنا على تلمّس الطريق، ويجنّبُنا بعضَ العثرات؛ أما الصنم فيزيد من عثراتنا ويقف حائلا دون تقدمنا» كما يكتب سماح في رثائه لرفيق دربه، ماهر اليماني، الذي رحل عن عالمنا قبل نحو عامين من رحيل سماح.
نفتقد سماح إدريس، هذه الأيام بالأخصّ، لأنه المثقف الذي ظلَّ يذكرنا بأن حقوقنا القومية تنبع أولا من حقوقنا الوطنية في أوطاننا الآمنة، أينما كنَّا في الوطن العربي الكبير. نفتقده لأنه المثقف الذي ظل يذكرنا بما نحن، غير الفلسطينيين، في حاجة إلى ذكراه الآن أكثر من أي وقت مضى، يذكرنا بأننا «لا نربّح جميلةً» لأحد حين نقرر الدفاع عن فلسطين وحرية شعبها، لأن الدفاع عن الحق الفلسطيني هو دفاع عن الذات قبل وبعد كل شيء- نفتقده لأن لا أحد سواه سيذكرنا به.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: دون أن
إقرأ أيضاً:
صحف عالمية تغادر منصة إكس.. ما الذي حدث؟
القرارات الأخيرة التي اتخذتها وسائل إعلام كبرى مثل "الغارديان" و"لا فانغوارديا"، وأخرى متخصصة مثل "سيكس تك غايد"، بمغادرة منصة إكس، سلطت الضوء على معضلة جديدة تواجه الإعلام العالمي: هل عليهم البقاء على منصة شعبية أصبحت مصدرًا رئيسيًا للأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية للحفاظ على أهميتهم؟ أم يغادرونها حفاظًا على مسؤولياتهم الأخلاقية؟
كانت منصة إكس (المعروفة سابقًا باسم تويتر) هي المكان المفضل لأي نقاش عالمي، لكنها شهدت تحولًا كبيرًا في سمعتها تحت قيادة الملياردير الجنوب أفريقي إيلون ماسك، الذي يصف نفسه بأنه "مدافع مطلق عن حرية التعبير".
هذا التدهور الأخلاقي لمنصة إكس تفاقم بشكل كبير مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، إذ أعلن ماسك عن دعمه الواضح لدونالد ترامب وحركة "اجعل أميركا عظيمة مجددًا"، مما حول المنصة إلى منبر لنشر الكراهية، العنصرية، وكراهية الأجانب.
مع بروز حسابات النازيين الجدد والقوميين البيض، وظهور السلوكيات العنصرية، وعمليات الكشف التعسفي عن البيانات الشخصية (doxxing)، وغيرها من الإساءة اليومية على المنصة، قرر العديد من وسائل الإعلام – بالإضافة إلى ملايين المستخدمين – مغادرة إكس بشكل نهائي. بالنسبة لهم، فإن مغادرة إكس كانت تعبيرًا واضحًا عن موقف أخلاقي ضد العنصرية والكراهية، وضد إساءة استخدام منصة كانت تُعتبر في السابق الساحة العامة العالمية.
إعلانولكن، هل يمثل انتقال وسائل الإعلام إلى بدائل، مثل: "بلوسكاي" حلًا حقيقيًا؟ أم أن ذلك يخلق مشكلات جديدة، مثل الفقاعات الأيديولوجية، والخسائر المالية، وتراجع التأثير؟
بالنسبة للكثيرين، فإن البقاء على إكس يُعتبر بمثابة موافقة ضمنية على الاتجاه الذي اتخذته المنصة تحت قيادة ماسك. بالنسبة لبعض وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تتفاخر بهويتها التقدمية وقيمها الصحفية، فإن الانتماء إلى منصة مرتبطة بالجدل وبدعم ترامب أمر غير مقبول.
ولكن لا تزال منصة إكس تمتلك جمهورًا عالميًا واسعًا لا يمكن لأي منصة اجتماعية أخرى أن تضاهيه. قدرتها على الوصول إلى جمهور عالمي وتعزيز الرسائل لا يمكن تجاهلها. المغادرة الكاملة قد تعني قطع الصلة مع جمهور ضخم ما زال يعتمد على المنصة للحصول على الأخبار، مما قد يترك فراغًا يمكن أن تملأه مصادر أقل مصداقية أو حتى ماكينات الأخبار الكاذبة.
بالنسبة لأولئك الذين قرروا مغادرة إكس، ظهرت منصة "بلوسكاي" كخيار جذاب. هذه المنصة اللامركزية تقدم بيئة تكون فيها الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية أقل انتشارًا. هيكلها يَعِد بحوارات أكثر صحة وتوافقًا مع القيم. النقطة ليست أن "بلوسكاي" خالية تمامًا من الأخبار الزائفة أو خطاب الكراهية، ولكن طريقة عملها تقلل من انتشار هذا المحتوى بدلًا من الترويج له. بالإضافة إلى ذلك، توفر أدوات إضافية للمستخدمين للتحكم بشكل أفضل في المعلومات والمحتوى الذي يستهلكونه.
لكن "بلوسكاي" ليست خالية من العيوب. قاعدة مستخدميها أصغر بكثير، ونطاقها الجغرافي أكثر اعتدالًا مقارنة بـ "إكس". كما أن تصميمها، بحسب النقاد، قد يُخاطر بخلق فقاعات أيديولوجية: إذا أصبحت "بلوسكاي" ملاذًا للمستخدمين الليبراليين والصحفيين بشكل أساسي، فقد تؤدي إلى تكرار نفس الديناميكيات المعزولة التي يقول النقاد إنها تؤثر على المنصات البديلة الأخرى.
إعلانولكن، ينهار هذا النقد عندما نفكر في البديل الذي تقدمه إكس لـ"فقاعات" بلوسكاي المزعومة: منصة مفتوحة لجميع الأيديولوجيات، لكنها مدفوعة بالكراهية.
كما كتب الصحفي والأستاذ مارسيلو سواريز، "إكس ليست ساحة عامة، إنها مركز تسوق. لا توجد مناقشات حقيقية في مركز تسوق".
بخلاف إكس، التي تعتمد على إشعال الصراعات لزيادة التفاعل، تتيح بلوسكاي للمستخدمين السيطرة على تجربتهم، واختيار ما يظهر على صفحاتهم الخاصة دون تدخل خوارزمي. إذا اختار أحدهم العيش في "فقاعة"، فهذا قرار شخصي، وليس نتيجة لفرض هيكلي.
وفي المقابل، فإن بديل إكس للفقاعات يستبدل الاتصال بالعدائية، مما يحول المنصة إلى ساحة معارك بدلًا من مساحة للحوار.
هناك حجج أخرى ضد الانتقال الجماعي من إكس إلى "بلوسكاي". كما لاحظت الصحفية صوفيا سميث غالر على LinkedIn، فإن بلوسكاي منصة صُممت لتلبية احتياجات الصحفيين أكثر من جماهيرهم.
تذكرنا هذه الديناميكية بالعصر الذي كان فيه الصحفيون يهيمنون على منظومة تويتر، حيث كانوا يتفاعلون أساسًا مع بعضهم البعض. هذه الديناميكية، على الرغم من أنها مريحة للصحفيين، قد لا تترجم إلى تفاعل ذي مغزى مع الجمهور في عالم يتجه أكثر نحو المنصات المعتمدة على الفيديو مثل تيك توك، يوتيوب، وإنستغرام.
فتح حساب على بلوسكاي قد يكون إيجابيًا للصحفيين الذين يمكنهم التفاعل مع زملاء ذوي فكر مشابه دون مواجهة المضايقات من النازيين الجدد أو منظري المؤامرة. ولكن، هل توفر بديلًا حقيقيًا لـ "إكس" بالنسبة للمنظمات الإعلامية التي تحتاج إلى مشاركة محتواها مع جمهور أوسع وأكثر تنوعًا؟
ترك منصة إكس له أيضًا تداعيات عملية ومالية على وسائل الإعلام. لا تزال منصة ماسك تُعد مصدرًا رئيسيًا للإيرادات الإعلانية. قاعدة إكس الجماهيرية الواسعة تجعلها منصة حيوية لجذب الزوار إلى المواقع الإخبارية وجذب المعلنين.
إعلانالتخلي عنها قد يؤدي إلى انخفاض التفاعل مع الجمهور، مما يؤثر على الإيرادات. أما "بلوسكاي"، و"ثريدز"، والمنصات البديلة الأخرى، فلا تزال في مراحلها المبكرة. قاعدتها الجماهيرية الصغرى، وإمكاناتها الإعلانية المحدودة، تجعلها أقل جاذبية للمؤسسات التي تعتمد على الانتشار الواسع لدعم عملياتها.
لحسن الحظ، فإن تصرفات ماسك على إكس، وعلى الساحة السياسية العالمية، تدفع الكثيرين بعيدًا عن المنصة. العديد من هؤلاء يجدون ملاذًا على بلوسكاي، مما يعني أن هذه المنصة قد تصبح يومًا ما مفيدة ومربحة مثل إكس بالنسبة لوسائل الإعلام. إذا اكتمل الخروج من إكس، وغادر كل من يعترض على تمرير الأخبار الزائفة والدعاية والكراهية كأخبار، فلن يكون لدى وسائل الإعلام الجادة أي سبب للبقاء هناك.
الخروج من إكس يعكس أكثر من مجرد تغيير في إستراتيجية وسائل الإعلام على وسائل التواصل الاجتماعي. إنه انعكاس للتحديات الأوسع التي تواجه الصحافة في العصر الرقمي.
وبينما تقدم منصات مثل "بلوسكاي" بصيص أمل، إلا أنها ليست الحل لجميع المشكلات التي تواجهها الصحافة اليوم. يتطلب الطريق إلى الأمام توازنًا دقيقًا: احتضان الابتكار دون التضحية بالقيم الأساسية للصحافة، والانضمام إلى شبكات اجتماعية أقل سمية، دون التخلي عن الجمهور.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية