بينما الأوروبيون قد حسموا العلاقة بين النص والعقل، منذ أكثر من قرنين أو ربما أكثر في بعض الدول الأوروبية، إلا أن العقل العربي ما يزال يتراوح بين إعمال العقل بظاهر النص، وبين تفسير النص تفسيرًا لغويًا لا يتجاوز المعنى الظاهر للنص، وهو ما يفسر حالة الارتباك الواضح بين الدين والحياة المعاصرة بكل إنجازاتها، يبدو هذا واضحًا من خلال خطبائنا في المساجد والمنتديات العامة، أو ما يكتبه الكثيرون في قضايا تتعلق بفقه الحياة، وجميعهم يذهب إلى استعادة نصوص قيلت في زمن غير أزماننا وفي سياقات تاريخية متعددة، والقليلون جدًا يحاولون إعمال العقل في نصوص قد تبدو في ظاهرها أنها تتعارض مع الدين، وغالبًا ما تقوم الدنيا ولا تقعد، وقد يصل الأمر أحيانًا لدرجة اتهام من يتجاوزون المعنى الظاهر للنص بأنهم مارقون على الدين، وخارجون على رأي الجماعة.
قضايا كثيرة قد استحدثت في حياتنا المعاصرة، من قبيل نقل الأعضاء، وفوائد البنوك أو الاقتراب من كتب التراث، حتى في محاولة تحقيق ما ورد بما سُمي بالكتب الصحاح من أحاديث رأى بعض المفكرين أن الكثير منها يتعارض مع المصالح المرسلة، التي تستهدف الخير والنماء، وليس من العقل في شيء أن نقيم صراعًا بين النص والعقل، بينما القرآن الكريم يحرضنا على إعمال عقولنا في كثير من الآيات القرآنية، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قالها صراحة (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ورغم ذلك فما يزال الكثيرون من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يكفّرون بعضهم البعض، ويشعلون الحروب ويجيشون الجيوش تحت مسميات متعددة، من قبيل تنظيم القاعدة وداعش وغيرهم، ولعل ما يحدث في إفريقيا من حروب أججتها الجماعات المتطرفة، والاعتداء على الأوروبيين في عقر دارهم كل ذلك يعد بمثابة الخطر الحقيقي على الإسلام، بعد أن اجتزؤوا من القرآن نصوصًا لا يمكن فهم معانيها إلا في ضوء القراءة المكتملة للقرآن الكريم، فضلًا عن الأحاديث النبوية التي يستدلون بها، بينما لم تبذل مجامعنا العلمية جهدًا في تحقيقها والتأكد من مصداقيتها، وحينما تناقش الأمر مع بعضهم يقولون بأن القضية قد حُسمت منذ فترة مبكرة من العصر الإسلامي، ويؤكدون على صحيح ما قال به الأقدمون، الذين لم يتركوا شيئا للمحدَثين إلا حققوه ودرسوه، من قبيل إعمال علم الجرح والتعديل.
لا يلتفت هؤلاء إلى أن كل كتب الأحاديث قد قيلت بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بقرنين أو أكثر، وأن قضية الجرح والتعديل التي قال بها أنصار الاعتصام بالنص قضية في حاجة إلى دراسة على ضوء المناهج الجديدة، وخصوصًا فيما يتعلق بتسلسل الرواة وقدر معرفتهم، بل ومصداقيتهم وواقعهم السياسي وبيئتهم الاجتماعية، ونحن لا نقول أبدًا بتجاهل الصحيح مما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك أمور لا مرجعية فيها إلا للسنة الصحيحة، إلا أن الدعوة إلى إعادة تحقيق ما قيل عن رسول الله قضية ليست دينية فقط ولكنها قضية مجتمعية تستحق العناية والبحث والدراسة وفق التطور الكبير الذي طرأ على المناهج العلمية المعاصرة، فضلًا عن معرفة المقاصد الشرعية للإسلام الذي يستهدف الخير - ليس للمسلمين فقط - وإنما لكل البشرية، والتاريخ الإسلامي في مجمله كان بمثابة عثرات أقحم فيها المتشددون نصوصًا حالت بين الدين ومتطلبات الحياة.
لم يلتفت الكثيرون إلى خطر انقسام العالم الإسلامي بين جماعات متناحرة، كل فريق يدعي بأنه يستمد شرعيته من أحاديث نبوية معتبرين أنها المرجعية الصحيحة بعد كتاب الله، بل عدّها البعض متساوية في مصداقيتها مع القرآن الكريم، وهكذا دخل المسلمون في حرب لم تتوقف إلى اليوم، بينما الإسلام في جوهره لا يعرف التمذهب ولا التحزب، وما حدث في عالمنا الإسلامي ما هو إلا صراع ربما في معظمه سياسيًا، دفعت الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية الثمن باهظا من جراء هذه الصراعات المذهبية، التي باعدت بين الإسلام ومقاصده العامة.
غالبًا ما يسأل البعض: لماذا تقدم الذين تقدموا وتخلف الذين تخلفوا؟ وهي قضية كتب عنها الكثيرون، وجميعهم قالوا بأن الذين تقدموا قد أعملوا الفكر ووضعوا خطوطًا فاصلة بين الدين والحياة، ولا يعني هذا إبعاد الدين عن الحياة وإنما يبقى الدين بمثابة طاقة هائلة بقيمه ومقاصده العامة، التي تستهدف النماء والرخاء في الحرية والعمران وصولًا إلى حرية البحث وإعمال العقل، والأخذ بكل ما يحقق إقامة مجتمعات مستقرة، قادرة على التفاعل مع مستجدات العصر بعقول منفتحة ونفوس راضية.
ترك القرآن الكريم مساحة رحبة للبشر، لكي يختاروا حياتهم ويختاروا حاكمهم وفق ظروفهم ومقتضيات عصرهم، وترك لهم الحرية في اختيار طرق معاشهم، ولم يضع قيدًا على حرية القول والنقاش والحوار وفق القواعد القانونية لكل مجتمع، ولم يضيق الإسلام الحياة على الناس بمذهب بذاته، فلم يعرف المسلمون الأحزاب الدينية ولا المذهبية إلا حينما أطلت السياسة برأسها، وراح كل فريق يقول بأحاديث تعلي من رأي جماعته، وهكذا انقسم المسلمون شيعا وجماعات، واشتعلت الحروب التي أريقت فيها الدماء، ووظف فيها الدين في غير موضعه.
في الوقت الذي خرجت فيه أوروبا من عباءة الدين منذ فترة مبكرة من القرن السادس عشر، بينما راح المسلمون يقيمون دويلاتهم على أسس مذهبية ضيقة، ولم يلتفتوا إلى أن الحياة أبقى من الموت، وأن البناء أعظم من الهدم، وأن هناك قواعد واضحة للذين تقدموا، وأخرى حزبية ضيقة للذين تعثروا وفقدوا سبيلهم نحو التقدم (إنه العقل ولا شيء غير العقل)!
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية يوضح حكم الشريعة في تعطيل العقل عن الفكر والتأمُّل
استضاف صالون الحداد الثقافي عددًا من المفكرين، وعلى رأسهم ضيف الشرف الدكتور نظير محمد عيَّاد مفتي الجمهورية ورئيسُ الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، وألقى كلمةً عن الفتاوى وتحصين الأفكار.
وفي كلمته عن الفتاوى وتحصين الأفكار تناول المفتي عددًا من المحاور كان من أبرزها، الحديث عن قيمة العقل في الإسلام، وأبرز من خلال هذا المحور حديث الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية، تميُّز الخطاب القرآني في تعامله مع العقل؛ مقارنةً بغيره من النصوص الدينية الكبرى، وذكره في سياقات تُعلِي من قدره وقيمته، وتُوجب العمل به، دون أن تكون الإشارة إليه عابرةً أو مُقتضبة، ثم استشهد بعدد من الآيات التي توضح إبرازَ المنهج الإسلامي في تشريعاته الارتباطَ الجوهريَّ بين العقل والتكليف.
كما تحدث عن وظائف العقل في الشريعة الإسلامية مبينًا أن الإسلام قد حدَّد للعقلِ مساراتٍ جوهريةً تُعززُ مناعتَه ضدَّ الانحراف، بدءًا من التفكُّر في الكون، مرورًا بفقه النصوص، ووصولًا إلى تحرير النفس من التبعيات غير العقلانية، وتَبرزُ هنا أهميةُ الفتوى الواعية في ترسيخ هذه الوظائف، عبر منهجيةٍ تجمع بين النص الشرعي وواقع العصر، لتحصين العقل من إفراط التشديد أو تفريط التساهل، وتوجيهه نحو فهمٍ رشيدٍ يحقق مقاصدَ الشريعة.
وفي المحور الثالث أبرز المفتي، حكم الشريعة في تعطيل العقل عن الفكر والتأمُّل في الشرع أو العالم مبينًا أن الحواس تعدُّ أدواتٍ رئيسيةً للإدراك، وقد أودعها الله في الإنسان لحكمةٍ عظيمة، وهي مساعدته على فهم العالم من حوله، واستيعاب الحقائق التي توصله إلى الإيمان واليقين.
ومن هنا، فإن تعطيل أي حاسة من الحواس -كالسمع أو البصر- يُعدُّ إفسادًا للحكمة التي خلقها الله من أجلها؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقصٍ في الإدراك وتشويهٍ للوعي.
واشار إلى أنه إذا كان تعطيل الحواس البدنية أمرًا مرفوضًا عقلًا وشرعًا، فإن تعطيل العقل -وهو أرقى أدوات الفهم والإدراك- يكون أشد خطورةً وأعظم ضررًا. فالعقل هو الميزان الذي وهبه الله للإنسان ليفكر به، ويميِّز بين الحق والباطل، ويستدل به على وجود الخالق وقدرته. ومن يُعطل عقله أو يُعرض عن التفكير السليم، فقد أخلَّ بأمانة الله فيه، وضيَّعَ أعظمَ وسيلة للعلم والهداية.
ثم انتقل في المحور الرابع إلى ذكر نماذج تاريخية، توضِّح كيفية ومدى تأثير الفتوى على العقل والفكر.
وبيَّن في المحور الخامس تأثير الفتوى في الفكر والعقل الفردي والجماعي وذلك من خلال (فقه) الخوارج كنموذج على ذلك، موضحًا أن الفتوى الدينية تعد جسرًا بين النص الشرعي والواقع الإنساني، لكنها قد تتحول أحيانًا إلى سلاح ذي حدَّيْن: تُرشد إن استندت إلى العقل والعدل، أو تُضلَّ إن خضعت للعاطفة والظن. وقصة الخوارج مع عبيدة بن هلال تقدم نموذجًا حيًّا لتداخُل الفتوى بالعقل الجمعي، وكيف يمكن لرد فعل عاطفي أن يُحدث تحولًا جذريًّا في الفكر والسلوك دون مساءلةٍ عقلانية.
ثم انتقل أخيرًا إلى بيان كيف يمكن للفتوى الدينية أن تُحصِّن الأفكار من الإفراط والتفريط، من التسيُّب والتشدُّد؟ لافتًا إلى أن ذلك يتحقق بعدة أمور من أهمها: التأسيس على مقاصد الشريعة وتجنُّب النظرة التجزيئية، وتوظيف القواعد الفقهية الكلية كضابط منهجي، واعتماد مبدأ سدِّ الذرائع وفتحها، وتفعيل الاجتهاد الجماعي المؤسسي، واشتراط الورع والأهلية في المفتي، ومراعاة العرف واختلاف الزمان والمكان.