رسالة محبة إلى أهلنا في السودان
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
حمد الحضرمي **
ما يحدث مع إخواننا وأهلنا في السودان من حرب وقتال واقتتال فيما بينهم، لهو أمر محزن ومُؤلم ويُدمي القلب؛ لأنه قتال لأجل السُلطة والكراسي، وقد دمَّر البلاد وقتل الأبرياء وشرَّد الناس، وجعلهم يعيشون في خوف وقلق، وغاب الأمن والأمان، وعلينا جميعًا أن نكون مع إخواننا وأهلنا في السودان مُصلحين، لأنَّ الإصلاح بين الناس منظومة دينية واجتماعية سديدة، يقول المولى عزَّ وجلَّ "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" (الحجرات: 9) فإن حدث القتال ونشب بين فرقتين من المؤمنين فينبغي الإصلاح بينهما، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، حيث الأخوة الإسلامية والمودة والإخاء الذي يجمعهم كإخوة في الله مؤمنين.
ومهمة الإصلاح يضطلع بها أصحاب العقول الواعية والصدور الواسعة وأهل الحكمة والبصيرة القادرون على الحل والربط، ولا يضطلع بها أصحاب العقول الجاهلة والصدور الضيقة، وأهل الفتنة والعصبية، المتهورون السفهاء، أصحاب المصالح الشخصية، من أجل متاع الدنيا الزائل. فلابد من إبعاد سماسرة الحروب والقتال، الذين يستثمرون الأموال في سفك دماء الأبرياء، ولا يقيمون أية حُرمة للقيم والأخلاق الإنسانية العظيمة، والوضع والحال مع إخواننا وأهلنا في السودان الجريح يحتاج إلى شخصيات لديها إمكانيات عالية من الحلم والصبر والحكمة والبصيرة وفن التفاوض والحوار والإصلاح بين النَّاس.
ولا شك أن المؤمنين قد تنشأ بينهم خلافات ونزاعات وحروب، فهم ليسوا ملائكة ولا معصومين، ولكن الأمر يتطلب عندما يحدث النزاع أو القتال بين المؤمنين التدخل للإصلاح بينهم من أجل استئصال الفتنة وتنقية القلوب من الضغائن، والرجوع إلى الحق والفضيلة والبعد عن التمادي في الظلم والباطل والجور، وعدم فتح المجال لشياطين الإنس والجن، الذين غايتهم الدمار والخراب والضياع والفتنة والقتال، حتى تعود الأمور إلى نصابها الصحيح، ويرجع الإخوة في السودان لسابق عهدهم إخوة يحب بعضهم البعض ويحرص كل شخص منهم على الآخر. وعلينا الإصلاح بين إخوتنا وأهلنا في السودان، ولا نتذرع عن فعل الخير لأي سبب من الأسباب، وصدق الشاعر إذ يقول:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وعلى أصحاب الحكمة والبصيرة من الدول الشقيقة والصديقة التدخل للإصلاح بين القائدين البرهان وحميدتي، من أجل رأب الصدع بينهما، وتصفية الأجواء ونزع الحقد من الصدور، وتقوية الروابط بينهما، ونشر الفضائل وتجاهل العيوب، لأن الناس بصفة عامة تقع في الأخطاء والخطايا، وعلينا النظر وتعميم الجانب الإيجابي ورؤية النصف المليء من الكأس لا النصف الفارغ، حتى نصل لحل يوقف القتال بين إخواننا وأهلنا في السودان "والصلح خير"؛ لأنَّ الإصلاح بين فرقتين متخاصمتين، غايته تقوية للمجتمع الإسلامي، وإشاعة جو الأمن والأمان والسلم الاجتماعي، وهو عمل إنساني عظيم.
وعلينا تقوية جبهتنا الداخلية وتماسك مجتمعاتنا بكل مكوناتها وترك النزاع والخصام والفرقة والشقاق، وهذا لن يتحقق إلا باجتماع كلمتنا وتوحيد صفوفنا واتحادنا، وأن يكون الاتحاد قائمًا على العدل والعدالة والإنصاف والحق والفضيلة والقيم النبيلة، ليتحقق التقدم والازدهار والنهضة والتنمية والعمران، قال تعالى "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103).
إنَّ الفرقة هلاك، والجماعة نجاة، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتمسكوا بالقرآن والسنة ويجتمعوا عليهما ونهاهم عن التفرق والنزاع، فالتمسك بحبل الله هو سبب للنجاة والسلامة، والموصل إلى رضا الله، وعلينا الاعتصام به ولزوم جماعة المسلمين، وهذا اللزوم هو الوسيلة الفعالة لتقوية المجتمع الإسلامي وبناء الفرد والجماعة على قاعدة صلبة، والجماعة هي سفينة النجاة أما الفرقة فهي التهلكة الأكيدة، قال الله تعالى "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (آل عمران: 105).
أيها الإخوة في السودان الشقيق: أنتم شعب طيب كريم، وإخوة في النسب والقرابة وبينكم صلة رحم قد رعاها الإسلام لمكانتها السامية الجليلة، فيا أحبابنا وأهلنا في السودان عليكم الاعتصام بالله، "وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج: 78)؛ فالاعتصام بالله نجاة في الدنيا والآخرة، ويتوجب إغاثة المتضرر، لأن تقديم العون والنصرة لمن يحتاج إليها سلوك إسلامي أصيل وخلق رفيع تقتضيه الأخوة الصادقة حتى يعيش أهلنا في السودان طيبين كرام، مرفوعي الهامة، واثقين من الله ثم من أنفسهم بأن الخير قادم، ومحبتهم للسودان وأهلها هي الهدف والدافع. وإذا سقطت الحواجز النفسية وانبسطت النفوس وخلصت النية في المؤاخاة والتآخي تحل المودة محل القطيعة والمحبة محل الكراهية، وتنحل جميع المشكلات ليعيش السودان وأهله في سعادة ومحبة.
ومن منَّا لا يحب السودان وأهله الطيبين الكرام، أصحاب القلوب البيضاء، إنها رسالة محبة أبعثها من القلب من سلطنة عُمان، سلطنة المحبة والصداقة والسلام، أبعثها إلى أهلنا في السودان، وأقول لكم بكل صدق ومحبة أوقفوا القتال والسير في الاتجاهات التعصبية الخاطئة التي تعشعش في أوساط بعض القادة والمسؤولين أصحاب القرار وهم في مكابرة من أمرهم، ولا تسمحوا لأصحاب الأفكار الهدامة بتشويه سمعة السودان وشعبه الأصيل، ووحدوا صفوفكم وكلمتكم، وكونوا يدًا واحدة، ولا تلتفتوا إلى المشككين والجبناء والمخربين وأصحاب النعرات الجاهلية، وتخلصوا من نقاط الخلاف والضعف والوهن والثغرات، التي تتسبب في عدم اجتماعكم وتصالحكم، وتجاهلوا الذين لا يريدون إلا الخراب والدمار للسودان وشعبه، وهم لأهل السودان غير محبين، لأنَّ قلوبهم سوداء، وتعصبهم يعميهم عن اكتشاف الحقائق، ولا يحبون ولا يرغبون أن يعيش السودان وأهله في محبة وسلام.
أوقفوا القتال من اليوم، واجلسوا على طاولة الحوار من الغد، ولا تسمعوا للذين لا يريدون الخير لكم، ولا تسمحوا للذين يريدون وقوع الفتنة بينكم، وراجعوا مواقفكم وعالجوا الأخطاء السابقة وانتصروا على المصالح الشخصية، واتركوا الماضي القاسي والتعصب والعصبية العمياء، وانظروا بتفاؤل إلى القادم والمستقبل وسيروا إلى الأمام، وعليكم باختيار الرجال المخلصين أصحاب الحكمة والبصيرة؛ لأنَّ استمرار القتال بينكم عواقبه وخيمة، وتتزايد أخطاره ومضاعفاته يومًا بعد يوم. ولا تتركوا فرصة اليوم تمر عليكم دون الجلوس والحوار وترك التعصب للجماعات، وتسامحوا وحققوا العدل والعدالة ولا تستجيبوا لأصحاب القلوب القاسية وأمراء الحروب والدمار والخراب، وانحازوا إلى السودان دولة وشعبًا.
وتمسكوا- يا إخواننا وأهلنا في السودان- بالقيم والأفعال الحميدة النبيلة، وحاربوا الظلم والباطل والجهل والتخلف، ولا تسقطوا في أوحال الإثم والشقاء والتعصب والعصبية، ولا تأخذكم حمية الجاهلية الأولى واحذروا منها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث "ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية"، وابتعدوا عن الجماعات العنصرية العرقية، لأنها وثيقة الصلة بالتعصب والعصبية، وعليكم نشر المحبة بينكم ومبادئ الشورى والقيم الأخلاقية والإنسانية والتسامح الاجتماعي، وتصافحوا وتسامحوا بمحبة وود لتعيش السودان دولة مستقرة، ويعيش شعبه وأهله في أمن وأمان ومحبة وسلام.
علينا جميعًا التوجه إلى رب السماء بالدعاء، فيا مجيب دعوة المضطرين، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، يا رب إن الأيام والأشهر تمضي وتدور، والحرب والقتال بين السودانيين لم يتوقف، وتتوالى المصائب وتشتد البلاءات عليهم، فيا رب أنت قريب ممن دعاك ورجاك، فنرجوك يا الله أن تصلح شأن إخواننا وأهلنا في السودان، وتؤلف بين قلوبهم وتجمعهم على قلب رجل واحد، بهدايتك ولطفك ورحمتك التي وسعت كل شيء، وأنت أرحم الراحمين.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية
الرسالة التي حملت رؤية المؤتمر الوطني المستقبلية للسودان جديرة أن تثير نقاشا واسعا في أوساط النخبة السودانية المثقفة . وقد آن لقادة الفكر في بلادنا أن يبدأوا السباق المعرفي ، وليفتحوا الأبواب لشعب السودان ليسهم في رسم استراتيجية البناء والنهضة العظيمة للأمة السودانية .
ونهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة ومعاونيها من شباب السودان بتكويناته وانتماءاته المختلفة من تضحية وفداء وثبات وصبر وعزيمة ، لجديرة بأن
تسجل في كتاب التاريخ فخرا وعزا ومجدا أثيلا للسودان ، وتترك في قلوب أعدائه رعبا ورهبة
لا يمحوها مرور الأيام والليالي . فالتحية والدعاء بعد حمد لله لكل من اشترك في معركة الكرامة بالقتال المباشر وبالإعداد وبالانفاق المادي وبالرأي السديد وبالدعاء الصادق لتحقيق النصر الخالد والمجد التليد . والرحمة والقبول من الله لشهدئنا من المقاتلين في صف القوات المسلحة الذين وهبوا حياتهم لربهم ولبلادهم العزيزة . والدعاء لكل مكلوم وكل مهموم ومظلوم وجريح ومصاب ولكل أم وأب لشهيد أو مقاتل جسور .
إن من ملامح ما بعد النصر أنها كما أنهت المؤامرة الاقليمية والدولية الكبري علي البلاد ، فإنها قد انتهت بها حقبة جيل السبعينات والثمانينات ومعظم مواليد الاربعينات والخمسينات من أبناء السودان الذين عمروا بلادهم وأداروها في تلك الحقبة . فمن عبر منهم إلي الدار الآخرة فهو رجاء الله تعالي ومغفرته ورضوانه . ومن بقي منهم فهو في فترة المراجعة والإنابة والاستعداد للرحيل ، مع بذل ما اكتسبه من تجارب الحياة العامة والخاصة للجيل الناهض بأعباء الحياة القادمة . فبتقدم العمر وبتغير الأحوال وباختلاف أهداف المرحلة وتحدياتها لم يعد هناك من يطمع من أبناء ذلك الجيل في منصب أو في قيادة أو مكسب دنيوي إلا ما ندر ، وقد عبروا عن مواقفهم هذه في مناسبات عدة . فليهنأ الذين أصابهم الوجل من عودة مشاهير سابقين إلي تولي الحكم مجددا فلا العمر ولا الرغبة ولا الأحوال تسعفهم في ذلك . ولتستعد الأجيال الناهضة لتولي مسئولية إدارة الحياة في الدولة والمجتمع بمواهبهم في العلم والمعرفة ، وليدخلوا بابتلاء الله لهم في معترك الحياة بالعزم والحزم والزهد والاستقامة ، وبحب الله وحب الوطن وحب الناس وكراهية الفساد والخيانة والجريمة .
إن النظر في أسبقيات العمل في الدولة تفرض علي المرء البدء بما هو أولي . ولا أحسب أن قضية ما تسبق قضية الأمن القومي في البلاد . فبفقدان الأمن فقد أهل السودان كل شيء ، النفس والأرض والمال والعرض والطمأنينة والتعليم والصحة واجتماع الأسرة وغيرها . لقد كان عقلاء المجتمع يطلقون المحاذير للشعب السوداني عن مخطط العدو الخارجي لاستهداف الوطن والمواطنين ، ويبينون لهم ملامح التخطيط المجرم لاحتلال البلاد ، وقد نشرت ملامحه في وسائل الإعلام الغربية باقتراب احتلال دول في المنطقة من بينهم السودان ، ولكن غفلة العامة كانت كبيرة ، وتصديقهم لوقوع الكارثة كان ضعيفا ، وحسبوها مناورات من ساسة يريدون بها التكسب ، فلم يستبينوا النصح حتي وقعت الواقعة ورأوا بأعينهم ما لم يخطر ببالهم من فظائع الحرب وقسوة المجرمين ووحشية البشر وهمجية ليست من طبائع الحيوان ، وأصبح مخطط العدو يجوس خلال ديار المواطنين العزل في القري النائية والمدن الوادعة . ولولا لطف الله وحسن تدبيره ورعايته لفقدنا أرض السودان بما تحمله من مواهب الله الثرة وعواريه المستودعة ومنائحه الدارة وخيراته الوفيرة ومساجده العامرة وخلاويه التالية لكتابه ، ولأصبح أهله مشرودين في دول لا تعرف معاني الإخاء والنصرة وحب الناس واستقبال الملهوف .
فمن أجل هذا الدرس القاسي تكون العظة للحاكم والمحكوم علي السواء بأن قضية الأمن القومي هي القضية ذات السبق في الترتيب ، بلا تراخ ولا تفريط ، ولا استهانة ولا استكانة ولا مجاملة لقريب أو بعيد أو لصديق أو عدو . فإن كان في خزينة البلاد وفي خزائن أفراد مال كثير أو قليل فهو أولا لتأمين البلاد ، والبدء بالقوات المسلحة وقوات الأمن وقوات الشرطة . إن مضاعفة الاحتياطي البشري لهذه القوات في ظل التهديد الماثل والذي لم تزدة الأيام إلا تأكيدا ، ينبغي أن يضاعف بعشرة أضعافه . والقوات النظامية تدرك كيف تفعل ذلك دون عنت ومشقة . ومضاعفة الاحتياطي البشري تظل تأمينا للبلاد من أي تمرد داخلي وأي غزو خارجي ، كما أنها سند ميسور لمواجهة الكوارث الطاريئة ، وهي أيضا مورد للمعلومات ورصد لكل نشاط تخريبي في الاقتصاد ومكافحة التهريب وتجارة المخدرات والوجود الأجنبي غير المقنن ، وفي الحيلولة دون انفجار النزاعات القبلية وفي اختراق الحدود وغيرها .
إن مضاعفة قوات الاحتياط بشريا لابد أن تصحبه مضاعفة القدرات القتالية والتأهيل الأمني والتدريب المتقدم والإعداد النوعي الذي يستجيب للتطوير الفني باضطراد كلما تطورت الأنظمة التقنية ليواكب تطورها تجاوزا للتخلف وحرصا علي التفوق المستمر الذي يفضي إلي يأس شياطين الإنس والجن من الطمع في بلادنا .
بالطبع هنا لا نتحدث عن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية والفنية ، حيث أن قادة هذه الأجهزة أكثر دراية منا ، ولا نتحدث عن إعادة هيكلتها كما كان يفعل جهلة الحرية والتغيير وعملاء السفارة الغربية وخونة الزمرة المستعبدة وأرباب اليسار المستخدم ، ونحن نعلم أن ما لدي هذه الأجهزة ما يعينها في تطوير استراتيجيتها كلما لزم الأمر . ومع ذلك نلمح ولا نفصل في إعادة النظر في الخارطة الجغرافية الدفاعية بما يعين علي قيام مدائن حضرية جديدة مزودة بوسائل دفاعية مقتدرة وقدرات انتاجية مقتدرة ووسائل اتصال عالية الجودة وصناعات تحويلية ومصدات دفاعية محكمة وخارطة دائرية متصلة لا تعين العدو علي اختراق البلاد كما فعل الآن ، وتستوعب في داخلها نخبة كبيرة من الخريجين لتقوية حصون البلاد الجديدة ، ولميلاد جيل عالم مستنفر معبأ ومقاتل ومنتج ومهتد وهاد لأمته المحفوظة بعناية الله تعالي .