في العمق : معيشة المواطن خط أحمر
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
لِنتَّفقَ جميعًا بأنَّ رؤية «عُمان 2040» وطموحاتها المتعاظمة ومرجعيَّتها الوطنيَّة الشاملة، قَدْ وضعت المواطن أمام مسؤوليَّات كبيرة، وحمَّلته الكثير من المهام التي لا تتحقق إلَّا بالتزامه بها وإخلاصه لها، لذلك لا أتوقَّع بأنَّ لدَيْنا الاستعداد للتنازل عن هذا الاستحقاق الوطني والدَّوْر المحوري للمواطن في إنتاجيَّة الرؤية ووضعها في ميدان التنفيذ، من خلال إشغاله بقضايا ثانويَّة أو يفترض أن تكُونَ محسومة من الأساس، ولا مجال فيها للاجتهاد والتفسيرات العشوائيَّة، بحيث تسيرُ إلى استقرار وفق إجراءات ثابتة، وآليَّات مفهومة، وخطط واستراتيجيَّات وتوجُّهات معلومة الأدوات ومدركة النتائج من المواطن نَفْسِه، إذ إنَّ التشتُّت الفكري الناتج من ضبابيَّة الأدوار وغياب التَّوجيه سوف يؤثِّر سلبًا على كفاءة الممكنات والفرص الموَجَّهة نَحْوَ الرؤية، والمساحة التي يمنحها المواطن ـ أيًّا كان وبحسب الدَّوْر الذي يشغله بالمُجتمع ـ في تنفيذ مستهدفات الرؤية.
إنّ ما يحصل اليوم في ملفات الكهرباء والماء والوقود والترقيات والباحثين عن عمل والمُسرِّحين عن أعمالهم والعقود المؤقَّتة وغيرها من الملفات التي باتت تضجُّ بها السَّاحة العُمانيَّة وغيرها؛ إنَّما هو إشغال للمواطن والشَّباب عن التفكير في متطلبات الرؤية وتوجيه الاهتمام بآليَّات تنفيذها والتعامل معها، أو امتلاك المهارات والقدرات التي تساعد المواطن على تطبيقها، لذلك نعتقد بأنَّه يجِبُ قَبل كُلِّ شيء حسم موضوع معيشة المواطن ووضع النقاط على الحروف للكلمات التي لطالما تردَّدت على ألْسَنةِ المسؤولين «معيشة المواطن خط أحمر» وأن تكتبَ هذه العبارة بماء الذهب بحيث يكُونُ لها ترجمة حقيقيَّة لها في واقع الفعل، وميدان العمل: فلسفةً وتنظيمًا وتشريعًا وتفسيرًا وبرامج، تجنيبًا للمواطن من الدخول في معمعة الاقتصاد وهواجسه وحالة عدم الاستقرار التي يعيشها، أو أن نرفعَ سقف توقُّعاته بالتغيير، وأن يكُونَ له نصيب من الفرص كُلَّما ارتفعت مؤشِّرات الاقتصاد والميزانيَّة والفائض العامِّ وغيرها من الكلمات التي باتَ يسمعُها المواطن، فهي سهلة النطق ولكنَّها غير مفهومة المغزى والمعنى والدلالات؛ إيمانًا منَّا بأنَّ إشغال المواطن بالظروف الاقتصاديَّة اللحظيَّة والعيش في دائرة تداعياتها النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والصحيَّة لا يصنع مواطن رؤية عُمان 2040.
إنَّ المتتبع لمرتكزات رؤية «عُمان 2040» وفلسفتها أبجديَّات عملها ومفرداتها يجد أن تنطلقَ في الأساس من مبدأ «الإنسان أوَّلًا»، إذ إنَّ الرأسمال البَشَري المواطن يُشكِّل أهمَّ أولويَّات الرؤية، حيث جاء في مرتكزات الرؤية « مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاهٍ مستدام»، في مدخل منظومي يقرأ في المواطن؛ مدخلًا لتحقيق أهداف رؤية عُمان ومحاورها ومستهدفاتها، أو كذلك في كونه الوسيلة لتحقيق هذه الأهداف من خلال جملة البرامج والخطط والاستراتيجيَّات والسِّياسات التي تصنع للمواطن حضورًا في أبجديَّات الرؤية تنفيذًا وتطبيقًا وإشرافًا وممارسة، أو في كونه المنتج النهائي لهذه الرؤية في الطموحات التي يراد للإنسان العُماني أن يحققَها أو يصلَ إليها، سواء على مستوى رفع مستوى دخل المواطن، أو الرفاه الاجتماعي، أو الحياة المعيشيَّة الفارهة، أو كذلك ما يتعلَّق بالوعي المُجتمعي والبناء الفكري والتغيير الذَّاتي، وتعزيز مفاهيم جودة الحياة في السلوك، نظرًا لِمَا يؤدِّيه هذا التكامل في بناء شخصيَّة المواطن من أهمِّية في إنتاج مواطن الرؤية القادر على تحقيق أهدافها وترسيخ متطلَّباتها ومعاييرها في واقعه الاجتماعي.
ومعنى ذلك أنَّ تحقيق هذا التحوُّل الشامل يجِبُ أن يتمَّ وفق سياسات وبرامج وخطط ترفع من سقف التفكير الإيجابي للمواطن وتُعزِّز من فرص المنافسة، وتمنحه مساحات أكبر لإثبات ذاته وتطوير قدراته وتعزيز استعداداته وخلق التحوُّل في ممارساته، الأمْرُ الذي يستدعي النهوض بالمواطن والارتفاع به فوق مستهلكات السلبيَّة، والارتقاء بقدراته، وتوجيه المال العامِّ من أجْلِ تجويد تعليمه وتدريبه وصحَّته النَّفْسيَّة والجسديَّة بناء قدراته حتَّى يكُونَ المنتج أكثر تكيُّفًا مع الواقع وأكثر قدرة على العيش في ظروف صعبة، وما يعنيه ذلك أيضًا من الحاجة إلى ضبط السِّياسات والخطط الموَجَّهة للمواطن الإعلاميَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة وغيرها بالشكل الذي يضع المواطن أمام استشراف مستقبل التحوُّل القادم والفرص المتحقِّقة والجوانب التي يحتاج فيها إلى مراجعة ونظر وتقييم ومتابعة ورصد وتصحيح، فيصبح تفكيره متَّجهًا نَحْوَ البحث عن الجوانب التوعويَّة التي يستطيع أن يديرَ بها واقعه، ويصنع منها الفارق، والتفكير خارج الصندوق مع المحافظة على خيوط الاتِّصال والتواصل التي تربطه بالعُمق الوطني، والتفكير في الأبعاد والمؤثِّرات الاقتصاديَّة والتقنيَّة التي تؤثِّر على مسار التوازنات في حياته ليتَّجهَ إلى التفكير عالَميًّا والتطبيق محلِّيًّا، وهذا الأمْرُ يستدعي الحدَّ من استغفال المواطن بالقضايا الثانويَّة وردود الأفعال على التصريحات الجانبيَّة التي يتلقَّاها من هنا وهناك والتي باتت تأخذ جُل وقت المواطن، سواء بالردِّ عَلَْها في المنصَّات الاجتماعيَّة وتداول الإشاعات والمعلومات غير الموثوقة دُونَ التركيز على دَوْره في إعادة قراءة الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وارتفاع مساحة الإحباط والقلق والسلبيَّة والاضطرابات الداخليَّة والأمراض النَّفْسيَّة وغيرها من أمراض العصر التي باتت تفتكُ بالقدرات وتبيد المبادرات والاجتهادات.
وعَلَيْه، فإنَّ حالة الانهزاميَّة وعدم التفاؤليَّة وضعف الاستجابة وسَيْل التراكمات النَّفْسيَّة والفكريَّة التي باتَتْ تتولَّد لدى المواطن بفعل تراكميَّة القرارات وغياب التنسيق والتكامليَّة في العمل وفراغ التوجيه والتصحيح والصورة التشاؤميَّة التي باتَ يتعامل بها المسؤول الحكومي مع الملفات الاقتصاديَّة، باتَتْ الخطر الأكبر الذي يواجهه مواطن الرؤية والذي يعيش في بيته أكثر من باحث عن عمل أو مُسرَّح من عمله، وشغلته الفواتير والديون والتراكمات الماليَّة على استيعاب أدواره في تحقيق رؤية «عُمان 2040»؛ ما يطرح اليوم أهمِّية تبنِّي سياسات وطنيَّة أكثر إنسانيَّة تستهدف المحافظة على درجة التوازنات في عقيدة المواطن التطويريَّة التي يستخدمها في تحقيق مستهدفات الرؤية، وتعميق حضوره في مختلف جوانبها والتزامه بتحقيق الهُوِيَّة واستنطاق القِيَم واستنهاض المبادئ والعيش في جلباب القِيَم وحماية القانون والنظام باعتبار، المواطن المحرِّك الأساسي لها، والقِيَم على أدائها والناطق باسمها والمعَبِّر عن أبجديَّاتها، والذي يعوّل عَلَيْه اليوم امتلاك زمام المبادرة وروح التغيير وحدس المواطنة ومبادئ الشفافيَّة والرقابة والنزاهة والإخلاص والمساءلة والمحاسبيَّة، والتي لا تأتي إلَّا في ظلِّ توجيه التفاصيل الدَّقيقة وأفضل الممارسات الناضجة نَحْوَ بناء هذه الأولويَّات، ونقل المواطن من دَوْر المستهلِك إلى دَوْر المنتِج، ومن حالة السطحيَّة في التفكير إلى العُمق في التحليل، ومن ثقافة الردود الاستهلاكيَّة عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة إلى صناعة المحتوى، ومن مرحلة الشكاوى والإحباطات والتبريرات إلى أن يثبتَ بصمة حضور فعَلَيْه بقدرة الشَّباب العُماني على العطاء والإنجاز وتحمُّل المسؤوليَّة؛ ومن استغلال المنصَّات الاجتماعيَّة في إحداث الفوضى الكلاميَّة وشحن الرأي العامِّ عَبْرَ إطلاق أحكام جزافيَّة وغير واقعيَّة أو البحث عن الثغرات وتصيُّد الأخطاء، واستغلال الهاشتاقات في غير الأولويَّات والأهداف الوطنيَّة إلى أن تكُونَ هذه الصفحات الاجتماعيَّة والمنصَّات التواصليَّة محطَّة تحوُّل نَحْوَ تجريب الذَّات في المواقف، وحشد الاهتمام بالوطن ومُقوِّماته ونجاحاته، وفرصه التنافسيَّة وموارده وثرواته، لِيمارسَ دَوْر المواطن الواعي والمُحبِّ والمخلِص والمُسوِّق لوطنه.
إنَّ ما تحمله رؤية «عُمان 2040» من استحقاقات وما اتَّجهت إليه الحكومة من رؤى وسياسات لتحقيق هذه الرؤية، محطَّات مهمَّة يجِبُ أن يقفَ عَلَيْها المواطن وأن يتأملَها ويدركَ استحقاقاتها، وفق حوارات مشتركة وأدوار تبادليَّة وتوجُّهات تفرض على الجميع التزامًا يمشي على الأرض، فتقع على مؤسَّسات الدَّولة مسؤوليَّة تبسيط مفاهيم ومنتجات الرؤية في منظومة العمل الوطنيَّة الموَجَّهة للمواطن، وتظهر في خطط وبرامج المؤسَّسات والخِطاب الإعلامي وسلوك رؤساء الوحدات الحكوميَّة، وحضور عقليَّة الوفرة التي يؤمن بها المسؤول الحكومي في مواجهة عقليَّة الندرة، ومساحة المرونة والتبسيط في الإجراءات التفاعليَّة مع المواطن واحتوائه، والوقوف على احتياجاته والاستماع إليه وتوجيه المؤسَّسة نَحْوَ الأخذ بيده، والتعامل مع التحدِّيات والمواقف بروح مَرِنة واستراتيجيَّات أداء رصين، هذا الأمْرُ من شأنه أن يبقيَ المواطن على اطِّلاع مستمرٍّ بمستجدَّات العمل، فيضعه في صورة الإنجاز، فيقبل هذه المساحة من الثقة بروح ملؤها الإرادة والعزيمة، والإصرار والإخلاص على أن يصنعَ من مسؤوليَّاته والتزاماته خيوط اتِّصال بالمؤسَّسات، فيتبنَّى بروح مَرِنة وقناعات صادقة التوجُّهات الوطنيَّة دُونَ البحث عن وسائل المواجهة عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة التي يتَّجه إليها لا عِنْدما أغلقت المؤسَّسات والمسؤولين باب الحوار والتواصل وفرص الشراكة والعمل بروح الفريق الواحد، أو أغلقت آذانها عن سماع صوت المواطن واستغاثته وشكواه معَبِّرًا عن رأيه ومتحدِّثًا عن واقعه واصفًا حالته بالمأساويَّة، ملتمسًا من جلالة السُّلطان التدخُّل في معالجة الأمْرِ.
أخيرًا، فإنَّ «معيشة المواطن خط أحمر» بحاجة إلى إجراءات ثابتة من أجْلِ المحافظة على إنتاجيَّة مواطن رؤية «عُمان 2040»، وقَبل ذلك المحافظة على درجة التوازنات الفكريَّة والنَّفْسيَّة والصحيَّة للمواطن ومشاعره لِمَا في إشغاله بالظروف الاقتصاديَّة اللحظيَّة من مخاطر وصدمات وتصدُّعات يصعب التئامها، ولَمَّا كانت هذه المنصَّات التي باتَتْ تحتضن المواطن فضاء كونيًّا واسعًا، لذلك باتَ يتابعها ويتضامن مع المواطن فيها القريب والبعيد، الصديق وغير الصديق، ويندس خَلْفها المُهيِّجون للفتنة والمُثيرون للفوضى. إنَّ العلاج الصائب لهذه الاختناقات والصدامات يُحتِّم اليوم تبنِّي سياسات تواصليَّة قائمة على احترام المواطن والثقة فيه، واستشعار ما عَلَيْه من وضع، ورفع درجة الاستحقاقات المرتبطة بكُلِّ ما له علاقة بظروفه المعيشيَّة وحياته اليوميَّة، وتبنِّي فِقه إدارة المشاعر والرحمة والرأفة، بما يحفظ الحقوق ويحافظ على درجة التوازنات النَّفْسيَّة والفكريَّة، ما يعني أنَّ على قِطاعات الدَّولة ومؤسَّساتها أن تُعيدَ إنتاج هذا المسار، وتحتضنَ المواطن وتقتربَ مِنْه، وتُعيدَ قراءة ما سطَّرته أقلامه أو تحدَّث به عَبْرَ وسائط اليوتيوب والتيك توك، أو غرَّد به في المنصَّات الاجتماعيَّة، فإنَّ الاستمرار في هذا المسار وتوسيع فجوة التباينات، وفتح المجال للتفكير السلبي والمشاعر غير المريحة التي تدوِّي في سمع المواطن صباح مساء، لَنْ يصنعَ من المواطن فرص نجاح لدَوْره ومسؤوليَّاته في تحقيق رؤية «عُمان 2040»، فإنَّ حاجة الرؤية اليوم إلى ممكنات الإرادة والاحتواء والالتزام والولاء والانتماء والشغف يسبق حاجتها إلى ذكاء المواطن ومبادراته وإلهامه وإنتاجيته.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: معیشة المواطن المحافظة على ات الاجتماعی ة المواطن التی بات ة وغیرها ات التی ة التی الأم ر
إقرأ أيضاً:
خبير اقتصادي: الدولة تشهد نقلة نوعية في تحسين معيشة المواطنين خلال أخر 10 سنوات
أكد الدكتور بلال شعيب، الخبير الاقتصادي، أن مصر تمر بنقلة نوعية كبيرة لتحسين مستوى معيشة المواطنين خلال السنوات العشر الأخيرة، مع التركيز على العنصر البشري باعتباره أهم مورد اقتصادي.
وأوضح شعيب، في مداخلة هاتفية عبر فضائية "إكسترا نيوز"، أن الدولة أنفقت ما يقارب 10 تريليونات جنيه على تطوير البنية التحتية، بما يشمل الطرق والكباري، الطاقة، والبنية المعلوماتية، مما ساهم في رفع كفاءة الخدمات المقدمة.
https://youtu.be/tw83cCp-_Lw?si=esIyk9bXFOTL_0ftوأشار الخبير الاقتصادي إلى أن الحكومة أعطت أولوية للمناطق التي عانت من التهميش وندرة الموارد، عبر وضع خطط شاملة للتطوير. وتهدف الدولة إلى تحقيق تحسين شامل في الظروف المعيشية، القضاء على الفقر، وضمان توزيع عادل للموارد بين المواطنين.