اقتصاد غزة المحاصر
بقي النشاط الاقتصادي معتمدا على المواد الأولية والنفط الواردة من إسرائيل عبر معبر كرم سالم. وفي عام 2011، بدأ القطاع يشهد تراجعاً كبيراً في اقتصاده.
الاقتصاد الغزي شهد تقلبات ومعدلات نمو عالية عامي 2007 و2008 وتجاوز النمو 25% وحركة بناء وعمران واسعة، وبرزت فيها صناعات أسرية متوسطة وصغيرة.
أثبت أهل غزة أنهم يتمتعون بقدرة هائلة على التكيف مع متطلبات الحياة. ومن منا ينسى اقتصاد الأنفاق التي ربطت بين حدود القطاع والأراضي المصرية.
يجب أن يكون شرطنا في أي اتفاق مع إسرائيل في المستقبل هو رفع الحصار الكامل عن غزة، والتصرف معها كأنها منطقة اقتصادية واعدة. وسوف يكسب الجميع.
تخيلوا لو أن أبناء غزة منحوا فرصة تعلم الذكاء الاصطناعي والرقمنة والهندسة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية وسلاسل الإمداد العالمية, سنرى حينها منهم العجب العجاب.
* * *
ما زلت أتذكر شعوري بالأسى والغضب والترقب عندما قطعت جسر الملك الحسين من الضفة الشرقية لنهر الأردن عبوراً إلى الضفة الغربية. ولما وصلت إلى منتصف الجسر، كان هناك خط مرسوم على قطعة خشبية يفصل بين الأرض المحتلة والأردن.
وقد عبرتُ ذلك الجسر عشرات المرات سابقاً ولم ألحظ ذلك الخط الفاصل بين الاحتلال والحرية، وفوجئت بأحد الجنود يقودني إلى خيمة تقع في نهاية الجسر.
سألني: أين تعمل، فقلت: أعمل في البنك المركزي الأردني. قال: كم عمرك؟ فقلت: خمسة وعشرون عاماً. سأل: ما سبب مجيئك إلى جوديا وسماريا؟ قلت: لم أفهم السؤال؟
وبعد لأي قلت: الدنيا عيد الأضحى، وأريد أن أمضي فترة العيد مع أقاربي، ولم أذكر له أنني كنت داخلاً عند بيت خالي ووالد خطيبتي آنذاك. قال: كم عرض النقد في الأردن؟ قلت: لا أدري؟ فتعجب وسأل: وكيف لا تعرف والرقم منشور في النشرة الإحصائية للبنك؟
قلت: لا أدري. الآن تسألني لأجيبك عن سؤال جوابه منشور، ثم ستبدأ بالسؤال عن غير المنشور. نظر إليّ نظرة متفحصة وقال: اذهب. لما ركبت سيارة الأجرة غربي النهر للانتقال إلى مدينة حلحول مسقط رأسي قال لي السائق: سمعنا على الأخبار قبل قليل أن رئيس وزراء العدو ليفي أشكول قد مات بجلطة قلبية. كان ذلك يوم السادس والعشرين من شهر شباط (فبراير) من عام 1969، أو بعد سنة وتسعة أشهر تقريباً من حرب 1967.
وصممت حينها أن أدخل من القدس إلى الشاطئ الفلسطيني مع خالي في سيارته التي تحمل نمرة إسرائيلية لأنه من سكان القدس. وعند وصولنا قرب يافا فوجئنا بدورية إسرائيلية توقفنا وتسأل عن تصريحي للدخول إلى ما سماه الضابط الإسرائيلي "اريتز إسرائيل". ولم أكن أحمل سوى الترخيص الذي دخلت به إلى محافظة الخليل.
فأخذوني إلى مركز بوليس في مدينة يافا، وحققوا معي لمدة خمس ساعات، ثم أمروا بتوقيفي في سجن "أبو كبير" على البحر المتوسط، وبينما أنا في الزنزانة، أتوا بثلاثة شبان تراوح أعمارهم بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة. وعرفت أنهم من غزة أتوا إلى يافا قبل تصريحهم بيوم من أجل العمل في قطف البرتقال.
وعرفوني على أنفسهم وهو يضحكون: "الأخ مستجد؟"، فقلت لهم: لم أفهم. فازدادوا ضحكاً. وقال أحدهم: "احنا متعودين على السجن ولا يهمك بكره بطلعوا أهلك كفالة وبتروح". لقد كان الشبان من غزة نموراً، سألوني: "هل تغديتم؟"، قلت: ومن يريد أن يأكل؟ قالوا: "نحن". وصاروا يصيحون: "شاتير... شاتير يا ملعون الوالدين… هات غدانا".
وعند العشاء جاء رجل البوليس (الشرطي أو الشاتير بالعبري) وهو يحمل صينية كبيرة عليها صحون في كل واحد منها نصف بيضة وفلقة خبز "فينو" وكأس شاي صغيرة. وجذبه الشبان الثلاثة إلى بوابة الزنزانة، وخطفوا كلّ الصحون التي على الصينية، وأكلوها قبل أن تفتح الشرطة الباب.
أعترف أن روحهم انتقلت إليّ، ولا أنسى يوم جاء خالي بكفالتي بعد يوم ونصف، وودعتهم كأنني أعرفهم من سنين خلت، فضحكوا معي وقالوا: "ما تخاف إحنا لاحقينك بعد يومين ثلاثة". كان الوداع صعباً علي، ورغم قصر المدة التي عرفتهم فيها. وقد مضى على تلك الحكاية أكثر من أربعة وخمسين عاماً، لكنّ صورتهم ووجوههم ما زالت محفورة في عمق ذاكرتي.
كان الاقتصاد الغزي يشهد تقلبات في تلك السنوات. لكن، شهد معدلات نمو عالية عامي 2007 و2008 وصل النمو فيها إلى أكثر من 25%. وشهدت غزة حركة بناء وعمران واسعة، وبرزت فيها صناعات أسرية متوسطة وصغيرة. لكنها بقيت معتمدة على المواد الأولية والنفط اللذين يستوردان من إسرائيل من خلال معبر كرم سالم. وفي عام 2011، بدأ القطاع يشهد تراجعاً كبيراً في اقتصاده.
ولا شك أن أهل غزة قد أثبتوا أنهم يتمتعون بقدرة هائلة على التكيف مع متطلبات الحياة. ومن منا ينسى اقتصاد الأنفاق التي ربطت بين حدود القطاع والأراضي المصرية.
وقد استطاع هؤلاء أن يحفروا أكثر من ألف نفق من مختلف الأحجام والمقاييس لعبور صناديق الفاكهة والحاويات وحتى الشاحنات. وصارت هذه التجارة كبيرة بعشرات الملايين. ذلك الاقتصاد "تحت الأرضي" كانت البضائع تنتقل فيه بيسر وسهولة بدون اعتمادات مستندية، وتأمين، وكفالة النوع. فكيف تمكنوا من ذلك كله؟
ولم يتوقف اقتصاد الأنفاق على التبادل التجاري مع مصر، بل مع إسرائيل أيضاً. وقد اكتشفت إسرائيل عشرات الأنفاق في أراضيها. وإذا كان هناك مبرر في الدنيا لتهريب البضائع عبر الحدود بدون دفع جمارك أو الحصول على رخص فهو مع إسرائيل بصفتها القوة القائمة بالحصار في ذلك الوقت.
لكنّ هذه القصة وهذا النموذج من الاقتصاد الخفي غير الرسمي لم يكتب له أن يعمر طويلاً. فقد رأت فيه الإدارة المصرية تشجيعاً للجهات المتطرفة لممارسة الإرهاب. فقامت بتدمير تلك الأنفاق وإغراقها بالمياه. وقامت إسرائيل بدورها بالبحث والتقصي عن الأنفاق في أراضيها وقامت بجرفها وإغراقها بالرمل والحصى.
وما زالت غزة تحت سيطرة حركة حماس، والتي خاضت خمس معارك دامية مع إسرائيل أدى بعضها إلى لجوء ربع سكان إسرائيل إلى الملاجئ، ولكن القصف الإسرائيلي المستخدِم لكل الأسلحة الجوية والمدفعية والصاروخية والليزرية وحتى الطائرات بلا طيار قد أدى إلى دمار إثر دمار. ولكن شعب أهل غزة على نُدرة المال لديه، وقسوة الحال، لا ييأس بل يعيد البناء.
والقوة الناعمة في غزة ومدنها لا تقف عند الصمود والإصرار وإعادة البناء، بل تمتد إلى تقديم الأمثلة الرائعة على تشجيع النابغين، وبروز الكفاءات الرفيعة في مجالات الطب، والكمبيوتر، والميكانيك، وإنتاج الصواريخ والطائرات بلا طيار، والفن والموسيقى.
ولقد أثبت أهل غزة خارج قطاع غزة وأينما عملوا في الأردن أو مصر أو دول الخليج، أو إذا عملوا في الغرب أو دول المشرق أنهم مؤمنون صابرون لا يملون من السعي الدؤوب للنجاح تجارياً وإدارياً وصناعياً وعملاً حكومياً وتجارة وصناعة. وهناك في الأردن رأسمال غزي كبير لا يستهان به. وكم قابلت من شبان رائعين من أهل غزة في دول الخليج كانوا مثالاً للإخلاص في العمل لمن وظفوهم من أبناء الخليج، أو أصبحوا أطباء مبدعين، وأساتذة ومعلمين ومهندسين وفنيين. ويشكل هؤلاء جميعاً رافداً مهماً لأهلهم الصابرين على أبشع أنواع الحصار.
لا يهمني من الذي يحكم في غزة، ولكن يهمني أن يدرك الجميع أن في هذا القطاع قوة خلاقة كامنة، لو اطلق لها العنان لتحولت إلى هونغ كونغ أو سنغافورة. لقد كانت غزة قبل عام 1967، ومنذ العهد العثماني، مدينة تضج بالحياة، وفيها زراعة البرتقال والليمون والفراولة والزيتون والجوافة. وكانت هي وقراها (مثل المغار وغيرها) بساتين غناء يانعة. وكان أهلها يصنعون، ويصيدون السمك ويسافرون عبر ميناء غزة إلى العالم.
غزة تعاني الآن من نسبة بطالة تصل إلى أربعين في المائة، ومن ندرة المساعدات العربية والأجنبية، ومن الاغلاقات المستمرة، ومن الحصار والمضايقات التي يتعرض لها الصيادون، ومن نقص المياه، والنفط، وتلف المجاري والبناء السكني، وضيق فرص الاستيراد والتصدير ومن الفقر المدقع، ومن تراجع خدمات الأونروا.
ومع هذا تبقى روحهم بعد كل التدمير الذي تعرضوا له عالية شامخة. أغمضوا أعينكم معي لبرهة شاردة، تخيلوا لو توفرت الإمكانات لهذا الشعب لمدة سنة أو سنتين، وسمح لهم ببناء مطار وميناء، وأتيحت لهم فرصة إعادة البناء وترميم البنى التحتية، فماذا نراهم فاعلين؟ أنا أراهن أن قيمة دونم الأرض (ألف متر مربع) على الساحل لن تقل عن 20 مليون دولار.
يجب أن يكون شرطنا في أي اتفاق مع إسرائيل في المستقبل هو رفع الحصار الكامل عن غزة، والتصرف معها كأنها منطقة اقتصادية واعدة. وسوف يكسب الجميع. تخيلوا لو أن أبناء وبنات غزة منحوا فرصة التعليم على الذكاء الاصطناعي، والرقمنة، والهندسة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية، وسلاسل التزويد العالمية. سنرى حينها منهم العجب العجاب.
*د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق.
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: فلسطين النمو الاقتصادي حصار غزة إسرائيل اقتصاد الأنفاق مع إسرائیل
إقرأ أيضاً:
تهريب العملة وتصدير الخردة يهددان اقتصاد اليمن بمليار ونصف دولار سنويًا
شمسان بوست / متابعات:
نظراً للقيود الصارمة التي فرضتها الحكومة اليمنية على التحويلات البنكية لوقف تدفق العملة الصعبة إلى خارج البلاد، والتي تؤثر سلباً على قيمة العملة الوطنية، ظهرت اساليب جديدة تمكن بعض الصرافين ومهربي العملة من تجاوز هذه الإجراءات وتحقيق هدفهم في إخراج العملة الصعبة من البلاد، لكن بطرق ملتوية تهدد الاقتصاد الوطني وتؤثر بشكل مباشر على اسعار الصرف.
فخلال السنوات الماضية، قام بعض هؤلاء المهربين بضخ الاموال المراد تهريبها في سوق الخردة، مما أدى إلى تشكّل سوق كبير لتهريب العملة الصعبة تحت مسمى “تصدير الخردة”، وبالتحديد الحديد والنحاس والبلاستيك والالمنيوم وحتى البطاريات.
يتواصل هؤلاء مع بعض تجار الخردة المحليين، حيث يتم تقديم مبالغ ضخمة بغرض شراء الخردة المحلية والمضاربة في أسعارها. تقوم هذه المجموعات من التجار برفع الأسعار إلى مستويات قياسية عن طريق شراء كميات كبيرة من الخردة خاصة الحديد والنحاس.
بعد شراء الخردة، يتم تصديرها إلى دول مثل الهند وباكستان، حيث يُباع النحاس والحديد وانواع الخردة الاخرى، وذلك بدلاً من استثمار واعادة تدوير هذه المواد محلياً لتلبية احتياجات المواطنين.
ويتم إرسال الاموال التي تُحقق من عمليات البيع في الهند وباكستان إلى حسابات مصرفية في دول أخرى، حيث لا تعود هذه الأموال إلى اليمن، بل تُحوّل إلى وجهات متعددة، مما يسهم في تجفيف احتياطي البلاد من العملة الصعبة.
هذه العملية ليست مجرد تجارة خردة؛ بل هي منظومة متكاملة تهدف إلى تهريب الأموال للخارج عن طريق تصدير الخردة، ما يجعل اليمن يفقد شهرياً مبالغ ضخمة من العملة الصعبة، في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد إلى كل دولار لدعم العملة الوطنية.
وقد ساهمت هذه الممارسات في زيادة معاناة المواطن وتدهور الاقتصاد اليمني، حيث وصل سعر الدولار مؤخراً إلى أكثر من 2040 ريالاً يمنيًا، مما انعكس سلباً على أسعار السلع الأساسية وزاد من معاناة المواطن العادي.
وفقًا لتقديرات اقتصادية، فإن تصدير هذه المواد يكلّف اليمن ما يقارب مليار ونصف المليار دولار سنويًا من العملة الصعبة التي تخرج ولا تعود، مما يؤدي إلى فقدان البلاد لموارد ثمينة يحتاجها الاقتصاد المحلي.
هذه الأموال التي تُخرج من البلاد بهدف تهريب العملة تؤدي بشكل مباشر إلى انخفاض قيمة الريال اليمني.
هذه الأزمة تسهم في زيادة التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية، مما يزيد من معاناة المواطن العادي.كما يخلق المضاربة على اسعار الخردة محليا ضغطًا على المصانع المحلية التي تعتمد على هذه المواد كمدخلات أساسية للإنتاج، ويجعل أسعارها غير متاحة للتصنيع
المحلي.
مشكلة تصدير النحاس:
كما تمثل ظاهرة تصدير خردة النحاس كارثة إضافية، حيث يُعرف أن النحاس يُسرق من البنية التحتية الوطنية مثل كابلات أعمدة الإنارة وخطوط الكهرباء وحتى منازل المغتربين والمباني تحت الإنشاء. يتم سرقة هذه الكابلات، ثم حرقها وكبسها وتحويلها إلى خردة تُصدر للخارج. هذه الممارسات تسبب تدميرًا للبنية التحتية، وقد تم اكتشاف حاويات محملة بكميات كبيرة من الكابلات المسروقة من شبكات الدولة، مما يؤدي إلى انقطاعات كهربائية متكررة ويزيد من تدهور الخدمات العامة.
أضف إلى ذلك أن إعادة استيراد النحاس والكابلات مكلف للغاية، حيث يُفقد اليمن موارد أساسية كانت تستخدم في عمليات البناء والخدمات العامة، بينما يضطر إلى دفع أسعار مرتفعة لاستيراد بدائلها.
منع تصدير الخردة عالميا:
تصدير الخردة يعتبر محظورًا في معظم دول العالم لما يسببه من أضرار بالاقتصاد الوطني، ويشمل هذا الحظر معظم الدول العربية، مثل السعودية، عمان، ومصر، التي تدرك أن تصدير هذه المواد الحيوية يؤدي إلى استنزاف مواردها. حتى الدول التي تشتري الخردة، مثل الهند وباكستان، تُجرم تصدير الخردة وتعتبره جريمة قانونية للحفاظ على ثرواتها الصناعية والاقتصادية.
قرارات الدولة لمنع تصدير الخردة:
في اليمن، أصدرت الدولة سابقًا قرارات سيادية في أوائل الألفينيات لمنع تصدير الخردة من المنافذ اليمنية،
ومع تدهور سعر الصرف إلى مستويات غير مسبوقة، مما تسبب في استنزاف العملة الصعبة، أصدر رئيس الدولة رشاد العليمي قرارات بمنع تصدير الخردة بكافة أنواعها. وتبعه رئيس الوزراء بن مبارك ووزير المالية سالم بن بريك، اللذان أصدرا تعاميم وتوجيهات مشددة للمنافذ في أكتوبر 2024 لمنع تصدير الخردة. وقد أشاد خبراء الاقتصاد بهذه الخطوة لما تحققه من تخفيف للضغط الاقتصادي وتخفيف معاناة المواطنين.
وننبه الدولة وجميع جهات الاختصاص بما فيها القضاء بالتصدي بحزم لايقاف محاولات الالتفاف على قرارات منع التصدير وذلك لحماية الاقتصاد الوطني ووقف نزيف العملة الصعبة.