ماذا بعد كل هذا الخراب؟
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
ماذا بعد كل هذا الخراب؟
لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في البلاد العربية دون تجديد شامل يشمل النخب والأفكار ووسائل العمل الجماعي.
إن الأمل في قدرة هذا الجيل أو الجيل الذي يليه على صناعة التغيير تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة يطول سردها.
كيف تقنع القيادات الإسلامية والقومية واليسارية واللبرالية أنها انتهت تاريخيا واستُهلكت فكريا وأنه يجب عليها الرحيل؟
كأننا نتحرك داخل دائرة مغلقة ما يؤكد أن طور الاستبداد العربي ذاهب إلى نهايته وأنه لا بد أن يستكمل كامل دورته التاريخية والحضارية.
التربة العربية غير مؤهلة للمحافظة على الثورات ومنع انزلاقها نحو العنف المسلح لكن كيف يُفسر تساهل الشعوب مع الانقلاب على ما ضحّت لأجله عقودا طويلة؟
الشعوب لم تراكم وعيا جمعيا وقدرة على الحركة ما يتيح لها منع الاستيلاء على أول أبواب التغيير لذا نجحت الثورات المضادة بسهولة كبيرة في تصفية منجز التغيير.
لا بد من تجاوز أيديولوجيات سياسية عقيمة ورّثت شعوب المنطقة الموت والانقلابات والفساد وهو أمر لا يكون ممكنا دون إعداد أرضية لازمة لأجيال التغيير القادمة.
هل استوعبت النخب الدرس؟ هل فهمت الشعوب حجم المؤامرة وخطورة منزلق تتجه إليه؟ كل المؤشرات تدل على أن دار لقمان لا تزال على حالها ولا أحد استوعب الدرس.
أم المعارك القادمة ليست تحرير الشعوب من الأنظمة الحاكمة بل أولا وقبل كل شيء في تحرير المجتمعات والشعوب من نخبها التي هي حزام أحزمة الاستبداد وأول شروط بقائه.
* * *
تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.. (سانا)
تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.. (سانا)
لن نختلف مع أحد في تشخيص الحالة العربية من المغرب إلى المشرق ولن نتجادل مع بشر إلا في تفاصيل وضع كارثي بأتم ما تعنيه الكلمة من معان، وهو وضع يزداد سوءا يوما بعد يوم. انتهى طور الثورات التي صُفّيت بالحديد والنار لكن الحالة التي أعقبت ذلك لم تزد الوضع العام إلا فسادا.
عشر سنوات مرّت على انقلاب مصر وها هو قائد الانقلاب الذي تعهّد بعدم الترشح لولاية ثالثة يستعد لحكم مصر مدى الحياة على نهج من سبقه من عسكر مصر عبر انتخابات هزلية تثير سخرية الناس في الداخل والخارج. الوضع في بقية البلاد العربية لا يختلف كثيرا عن وضع مصر باستثناءات قليلة في دول الخليج التي تتهددها الأخطار من كل جانب.
فماذا بعد الخراب الكبير؟ وهل قدر المجتمعات العربية أن تعيش في دوامة الموت والعنف والفوضى؟ هل من سبيل إلى الخروج من النفق القاتل؟ وهل من طريق إلى إيقاف النزيف؟
تأصل الفساد والاستبداد
ليست الانقلابات والفوضى التي أعقبت قيام الثورات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مجرد ردّ فعل القوى العميقة في الداخل والخارج من أجل استعادة مصالحها وامتيازاتها بل هي كذلك دليل على فشل "النخب الثورية" أو القوى التي تصدرت المشهد بعد سقوط الأنظمة في تحويل الفورة الشعبية العارمة إلى مكسب ثابت لا قدرة للدولة العميقة على إزاحته.
يبدو هنا أن المسألة لا تتعلق بإزاحة النظام السياسي والحزام الأمني والعسكري المحيط به بل إن المسألة ضاربة بجذورها في عمق الذهنية والثقافة الشعبية التي راكمت عبر عقود كل مظاهر العجز والإحباط والخوف من المبادرة.
سرعان ما انقلبت الشعوب على المنجز الثوري وسريعا ما أدارت ظهرها للثورات ولموجات التغيير تحت ضربات القصف الإعلامي المكثف وتحت تأثير رعب الفوضى الذي أحدثته الأزمات الاقتصادية وجماعات العنف المسلح.
صحيح أن ترسيخ قواعد الحرية وتثبيت أركان الديمقراطية يحتاجان عقودا وأجيالا لتتحول من منجز ثوري إلى طبيعة مجتمعية وثقافة شعبية لا يمكن الاستغناء عنها.
صحيح أيضا أن التربة العربية لم تكن مؤهلة للمحافظة على الثورات ومنع انزلاقها نحو العنف المسلح كما حدث في ليبيا وسوريا خاصة. لكن كيف يمكن تفسير تساهل الشعوب مع الانقلاب على ما ضحّت من أجله لعقود طويلة؟
لا شك في أن الشعوب لم تراكم من الوعي والإدراك الجمعي والقدرة على الحركة ما يسمح لها بمنع الاستيلاء على أول أبواب التغيير لذا نجحت الثورات المضادة بسهولة كبيرة في تصفية منجز التغيير.
خيانة النخب
عن قصد وأحيانا قليلة عن غفلة ساذجة ساهمت النخب العربية في إسقاط كل موجات التغيير التي عرفتها المنطقة منذ مطلع القرن السابق بما في ذلك المشاريع التي أعقبت فترة مغادرة المحتل العسكري لبلادها.
كان الفشل السياسي ذريعا في تصفية بقايا الاحتلال وفلوله وفي صياغة مشروع نهضة قادر على أن يُلحق بلاد العرب ببقية الأمم الصاعدة.
تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة وتحولت سريعا إلى حارس من حراسها.
انفرد العسكر بأهم الحواضر العربية في مصر والعراق وسوريا وليبيا والجزائر فصاغ أبشع المنظومات الاستبدادية وتفنن في حياكة أبشع الأجهزة القمعية فقتل الحريات وقمع الاختلاف وشيّد صرح الزعيم الواحد الأحد.
أما الإسلاميون وهم تقريبا الفصيل الأصيل الأبرز الذي نبت داخل الحاضنة العربية فلم يختلفوا كثيرا عن سابقيهم في فشل الإنجاز وغياب روح المبادرة والعجز عن تفادي الاصطدام مع حَمَلة السلاح.
نجحت الأنظمة في اختراق أغلب فصائلهم وصنعت لهم نظائر مشابهة مسلّحة بالتطرف والعنف لتبرير قمعهم فتحوّل الصراع من صراع بين الشعب والنظام إلى صراع بين الإسلاميين والنظام.
دفعت المجتمعات ثمنا ثقيلا نتيجة هذا الصراع وهو الصراع الذي هيمن على الحياة السياسية العربية منذ الثمانينيات وصولا إلى ثورات الربيع دون إحراز تقدم في طبيعة المواجهة.
تجديد لا بد منه
هل استوعبت النخب الدرس؟ هل فهمت الشعوب حجم المؤامرة وخطورة المنزلق الذي تتجه نحوه؟ كل المؤشرات تدل على أن دار لقمان لا تزال على حالها وأن لا أحد استوعب الدرس. ما الحل إذن؟
كأننا نتحرك داخل دائرة مغلقة وهو ما يؤكد أن طور الاستبداد العربي ذاهب إلى نهايته وأنه لا بد أن يستكمل كامل دورته التاريخية والحضارية. بناء عليه فإن الأمل في قدرة هذا الجيل أو الجيل الذي يليه على صناعة التغيير تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة يطول سردها.
لا تزال النخب العربية تراوح في نفس الإطار الفكري الذي ينتظر الإصلاح دون العمل عليه فلم نر أي فصيل سياسي أو فكري عربي بما فيهم الإسلاميون قد بادر إلى مراجعات فكرية عميقة بناء على ما حصل من فشل وانكسارات كان هو أحد أهم أسبابها.
إن غياب مشاريع التغيير وغياب الآليات القادرة على تفعيل هذه المشاريع اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا هو الذي يدفع الشعوب نحو هذا الهدوء اليائس من التغيير وكأنه ينتظر معجزة لن تأتي أبدا.
لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في البلاد العربية دون تجديد شامل يشمل النخب والأفكار ووسائل العمل الجماعي. لا بد من تجاوز الأيديولوجيات السياسية العقيمة التي لم تورّث المنطقة وشعوبها إلا الموت والانقلابات والفساد وهو الأمر الذي لا يكون ممكنا دون إعداد الأرضية اللازمة لأجيال التغيير القادمة.
من الصعب جدا أن تقبل النخب العربية وزعامتها المريضة بعشق السلطة أن تغادر بهدوء وهي تدرك جيدا أنها صارت اليوم جزءا من المشكل لا جزءا من الحلّ. كيف تقنع القيادات الإسلامية والقومية واليسارية واللبرالية أنها انتهت تاريخيا واستُهلكت فكريا وأنه يجب عليها الرحيل؟
إن أم المعارك القادمة لا تتمثل في تحرير الشعوب من الأنظمة الحاكمة بل تتمثل أولا وقبل كل شيء في تحرير المجتمعات والشعوب من نخبها التي هي حزام أحزمة الاستبداد وأول شروط بقائه.
*د. محمد هنيد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السوربون، باريس
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: عرب الفساد الاستبداد العنف المسلحة الشعوب من
إقرأ أيضاً:
موازين القوى فى طريق التغيير
لا شك أن العالم أدرك يقينًا كذب واستبداد وتسلط وحقارة الدول الكبرى التى تحكم وتتحكم فى العالم، ازداد الوعى العالمى وتجلت أمام الجميع حقيقة الذئاب التى تنهش، والمتآمرون الذين انتهكوا كافة القوانين الدولية والإنسانية من أجل أن يعيشوا وحدهم فى الأرض.
ولكن هل يظل العالم كما هو تحكمه قوى الشر والظلام، مدعو الديمقراطية وحقوق الإنسان؟، بالطبع لا، العالم سيتغير خلال سنوات وموازين القوى ستتغير وكم من إمبراطوريات وممالك عظيمة سقطت وأصبحت ماض يذكرها التاريخ فقط.
المشهد العالمى الآن غامض وإن كنا على يقين أن للظلم نهاية، وأن كثيرين سيخرجون من عباءة الشيطان الذى نصب من نفسه شرطيًا على العالم فخطط وأفسد وارتكب مذابح تحت زعم محاربة الإرهاب، سيتكتلون ضده حتى يحرقونه كما أحرق ودمر دولًا وشعوبًا وسيذهب إلى مذبلة التاريخ.
المتابع لما يدور فى العالم يدرك أن تغيير موازين القوى قادم لا محالة، ولنضرب أمثلة صغيرة ببعض الأحداث التى قد تبرهن على هذا التغيير، فقد أجريت منذ أيام انتخابات برلمانية فى اليابان وجورجيا وجاءت النتائج عكس كل التوقعات لتثبت أن الكتلة الشرقية سوف تجذب مزيدًا من المؤيدين وسيكون لها شأن آخر خلال السنوات المقبلة.
فى اليابان لقى الحزب الليبرالى الديمقراطى الحاكم، القابع فى السلطة منذ سنوات خسارة كبيرة، حيث حصل على أقل من 18% من الأصوات، والسبب سخط شعبى نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة، وضعف الين، والتضخم، المثير أن من فاز هو الحزب الدستورى المعارض
والذى ينتمى للوسط ويميل للصين وهذا يشير إلى بدء تغير قواعد اللعبة فى اليابان.
وفى جورجيا شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية ضربة قوية للجورجيين المؤيدين للغرب، الذين اعتبروا الانتخابات اختيارًا بين الحزب الحاكم الذى يوطد علاقاته مع روسيا والمعارضة التى كانت تأمل فى تسريع التكامل مع الاتحاد الأوروبى، فقد حصل حزب الحلم الجورجى الحاكم الموالى لروسيا على أكثر من 54%، ورفضت المعارضة الاعتراف بالهزيمة، بل ورفضتها رئيسة جورجيا سالوميه زورابيشفيلى الفرنسية التى تخلت عن جنسيتها، ولم تكتف بالرفض بل دعت الشعب للتظاهر رفضًا لنتيجة الانتخابات معرضة بلدها لخطر الفوضى.
وبالطبع نتيجة الانتخابات فى اليابان وجورجيا ليست فى صالح أمريكا التى تعد اليابان إحدى أذرعتها وسط النمور الأسيوية، وعلى الـطرف الآخر يشكل خروج جورجيا من الاتحاد الأوروبى خطرًا على الكتلة، فربما تقدمت دولًا أخرى بطلبات للخروج من هذا التكتل كل حسب مصالحه، وما زال خروج بريطانيا من التجمع شبحًا يهدد هذا التحالف بالانهيار.
علمنا التاريخ أنه لا شىء يستمر مهما كانت قوته وجبروته، كما أن كل فترة تظهر قوى تحكم وتسيطر وتختفى بعد سنوات من الظلم والطغيان، وأعتقد أنه آن الأوان لهذه القوى المتغطرسة الشريرة التى تعادى الإنسانية أن تذهب إلى غير رجعة.
حفظ الله مصر من كل سوء
[email protected]