البحث العلمي والأكاديمي في ظل الذكاء الاصطناعي.. هل هو في خطر؟
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
ما دمنا نعيش في ظلال التقنيات الإلكترونية المتنوعة في القرن الـ21، وتحفنا من كل الأطراف أجهزة ذكية تتناولنا ونتناولها على حد سواء! وبعد أن صار كل حجر في زوايا حياتنا معرضا للانزياح التلقائي ليحل محله البديل الأسرع أداء والأسهل استعمالا؛ من البدهي أن نتساءل عما إذا كان في هذا الكم الهائل من العسل سم مدسوس أم لا؟ وهل هو مشفوع بنيات طيبة أم لا؟
تعالوا لنلق نظرة على رياض الجامعات وحلقات البحث والمقالات والأبحاث الأكاديمية في حضرة الذكاء الاصطناعي؛ إذ يستطيع المرء اليوم أن يطلب من برامج الذكاء الاصطناعي أن تعد له بحثا علميا في أي مجال يرغب في البحث فيه والكتابة عنه، ولديه كثير من الخيارات؛ كأن يختار عدد الكلمات ويحدد العصر الزمني الذي يريد إجراء البحث فيه، ولديه القدرة على إعداد البحث نفسه بسياقات وترتيبات وتنسيقات عدة… وما عليه إلا أن يختار منها ما يناسب أفكاره ويعبر عن توجهاته ويخدم أهدافه ويروق له.
لحظة!… لعلك تخشى عليه أن يكشف أمره ويهتك ستره! لا داعي للقلق أبدا، ولا مبرر للتخوف، فعجلة الذكاء الاصطناعي لا تتوقف عند هذا الحد من تقديم الخدمات، بل أعدت بواسطتها مواقع وبرامج متنوعة تستطيع تعديل لغة البحث وتقريبها وإضفاء الصفة الإنسانية عليها بالقدر الذي تريده.
فإذا ما حاول أحد البحث عما قدمه من أوراق وأفكار في شبكة الإنترنت ومواقعها المختلفة، فإنه لن يعثر على آثار دقيقة وواضحة تظهر السرقة أو الانتحال ما لم يتعمق بالقراءة والبحث ما بين الأفكار وما وراءها.
في الحقيقة… لم أجرب!يذكرني هذا الأمر بفكرة السارق الأكاديمي المحترف الذي يشتت انتباه المتلقين؛ فلا يسرق من مصدر واحد، بل يسرق من مصادر متعددة، ويحاول تجميع سرقاته ليكسوها ثوب الإبداع والتجديد.
والسؤال الذي يراود المرء في هذه النقطة: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي توليد شيء جديد بالمطلق؟ أغلب الظن أنه قادر بالفعل على ذلك، لأنه لا يخضع لمنطق إنساني في عمليات البحث والتجميع والترتيب.
إذن ما الذي ينتظرنا في الأيام القادمة، في المستقبل الذي صار يدافع أيامنا الحاضرة مدافعة؟ وهل للذكاء الاصطناعي تأثيرات سلبية في مجال التعليم والتحصيل الأكاديمي على الأجيال الناشئة؟
صرح أحد الأساتذة الجامعيين المختصين في أحد مجالات الهندسة أنه يشعر بالقلق الحقيقي من انفتاح هذا الجيل على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقدرته على الاستفادة منها، وخداع الآخرين، فحين أجريت الامتحانات عن بعد حاز كثير من الطلاب على درجات تامة، واستطاع قسم منهم الانتهاء من حل أسئلة الامتحان بسرعة فائقة، رغم صعوبة بعضها، وإعدادها وفقا للوقت المتاح وخضوعها لمنطق التراتبية في تقييم مستويات الطلاب الذين تقدموا للامتحان وذكائهم.
وحين أدرك الأستاذ أن كثيرا من الأسئلة حلت باستخدام الذكاء الاصطناعي بسبب اختلاف الأدوات المطبقة في الحل عما تعلمه الطلاب في دروسهم من جهة، وبسبب تطابق الأجوبة بدقة متناهية من جهة ثانية… فكر بإلغاء الامتحان! لكن ما الحل البديل في سياق الامتحانات التي تجرى عن بعد بواسطة الإنترنت؟ هل من بديل؟ هل من حلول معقولة؟
ما الذي يمكننا فعله؟لا بد بداية أن نحرر مشاعر الخوف من تهديد الذكاء الاصطناعي لمستقبلنا المهني، ولا بد من الانفتاح عليه والتعامل معه واحتضانه بوصفه أداة تكنولوجية جديدة مثل كل ما سبقه من تطور برمجي، والاطلاع على مستجداته وتطبيقاته باستمرار والإحاطة بها ومجاراتها، والتفوق عليها باكتساب مهارات جديدة وتطوير القدرات والكفاءات الحالية بخطوات استباقية نحو التعلم والنمو، وأسلوب يصعب على الذكاء الاصطناعي تقليده.
لذا ينبغي أن نسير في مجال تعليم اللغات، واللغة العربية خاصة نحو إبداعات مبتكرة، تؤكد أنه لا غنى عن الإنسان في مجال التعليم القائم على التفاعل الإنساني المحض، وأن الذكاء الاصطناعي ليس إلا أداة تكنولوجية للتسهيل والتيسير، قادرون على تطويعها واستثمارها والإفادة منها إلى أقصى حد، لا سيما أن تعليم اللغات يحتاج إلى ذكاء اجتماعي وعاطفي، ناهيك عن القدرة على التفكير التقابلي والمقارن بين اللغات لتحرير الفروق وتثبيتها في عقول المتعلمين.
يرى معظم المبرمجين العاملين في هذا المجال أن الذكاء الاصطناعي أشبه بثورة مخادعة، ويمكننا على المدى القريب الاطمئنان إلى أنه محض تقنية برمجية جديدة فحسب، فالبرنامج الأشهر "شات جي بي تي" معد ومبرمج لاستخراج كم هائل من المعلومات المتوفرة على شبكة الإنترنت أساسا، لكننا نكتفي ببعض المواقع للبحث عما نريده، وأكبر اعتماد لمعظم الناس هو البحث في غوغل، أضف إلى ذلك عامل السرعة والقدرة على الترتيب والتركيب المعرفي، فعقولنا تقوم زمنيا على اعتماد الثانية بوصفها أصغر مؤشر زمني للقيام بنشاط ما، لكن الحواسيب تعتمد أجزاء من أجزاء من الثانية… وهذا هو سر الإبهار.
قد يستمتع بعضنا بالتعلم عن طريق التكنولوجيا وما تقدمه من مواقع وتطبيقات، فالمعلم الإلكتروني لن يمل من كثرة السؤال وتكراره، ولن يضجر من إعادة المعلومة نفسها عشرات بل مئات المرات… وأكثر! ولا حضور لنفسية المعلم في هذا الإطار، سواء أكان فرحا أم حزينا، راضيا أم ساخطا، ودودا أم فظا؛ فلا أثر لذلك، ولا انعكاس له على عملية التعليم.
لكن ذلك لن يلغي وجود الإنسان إلغاء مطلقا، فطبيعة البشر تقوم على حب الاجتماع، ويميل الإنسان إلى الالتقاء ببني جنسه والتفاعل معهم، وأكبر مثال على ذلك هو رواج الألعاب الإلكترونية المسيّرة من قبل الإنسان بين صفوف الشباب والأطفال على حد سواء؛ تلك الألعاب القائمة على تفاعل الناس مع بعضها عن بعد بوساطة تطبيق برمجي معين.
لذا دعونا نطمئن إلى كينونة وجودنا في حياة الآخرين من حولنا بوصفنا أجزاء حقيقية من سيرورة الحياة وصيرورتها، فلا غنى لأحدنا عن التفاعل الإنساني مهما امتد حضور الآلة في تفاصيل حياتنا، ومهما تطورت وتفوقت بإمكاناتها وذكائها الاصطناعي.
في ختام الكلام لا ينبغي أن ننسى أننا نتعامل مع آليات وبرمجيات من صناعة البشر أنفسهم، فمهما تطورت سيبقى قيادها بيد العقل البشري، على أن ذلك لا ينفي أننا نواجه تحديا حقيقيا يحتاج إلى انفتاح نفسي ونظرة إيجابية وقدرة على التكيف ومرونة في التعامل مع كل وافد تقني جديد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
سد فجوة مهارات الذكاء الاصطناعي في عام 2025
يوشك الذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل الصناعات في مختلف أنحاء العالم، وهنا تظهر مفارقة. فعلى الرغم من الطلب المتزايد على الأشخاص الذين يملكون المعرفة اللازمة للاستفادة من إمكانات التكنولوجيا، يظل المعروض من المهارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي غير كاف.
أصبحت ندرة المهارات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي - من إتقان فن التعلم الآلي، والهندسة السريعة، وعلوم البيانات إلى فهم الآثار الأخلاقية المترتبة على استخدام الذكاء الاصطناعي - تشكل عقبة كبرى تحول دون نشر التكنولوجيا بشكل فعّال. في أحد التقارير الأخيرة، يقول 47% من المديرين التنفيذيين: إن موظفيهم يفتقرون إلى المهارات اللازمة. سوف يؤثر هذا على قدرة الشركات على نقل مشروعات الذكاء الاصطناعي من التصور إلى التنفيذ. وجد تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2023 أن «ستة من كل عشرة عمال سيحتاجون إلى التدريب قبل عام 2027، لكن نصف العمال فقط يُنظر إليهم على أنهم يتمتعون بالقدرة على الوصول إلى فرص التدريب الكافية اليوم».
تنذر فجوة المهارات هذه بالسوء ليس فقط فيما يتصل بالنمو المهني الفردي، بل أيضا النمو الاقتصادي في عموم الأمر. تتطلب الاستفادة من الفرص التي يقدمها الذكاء الاصطناعي نهجا مستحدثا في التعامل مع التعليم والتدريب.
في العام المقبل، من المرجح أن توظف المؤسسات التعليمية والمهنية قدرًا أكبر كثيرًا من التركيز على تعليم مهارات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتقديم التعلم المرن مدى الحياة، ودمج الذكاء الاصطناعي في عروضها لتصبح أكثر قدرة على المنافسة. سوف تصبح مهارات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مصدر قلق أساسيا - ولسبب وجيه. ففي غضون بضع سنوات فقط، أصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي متاحا لأي شخص لديه جهاز كمبيوتر واتصال بالإنترنت.
من منظور أصحاب العمل وأقسام تكنولوجيا المعلومات لديهم، يثير هذا مشكلة «ذكاء الظل الاصطناعي»، أو الاستخدام غير المصرح به للذكاء الاصطناعي التوليدي من قِـبَـل الموظفين، والذي قد يعرض الشركات لمجموعة واسعة من المخاطر الأمنية، والمخاطر المرتبطة بالامتثال للقوانين والسمعة. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج قوة العمل إلى مهارات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لإدارة وكلاء الذكاء الاصطناعي الجدد: الأدوات التي يمكنها أتمتة المهام المعقدة (تشغيلها آليا) التي تتطلب بخلاف ذلك موارد بشرية.
يتطلب ذكاء الظل الاصطناعي والذكاء الاصطناعي الوكيل إقامة حواجز جديدة لمساعدة المستخدمين على حماية تطبيقات الذكاء الاصطناعي القائمة على ممارسات الذكاء الاصطناعي المسؤولة. لتحقيق هذه الغاية، سيبدأ مقدمو التعليم تركيز التدريب على أساسيات قابلية الذكاء الاصطناعي للتفسير، ومدى عدالته، ومتانته، وشفافيته، وخصوصيته. فبدون فهم أساسي للكيفية التي تعمل بها نماذج الذكاء الاصطناعي على توليد مخرجاتها، على سبيل المثال، لن يكون المسؤولون عن حماية البيانات أو التحكم في الأنظمة المستقلة مجهزين بشكل جيد للاضطلاع بهذه المهمة. مع تطور الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الجديدة بسرعة، سيصبح التعلم مدى الحياة هو الوضع الطبيعي الجديد. ومن الممكن تقسيم العملية إلى تطوير المهارات التي تلبي الاحتياجات الفورية، وتتوقع احتياجات المستقبل، وتوفر الخبرة المطلوبة دائمًا.
وسوف تتغير أدوار تقليدية عديدة داخل المنظمة قريبًا. على سبيل المثال، قد ينضم بعض الموظفين الذين يعملون حاليا بشكل مستقل (الذين لا يديرون أشخاصًا آخرين) إلى أنماط جديدة من الفرق التي يدير فيها البشر وكلاء الذكاء الاصطناعي. ولإعدادهم لهذا التغيير الأساسي، من المرجح أن يزداد الطلب على الدورات التدريبية عبر الإنترنت، والمؤهلات الرقمية في المجالات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي مثل: معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي. علاوة على ذلك، سيستمر استخدام الحوسبة الكمومية في المستقبل في دفع الحاجة إلى مهارات جديدة. يؤكد الارتفاع المضطرد في عدد وتنوع الهجمات السيبرانية - مثل عمليات الاختراق التي تعتمد على مبدأ «الحصاد الآن وفك التشفير لاحقا» - على أهمية المهارات الدائمة التحديث في مجال الأمن السيبراني.
لهذا السبب تعمل مؤسستنا مع الكليات المجتمعية في أربع ولايات أمريكية لتقديم شهادة جديدة في مجال الأمن السيبراني من شأنها أن تعد الطلاب لأدوار مطلوبة في مختلف تخصصات قوة العمل. وعلى نحو مماثل، يوفر تعاوننا مع معهد بوليتكنيك سنغافورة وكليات وجامعات السود تاريخيا في الولايات المتحدة التدريب المجاني في مجال الذكاء الاصطناعي للمتعلمين الشباب. وفي حين قد تبدأ هذه العملية في الفصول الدراسية، يمكننا أيضا أن نتوقع رؤية مزيد من الفرص لرفع المهارات مع تطور التكنولوجيات ذات الصلة. لقد أصبح التعلم مدى الحياة أمرًا لا غنى عنه لأي شخص يريد أن يظل قادرًا على المنافسة في سوق العمل. أخيرًا، تستطيع تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة (التشغيل الآلي) أن تجعل منصات التعليم القائمة أكثر فعالية، كما من المرجح أن نرى في عام 2025. فقد وصلت الحلول التي تعمل بالذكاء الاصطناعي إلى نقطة تحول من كونها شيئًا من اللطيف اقتناؤه إلى ضرورة يجب الحصول عليها. وسوف يجد المعلمون، سواء في المدارس أو غيرها من المنظمات، طرقًا جديدةً لتوظيف أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتخصيص وتفصيل تجارب التعلم حسب الحاجة، وفهم احتياجات الطلاب ومضاهاتها مع الدورات ذات الصلة، أو تعزيز التدريب والمردود. من الممكن أيضًا أن تعمل ذات التكنولوجيات على تعزيز جوانب خدمة العملاء في التعليم. على سبيل المثال، في شركة IBM، رأينا بالفعل فوائد استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل المردود من أكثر من 60 ألف متعلم بسبع وأربعين لغة، وقد دفعنا هذا إلى تبسيط التسجيل عبر الإنترنت وغير ذلك من أقسام العملية.
في السنوات القادمة، سوف تستفيد أنظمة ومنصات التعليم أيضًا من نماذج الذكاء الاصطناعي المتعددة الوسائط التي يمكنها معالجة الصوت، والفيديو، والرسوم البيانية، والصور لتوفير تجربة تعليمية أكثر فعالية وفردية. من خلال تبني الذكاء الاصطناعي، يصبح بوسعنا تعزيز التعلم والنتائج المهنية، وتحسين الكفاءة التشغيلية، وخفض التكاليف في مختلف قطاعات الاقتصاد. لكن كل هذا يتطلب تطوير قوة العمل الماهرة التي نحتاج إليها.