فيلم الكونت.. بينوشيه مصاصا للدماء في كابوس هزلي
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
ربما يعرفه الجمهور أكثر من خلال أعماله السيرية التي صنعها خارج تشيلي مثل "جاكي" و"سبنسر" التي تتناول شخصيات تاريخية معقدة مثل جاكلين كينيدي والأميرة ديانا، لكن أكثر أعمال المخرج التشيلياني بابلو لارين أصالة وخصوصية هي تلك التي صنعها في تشيلي. صنع لارين في الفترة الممتدة من 2008 إلى 2012 ثلاثة أفلام أطلق عليها النقاد "ثلاثية الديكتاتورية"، والتي تضم "Tony Manero" و"post mortem" و"No".
يعود لارين في كل فيلم من ثلاثيته إلى زمن بينوشيه المظلم كما لو كان الأمر هاجسا ملحا أو هوسا مظلما. تلح فكرة الماضي في سينما لارين باعتبارها حلم يقظة صادما لا يزال يطارد الواقع ويربكه. كان لارين مفتونا ببينوشيه لعقود من الزمن. عندما كان طفلا كان يشاهده على شاشة التلفزيون ويشعر بالنفور الغريزي، وعندما صار مخرجا صنع أفلاما عن التأثير المدمر للديكتاتور على وطنه.
يعترف لارين بأن بينوشيه هو الوقود الأساسي في خزانة محركه، لا يستطيع أن يتخيل نوع المهنة التي كان سيمارسها لو لم يكن الرجل موجودا. تحتاج كل أشكال السرد إلى أزمة، إلى كارثة ما، وصادف أن كان بينوشيه هو كارثته الخاصة. يتحرك بينوشيه بشره الخبيث كشبح في خلفية أفلامه، نرى أثره المدمر لكن لا نراه. هذه المرة وفي فيلمه العاشر "الكونت (El Conde)" يقرر لارين أن يحدق مباشرة في عيني الشر.
يبنى لارين هنا نصه الفيلمي الذي كتبه رفقة "جييرمو كالديرون" على إعادة تصور "بينوشيه/جايمي فاديل" كمصاص دماء يبلغ من العمر 250 عاما، زيف موته وهرب إلى عقار متهدم في ريف باتاجونيا. إثر أزمة وجودية، يقرر الكونت كما يحب أن يلقب التوقف عن شرب الدم والتخلي عن امتياز الحياة الأبدية. ومع ذلك، على الرغم من عائلته المخيبة للآمال والانتهازية، فإنه يجد إلهاما جديدا لمواصلة العيش في علاقة غير متوقعة. ظنا أنه قد يموت أخيرا، يجتمع أطفال الأيقونة الفاشية حوله على أمل معرفة المكان الذي خبأ فيه الثروة التي صنعها خلال فترة حكمه الطويلة والوحشية.
عن الزوايا غير المطروقة للتاريخيعتقد الجمهور بأن الفنان يصبح أكثر مسؤولية وأمانة حين يلتزم بحقائق التاريخ. سرديات لارين دائما ما تزعج وتربك الجمهور بالزوايا غير التقليدية التي يستعيد من خلالها التاريخ. حين انتُقد على عدم التزامه بالوقائع الحقيقية في فيلمه "No" الذي يتناول وقائع الحملة الإعلامية الضخمة التي أسقطت بينوشيه في الاستفتاء الشعبي على تولية الحكم لفترة رئاسية جديدة، أجابهم أن المخرج مثل طفل يلهو بقنبلة لا يعرف أبدا نتائج ما يفعله. يبدو لارين في فيلمه الأحدث كما لو كان يلهو بأكثر من قنبلة في يده. إنه فيلم مفخخ في الواقع، إذ لا يكتفي بمزج الواقع بالخيال، بل يتلاعب بالنوع الفيلمي نفسه ليمزج بين الكوميديا السوداء، والسخرية السياسية "الساتير" والرعب.
حين تشاهد أيضا بينوشيه في زيه الرسمي وعباءته يطير فوق العاصمة سانتياغو ليصطاد ضحاياه الأبرياء يبدو كنسخة مشوهة وشريرة من باتمان أو أحد الأبطال الخارقين. يصف لارين بينوشيه في نسخته السينمائية مثل بطل خارق للشر(1). يبدو امتزاج الواقع والمتخيل وتفاعلهما حد التماهي كبصمة سردية مميزة للمخرج.
ربما استلهاما لمقولة ماركس الشهيرة "التاريخ يعيد نفسه فى المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة"، يعيد لارين بينوشيه في الذكرى الخمسين لصعوده للسلطة للحياة مجددا، لكن هذه المرة كمهزلة.
تميل كوميديا "الفارص" أو المهزلة نحو المبالغات والتنميط والمواقف غير المحتملة، وطالما كانت وسيلة فعالة في مواجهة الشر. هذه هي المرة الأولى التي يدور فيها فيلم حول شخصية بينوشيه واختار لارين أن يقدمه عبر عدسة الكوميديا السوداء. ما تفعله هذه المقاربة الساخرة أنها تحول هذه الشخصيات التي في أذهان الجمهور أكبر من الحياة نفسها إلى مادة للسخرية، يتم تقليص رعبهم إلى درجة يصعب معها أخذهم على محمل الجد.
يتحدث المخرج الكبير ميل بروكس عن هذا النهج لمقاربة أشرار التاريخ بأنه يجردهم من كل تأثير أو جاذبية، وهذا هو بالتحديد ما أراد أن يفعله لارين مع بينوشيه. ومع ذلك، يعترف لارين بأن أصعب ما واجهه خلال صنع فيلمه كان إيجاد النبرة المناسبة، لكنه وجد إلهامه في فيلم "د.سترانجلوف (Dr. Strangelove)" للمخرج الكبير ستانلي كوبريك(2)، حيث خاطر كوبريك في وقت مبكر جدا في تقديم معالجة هزلية لأبوكاليبس نووي متخيل.
يحرم لارين بينوشيه من أي تعاطف محتمل عبر تجريده من إنسانيته، وتحويله إلى مصاص دماء حقيقي يتغذى على قلوب ضحاياه. واحد من لمسات الكوميديا النافذة في الفيلم حين تتحدث إحدى بنات بينوشيه مع راهبة أتت سرا لتقديم طقوس طرد الشيطان من داخل الكونت. تخبرها الابنة أنها إن طردت الشيطان من داخله فلن يتبقى شيء آخر. هكذا يخبر بينوشيه خادمه أيضا أنه مجرد حيوان ليلي.
يبدأ الفيلم بفرضية هزلية، فالكونت الخالد يعاني من أزمة وجودية يقرر على إثرها التوقف عن شرب دماء الضحايا. إنه يشعر على نحو يائس أن شعبه قد خذله بعد اتهامه بأنه لص. يعبر بينوشيه بالقول إنه يفضل أن يوصف بأنه قاتل عن اتهامه بأنه لص. وعلى إثر ذلك، يعتقد الأبناء أن الوقت قد حان من أجل معرفة الأموال التي كنزها الأب خلال حكمه قبل أن تظهر الراهبة في حياته لتحقن الرغبة مجددا في شرايينه اليابسة ليأخذ السرد منعطفات غير متوقعة.
الملامح القوطية للرعبينجح لارين هنا في خلق مزاج "قوطي" مؤثر لفيلمه. يتغذى القوطي على ما هو مخيف، لذلك ينسج مشهدياته عبر القبور والمنازل المهجورة المسكونة بمصاصي دماء، إلى جانب المقصلة العتيقة التي تعاود الظهور خارج زمانها. تستعير سينماتوجرافيا المصور السينمائي المخضرم إدوارد لاشمان ملامح سينما الرعب كما تجلت في عقدي الثلاثينات والأربعينات، لمسات هنا وهناك من "مورناو" و"دراير". هذا التناقض البارز بين نبرة الفيلم الساخرة ومشهدياته القوطية المقلقة تمنح الفيلم طابعا أصيلا، بالإضافة لأنه لا يمكن ربط السرد بفيلم آخر. إنها حكاية فريدة جدا لأنها تشيلية جدا.
لا يشيح المخرج بكاميراه بعيدا عن العنف. يحتوي فيلمه على بعض اللقطات شديدة العنف، ولكن العنف هنا جوهري في تصوره عن فاشية بينوشيه، حيث نجده يردد في أغلب حواراته مقولة أن الفاشية تبدأ بابتسامة ثم تتحرك نحو الخوف وتنتهي بالعنف، لذلك فالعنف هو الوجه الحقيقي للفاشية.
يحمل الفيلم أيضا ملامح أحد أنواع سينما الرعب الفرعية المسماة (Hammer horror)، وهي أفلام رعب وخيال قوطي أنتجت في الفترة الممتدة من منتصف خمسينات القرن الماضى ونهاية سبعيناته بواسطة شركة إنتاج محدود بريطانية تدعى "هامر فيلمز". اتسمت أفلام هذه الفئة بالتلاعب بحبكات وشخصيات سينما الرعب الكلاسيكية، خالقة شخصيات يصعب التعاطف معها (3). في سينما الرعب الكلاسيكية غالبا ما كانت الوحوش تحمل ظلالا رومانسية. هنا الوحوش بلا روح، وكل شخصيات الفيلم يطولها الفساد، حتى تلك التي بدت بريئة وملائكية في البداية. أغلب الشخصيات نهمة، منفرة وبلا عاطفة أو شخصية. تنجح أيضا نبرة السخرية والعبثية والتصوير بالأبيض والأسود بإبقاء مسافة بين المشاهد وهذه الشخصيات لا تسمح بالاقتراب الحميمي أو التعاطف.
النفس ما بعد الحداثي للسردكذلك فإن المنهج الذي يقارب به لارين التاريخ يخالطه نفس "ما بعد حداثي" (4)، حيث يغلب الهزلي على المأساوي، ويجنح نحو ما هو عبثي بديلا عن التحليل المنطقي للظواهر. تظهر ملامح ما بعد الحداثة من خلال المزج المتعمد للأنواع السينمائية ما بين الدعابة السوداء والرعب والفيلم السياسي، خالقا فضاء فيلما يصعب تحديده، بالإضافة إلى "التناص البصري" بين سينماتوغرافيا الفيلم وعدد من أفلام الرعب الكلاسيكية وغير الكلاسيكية. هذا الانفتاح والميل للتجريب من أهم سمات سينما ما بعد الحداثة.
ينتقد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وهو أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة فكرة مقاربة السلطة عبر لغة رمزية غير مباشرة، فيقول في أحد جدالاته: "إذا كان هناك من يقفون على أبوابنا، يحاصروننا ويهددوننا مثل أكلة لحوم البشر، فيجب علينا إظهارهم وهم يأكلون اللحم البشري، إذ لم يعد الأمر هنا مجازا بل برهنة" (5).
هذا ما يتبعه لارين في فيلمه فهو يعري بينوشيه من أي مجاز أو تشبيه، بل يصوره كمصاص دمائي على نحو حرفي، نراه يشق صدور ضحاياه ويستخرج قلوبهم ويلتهمها أو يضربها في خلاط ليصنع منها مشروبه المفضل. هذا يحرر المعنى ويكثف الحقيقة.
كم مرة على التاريخ أن يعيد نفسه؟يصرح لارين أن أحد أهم الأسباب التي دفعته لصنع هذا الفيلم أنه للآن وبعد مرور 50 عاما على تراجيديا صعود بينوشيه للسلطة لا يزال هناك قطاع من الشعب يصل إلى ثلثه ما زالوا يكنون له احتراما كبيرا، وينظرون إليه باعتباره مديرا ماهرا لأموال الدولة وحصنا قويا ضد الاشتراكية، مرددين نفس الحجة الغربية القديمة التي زرعها بينوشيه نفسه.
يفلت بينوشيه في فيلم لارين من أي محاكمة مثلما أفلت في الواقع، هذه الحصانة ضد العدالة تجعله خالدا كمصاص دماء. ينتهى الفيلم بميلاد جديد، يولد بينوشيه طفلا مرة أخرى باسم آخر، لكنه يحمل بداخله كامل ظلام الكونت الخالد الذي يعبر الأزمان كمبدأ كوني. بهذه النهاية تطرح سردية لارين هذا السؤال المفخخ: لماذا يحتاج التاريخ إلى تكرار نفسه من أجل تذكيرنا بمدى خطورة الأشياء؟
عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي في دورته الأخيرة التي انعقدت في الفترة ما بين 30 أغسطس/ آب وحتى 9 سبتمبر/ أيلول، وحصل على جائزة أفضل سيناريو في المسابقة الرسمية. الفيلم متاح الآن للعرض على شبكة نتفليكس.
____________________________________________
المراجع:
(1) Pablo Larraín talks about his new film EL CONDE: (2) Pablo Larraín on the Satire of ‘El Conde’: (3) about hammer films: (4) تعريف مفهوم ما بعد الحداثة (5) كتاب دروب ما بعد الحداثة للكاتب بدر الدين مصطفي- مؤسسة هنداوي.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی الفترة فی فیلمه فی فیلم
إقرأ أيضاً:
عرف أجدادنا الاكتئاب لذلك صنعوا أول مستشفى نفسي في التاريخ
في الإسلام يُعدّ الإنسان كيانًا متكاملا يجمع بين الجسد والنفس والروح، وهذا التكامل يتجلى في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. على سبيل المثال، يوضح القرآن الكريم في العديد من المواضع أهمية العناية بالنفس، ويشدد على ضرورة توازن الجسد والروح لتحقيق الصحة العامة؛ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس: 9-10).
ومنذ البدايات الأولى للحضارة الإسلامية، أولى المسلمون وعلماؤهم اهتمامًا كبيرًا بالمسائل النفسية واضطراباتها، فكان الاهتمام بالروح والنفس جزءًا لا يتجزأ من النهج الإسلامي الشامل في رعاية الإنسان جسدًا وروحًا، وقد بدأت هذه الرؤية تتجلى بوضوح مع تطور الحضارة الإسلامية خلال القرون الأولى.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ما العلاقة بين الإلحاد والطب النفسي؟list 2 of 2عندما كشف علم النفس الغربي عن وجهه العنصريend of listاعتمد العلماء المسلمون في دراساتهم على القرآن الكريم والسنة النبوية أساسًا لفهم النفس البشرية واضطراباتها. وكان من بين هؤلاء العلماء الأوائل ابن سينا (أفيسينا) الذي يُعد أحد أبرز الفلاسفة والأطباء في التاريخ الإسلامي. قدّم ابن سينا إسهامات جليلة في فهم النفس البشرية من خلال كتابه الشهير "القانون في الطب"، حيث فصّل في تأثير الحالات النفسية على الصحة العامة للإنسان وكيفية علاجها بطرق علمية ومنهجية.
إعلانلم يقتصر اهتمام العلماء المسلمين على النظريات النفسية فقط، بل تجاوز ذلك إلى التطبيق العملي في علاج الأمراض النفسية.
ومن بين هؤلاء العلماء نجد أبو بكر الرازي (865-925م) الذي ألف كتبًا متعددة في الطب والنفس، منها "الحاوي" الذي فصل فيه في تشخيص الأمراض النفسية وعلاجها. كان الرازي يعتمد على أساليب علاجية شاملة تشمل العلاجات الروحية والنفسية والجسدية، وكان للرازي دور بارز في تطوير مفهوم الطب النفسي إذ كان يستخدم العلاج بالموسيقى والروائح واهتم بالبعد الروحي في العلاج النفسي.
أحد أبرز مظاهر العناية بالمسائل النفسية في الحضارة الإسلامية هو إنشاء بيمارستانات (مستشفيات) بغداد في القرن الثامن الميلادي، ويعدّ بيمارستان الرشيد في بغداد أول مستشفى نفسي في التاريخ. هذا البيمارستان لم يكن مجرد مكان للعلاج، بل كان مؤسسة متكاملة تهتم برعاية المرضى النفسيين بطرق إنسانية وعلمية متقدمة جدا بالنسبة لذلك العصر، وكان يتم توفير بيئة علاجية مريحة تضم حدائق ومياه جارية وأجواء هادئة تساعد المرضى على التعافي.
كانت البيمارستانات في العالم الإسلامي جزءًا من المجتمع، ولم تكن منعزلة بل كانت في قلب المدن، مما يسهل على الناس زيارة المرضى وتقديم الدعم الاجتماعي لهم. هذا يعكس الرؤية الإسلامية الشاملة للعلاج النفسي، التي تعدّ الدعم الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من رحلة التعافي. على سبيل المثال، كانت المستشفيات جزءًا من مجمعات أكبر تضم المساجد والمؤسسات التعليمية، مما يعزز الشعور بالانتماء والدعم المجتمعي.
يتضح من هذا العرض أن المسلمين وعلماءهم أولوا اهتمامًا كبيرًا بالمسائل النفسية واضطراباتها منذ بدايات الحضارة الإسلامية. وهذا الاهتمام لم يكن نظريا فقط، بل كان تطبيقيًّا من خلال إنشاء مؤسسات علاجية متقدمة تهتم برعاية المرضى النفسيين بطرق إنسانية وعلمية متقدمة.
إن دراسة هذه الجوانب من التاريخ الإسلامي تسهم في فهم أعمق لكيفية تعاطي المسلمين مع الصحة النفسية وتوفير الرعاية اللازمة لها.
معايير طبية عالية واعتبارات إنسانية منقطعة النظيرتُعد بيمارستانات بغداد النفسية من أبرز المعالم في تاريخ الطب النفسي، وقد أسس أول بيمارستان نفسي في التاريخ بمدينة بغداد في القرن الثامن الميلادي. كان لهذه البيمارستانات دور كبير في تقديم الرعاية الصحية النفسية بطرق إنسانية وعلمية متقدمة، وذلك يعكس مستوى التطور الحضاري والعلمي الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت.
إعلانتم تأسيس أول بيمارستان نفسي في بغداد عام 805م على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد، ويعدّ هذا البيمارستان أول مؤسسة طبية في التاريخ تخصصت في علاج الأمراض النفسية بطرق علمية ومنهجية. وقدم البيمارستان خدماته لكل من المسلمين وغير المسلمين، بما يعكس روح التسامح والانفتاح التي كانت سائدة في الحضارة الإسلامية آنذاك.
تميزت عمارة البيمارستان النفسي في بغداد بتصميمها الفريد الذي يهدف إلى توفير بيئة مريحة وملائمة للمرضى النفسيين. وكان البيمارستان يقع في قلب المدينة لتسهيل الوصول إليه وتعزيز الدعم الاجتماعي للمرضى. احتوى البيمارستان على حدائق ومياه جارية وأماكن هادئة تساعد على تهدئة المرضى وتوفير بيئة علاجية مريحة، وكانت المباني مصممة بعناية لضمان تهوية جيدة ونظافة مثلى، بما يعكس الفهم العميق للعلاقة بين البيئة والصحة النفسية.
كان نظام البيمارستان النفسي في بغداد متقدمًا بشكل كبير بالنسبة لذلك العصر، إذ اعتمد البيمارستان على نهج شامل في تقديم الرعاية النفسية، حيث تم تقسيم المرضى بناء على نوع الاضطراب النفسي الذي يعانون منه. وكان لكل مريض غرفة خاصة تحتوي على مساحة لتخزين ممتلكاته الشخصية، مما يساعد على خلق شعور بالألفة والراحة، كما كانت حالة المرضى تراقب بانتظام من قبل الأطباء والممرضين لضمان تقديم الرعاية المثلى.
اللوحة الموجودة على جدار بيمارستان أرغون في حلب بسوريا تخلد ذكرى تأسيسه على يد الأمير أرغون الكاملي في منتصف القرن 14، وقد تضمنت رعاية الأمراض العقلية فيه وفرة من الضوء والهواء النقي والمياه الجارية والموسيقى.
إلى جانب بيمارستان بغداد، أنشئت بيمارستانات أخرى في مدن إسلامية كبرى مثل القاهرة ودمشق. فبيمارستان المنصوري في القاهرة الذي أسسه السلطان قلاوون في القرن 13 كان من أكبر المستشفيات في العالم الإسلامي وقدم خدمات طبية متنوعة بما في ذلك الرعاية النفسية، وكذلك بيمارستان نور الدين في دمشق كان يقدم خدمات متميزة للمرضى النفسيين وكان يعدّ مركزًا تعليميا مهما للأطباء والممارسين.
إعلان الاعتبارات الإنسانية في التعامل مع المرضىكان الاعتبار الإنساني جزءًا أساسيا من منهجية العلاج في البيمارستان النفسي في بغداد، فقد كان المرضى يتلقون معاملة تتسم بالكرامة والاحترام، مع توفير كل الظروف التي تساعد على تعافيهم. وكانت البيمارستانات تقدم علاجات متنوعة تشمل العلاجات الروحية مثل تلاوة القرآن والعلاج بالموسيقى الطبيعية، بالإضافة إلى العلاجات الجسدية مثل الحمامات و"المساج" (التدليك) والتغذية الصحية. وكان الهدف من هذه العلاجات هو تقديم رعاية شاملة تركز على الجوانب النفسية والجسدية والروحية للمريض.
توفير نظام بيئي وطبيعي متكامل للمرضىكان تصميم البيمارستان يهدف إلى توفير بيئة خصبة تساعد على التعافي؛ فقد كانت الحدائق والمياه الجارية تلعب دورًا مهما في تهدئة المرضى وتوفير بيئة مريحة، كما كان يتم توفير العلاج بالموسيقى الطبيعية، وذلك باستخدام أصوات المياه والطيور للمساعدة في تهدئة المرضى. وكانت التغذية الصحية جزءًا أساسيا من العلاج، فكان يجهز الطعام بعناية لضمان تقديم وجبات مغذية تساعد على تعزيز الصحة العامة للمرضى.
الدعم الاجتماعي وإعادة الإدماجكان الدعم الاجتماعي ركنًا أساسيا في نظام العلاج في البيمارستان النفسي ببغداد، فقد كانت المستشفيات تقع في قلب المدينة، مما يسهل على الأهالي والأصدقاء زيارة المرضى وتقديم الدعم لهم. وكانت تقدم مساعدات مالية للمرضى عند خروجهم من المستشفى لمساعدتهم على إعادة الاندماج في المجتمع وتخفيف الضغوط المالية التي قد يواجهونها بعد العلاج.
يُعد بيمارستان بغداد النفسي نموذجًا متقدمًا للرعاية النفسية الشاملة التي تعتمد على نهج إنساني وعلمي في التعامل مع المرضى. ويعكس هذا النموذج مستوى التطور الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في فهم الأمراض النفسية ومعالجتها، ويقدم دروسًا قيمة يمكن الاستفادة منها في تطوير نظم الرعاية الصحية النفسية في العصر الحالي.
تصنيف العلماء المسلمين الأوائل للمشكلات النفسية واضطراباتهاكان العلماء المسلمون الأوائل يتمتعون بفهم متقدم للمشكلات النفسية واضطراباتها، وقاموا بتصنيفها ودراستها بشكل منهجي. وأسهم العديد من العلماء البارزين في هذا المجال، ومن بينهم ابن سينا (أفيسينا) والرازي والكندي وأبو زيد البلخي.
إعلانيُعتبر أبو زيد البلخي (850-934م) من أبرز العلماء الذين قدموا إسهامات مهمة في تصنيف الاضطرابات النفسية. ففي كتابه "مصالح الأبدان والأنفس"، صنف البلخي الاضطرابات النفسية في 4 أنواع رئيسية: القلق والخوف، الغضب والعدوانية، الحزن والاكتئاب، الوساوس، وكان أول من ناقش الترابط بين الصحة النفسية والجسدية، مؤكدًا أن الأمراض النفسية يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات جسدية والعكس صحيح.
يُعد ابن سينا من أبرز الأطباء والفلاسفة في التاريخ الإسلامي، وقدم إسهامات جليلة في مجال الطب النفسي. ففي كتابه "القانون في الطب"، قدم ابن سينا تصنيفات مفصلة للمشكلات النفسية، مثل الأرق، وفقدان الذاكرة، والهوس، والرهاب، والاكتئاب. وكان يعتقد أن الاضطرابات النفسية يمكن أن تنشأ من اختلالات في توازن الأخلاط الأربعة (الصفراء، السوداء، الدم، البلغم) التي تؤثر على الجسم والعقل.
كان الرازي المعروف بأبي بكر محمد بن زكريا الرازي من أوائل الأطباء الذين اهتموا بالطب النفسي. كتب الرازي العديد من الكتب عن الأمراض النفسية، منها "الحاوي" و"الطب الروحاني". وفي هذه الكتب، ناقش الرازي مفهوم الاكتئاب، وفرق بين الاكتئاب والتفكير المشوش، مشيرًا إلى أن الشخص المكتئب يعاني من الضياع أما الشخص المشوش فيعاني من اضطراب عقلي مستمر.
قدم الفيلسوف والعالم الكندي إسهامات مهمة في فهم النفس البشرية، فكتب عن الوظائف الإدراكية والروح، ورأى أن العقل والجسم يجب أن يكونا في توازن لتحقيق الصحة النفسية. وكان يؤمن بأن الأمراض النفسية يمكن علاجها من خلال إعادة التوازن بين العقل والجسم، ففي كتابه "رسالة في العقل" تناول الكندي العلاقة بين العقل والجسد وكيفية تأثير الاضطرابات النفسية على الصحة العامة.
قدم الفيلسوف والعالم الفارابي (870-950م) إسهامات مهمة في فهم النفس البشرية والاضطرابات النفسية. وكتب الفارابي عن الصحة النفسية في كتابه "المدينة الفاضلة" حيث تطرق إلى العوامل التي تسهم في تحقيق السعادة والصحة النفسية، وأشار إلى أهمية التوازن بين الجسد والعقل لتحقيق الصحة النفسية المثلى.
اعتمد العلماء المسلمون على نظريات الإغريق الكلاسيكية وقاموا بتطويرها وتصنيفها بطريقة منهجية. على سبيل المثال، صنف ابن سينا الاضطرابات النفسية وفقًا لأسبابها الجسدية والعقلية، واعتبر أن الاضطرابات النفسية يمكن أن تكون ناجمة عن اختلالات في توازن الأخلاط في الجسم، وأوصى بعلاجات جسدية مثل الأعشاب والعلاجات الروحية مثل تلاوة القرآن.
إعلاناستخدم العلماء المسلمون مجموعة متنوعة من العلاجات النفسية التي تشمل العلاجات الروحية مثل تلاوة القرآن، والعلاجات الجسدية مثل الأعشاب والموسيقى. وكانوا يؤمنون بأن الصحة النفسية تعتمد على توازن الجسد والعقل، وأن العلاج يجب أن يكون شاملًا للجوانب الجسدية والعقلية والروحية.
مقاربة بين الأوضاع الحديثة للمستشفيات النفسية ومستشفيات المسلمين القديمةرغم التطور الكبير الذي شهدته الرعاية الصحية النفسية في العصر الحديث، فإن المقارنة بين المستشفيات النفسية الحالية ومثيلاتها في العصر الإسلامي تظهر مدى التقدم الأخلاقي والإنساني الذي حققته المستشفيات الإسلامية القديمة. ويُظهر هذا التقدم كيف كانت المبادئ الإسلامية في رعاية المرضى النفسيين تتفوق في بعض النواحي على الممارسات الحديثة.
الخصوصية والكرامة
كانت المستشفيات النفسية في العصر الإسلامي تُولي اهتمامًا كبيرًا بكرامة المرضى وخصوصيتهم، فكانت توفَّر غرف خاصة لكل مريض مع مساحة لتخزين ممتلكاته الشخصية، مما يعزز شعور المرضى بالألفة والراحة. وفي المقابل، تعاني بعض المستشفيات النفسية الحديثة من نقص في الخصوصية، حيث يتم تجميع المرضى في غرف مشتركة على نحو قد يؤدي إلى شعورهم بفقدان الكرامة والخصوصية.
البيئة العلاجية والتصميم المكاني والعمرانيصممت المستشفيات الإسلامية القديمة لتوفير بيئة علاجية مريحة تسهم في تهدئة المرضى وتعزيز شفائهم. فكانت المستشفيات تحتوي على حدائق ومياه جارية، وتستخدم الموسيقى الطبيعية في العلاج. وفي الوقت الحاضر، تفتقر العديد من المستشفيات النفسية إلى مثل هذه البيئات المريحة، وتعتمد أكثر على العلاجات الدوائية والتقنيات الحديثة من دون الاهتمام الكافي بالجوانب البيئية والعلاجية الشاملة.
النهج الشامل للعلاجاعتمدت المستشفيات النفسية في العصر الإسلامي على نهج شامل في تقديم الرعاية النفسية، حيث دمجت العلاجات الروحية والجسدية والنفسية؛ فكانوا يجمعون بين الاستشفاء بالقرآن والعلاج بالموسيقى وبالأعشاب لتقديم رعاية شاملة. في المقابل، تعتمد العديد من المستشفيات النفسية الحديثة بشكل رئيسي على الأدوية والعلاج النفسي، مما قد يؤدي إلى إهمال بعض الجوانب الروحية والبيئية التي يمكن أن تسهم في شفاء المرضى.
إعلان الدعم الاجتماعيكانت المستشفيات النفسية الإسلامية تقع في قلب المدن، فيسهل بذلك على المرضى الحصول على دعم اجتماعي من أهاليهم وأصدقائهم. وكان الأطباء يشجعون زيارة المرضى وتقديم الدعم الاجتماعي لهم كجزء من العلاج، أما في الوقت الحالي فقد تعاني بعض المستشفيات النفسية من عزلة المرضى عن المجتمع، مما يؤثر سلبًا على رحلة تعافيهم.
إعادة الإدماجكانت المستشفيات النفسية الإسلامية تقدم دعمًا ماليا للمرضى عند خروجهم لمساعدتهم على إعادة الاندماج في المجتمع وتخفيف الضغوط المالية التي قد يواجهونها بعد العلاج. هذا النهج يضمن أن المرضى ليسوا فقط معالجين نفسيا، بل أيضًا قادرين على استئناف حياتهم بشكل طبيعي بعد العلاج. وفي المقابل، قد تفتقر بعض المستشفيات النفسية الحديثة إلى برامج دعم متكاملة لإعادة إدماج المرضى في المجتمع.
تُظهر المقارنة بين الأوضاع الحالية للمستشفيات النفسية ومثيلاتها في العصر الإسلامي مدى التقدم الأخلاقي والإنساني الذي حققته المستشفيات الإسلامية القديمة. فرغم التطور التكنولوجي والعلمي الذي شهدته الرعاية الصحية النفسية الحديثة، فإن المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي كانت سائدة في المستشفيات الإسلامية القديمة لا تزال تقدم دروسًا قيمة يمكن الاستفادة منها لتحسين نظم الرعاية النفسية الحالية.