أعداء الحضارة.. إخواني تونسي يتطاول على مؤلفات ابن رشد الأندلسي
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
لم تكتف جماعة الإخوان الإرهابية بتصدير أفكارها المغلوطة والمتطرفة لأنصارها وللمجتمعات العربية قاطبة، ما أثر على الحياة العقلية والفكرية المعاصرة للعرب، إذا عملت الجماعة ومعها جماعات وليدة عنها وتيارات سلفية متشددة على ترسيخ الأفكار المتشددة والجامدة، وإعادة بعثها، ومعادة رواد الفكر العقلانى فى تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، أمثال الفيلسوف الكبير ابن رشد الأندلسي (520هـ-595هـ) الذى يعد ملهما للفكر العقلاني فى الحضارتين الغربية والعربية معا على السواء.
فى تونس، اتبع الأكاديمى وأستاذ الفلسفة أبو يعرب المرزوقي، المعروف بالانتماء لجماعة الإخوان الإرهابية، والمدعوم سياسيا من قبل حركة النهضة الإخوانية، نهجًا ملتويا وتضليلا فى مؤلفاته إذ ركز على دعم مواقف الجمود والرجعية فى مقابل الهجوم والتطاول على أصحاب المواقف العقلانية، وقد تعدى رفضه لأصحاب التيار الأخير مجرد رفض الفكرة والرد عليها إلى التطاول والبذاءة وهو ما ينفى العقل والعلم.
دأب المفكرون والمصلحون على وصف الفلسفة بأنها أم العلوم، لأنها المنهج، والقواعد العقلية العامة، الضابطة والمانعة لتسلل الخرافة وتحكم الغيبيات فى العلم، ومن هنا ركزت الجماعات الدينية التى تضع فى خطتها الاستيلاء على العقل الجمعي للمجتمعات العربية أن تخترق مجالات مثل الفلسفة، ثم تعمل على إبطال مفعولها، فيسهل مع ذلك إشاعة الوهم والسذاجة والغباء كسمة عامة تحكم طريقة تفكير هذه المجتمعات، فيسهل اقتيادها والالتفاف على رأيها واختياراتها.
الهجوم على رموز الحضارة الإسلامية
فى هذا السياق، يأتي المرزوقى الذى وصف كتاب "تهافت التهافت" بأنه "أسخف كتاب فى الفلسفة"، وهى عبارة تنم عن ابتذال وقلة تقدير لأهمية هذا الكتاب الذى نال احتفاء كبيرا به من فلاسفة الشرق والغرب، حيث قام بمهمة خطيرة وهى الدفاع عن الفلاسفة ورفع تهمة التكفير عنهم التى ألصقها بهم أبو حامد الغزالى فى كتابه "تهافت الفلاسفة".
ولم يكن وصف الكتاب الأبرز لدى ابن رشد بأنه "أسخف كتاب" موقفا عابرا، بل كرّس المرزوقى خلال مؤلفاته، وفى كتابه "فلسفة الدين" اعتبر المرزوقي أنه دوره يتمثل فى تخليص الفكر الإسلامى من الجهل، وإعداد الأرضية تمهيدا لاستئناف نهضة الفكر الإسلامي، وذلك من خلال كنس الرؤى الفلسفية التى يرفضها، مشيرا إليها بـ"كنس الميت الذى يعيش عليه الإحيائيون المستمد من المتردم من الحضارة العربية الإسلامية"، وفى العبارة كلمات بها قدر كبير من التحقير وعدم التقدير والاستهانة بالرؤى الفلسفية المختلفة عنه، مثل "كنس" بما تعنيه من تنظيف، وكلمة "الميت" بما تعنيه من انعدام الفائدة، وكلمة "المتردم" أى البالي، وهى توكيد لانعدام الفائدة أيضا، وهى نظرة تحقيرية للعلوم العربية القديمة، والأشد خطرا أنه يشير إلى أن هذا الميت والمتردم الذى يتمسك به الإحيائيون هو تراث ابن رشد الأندلسي.
رغم عمل المرزوقى بمجال الفلسفة، فإنه أخذ موقف الغزالى المهاجم للفلاسفة، واعتبر كتابه "تهافت الفلاسفة" هو الصياغة المثالية للجدل الحاصل بين الرافدين الدينى والفلسفي، فى حين أن كتاب الغزالى يهاجم الفلاسفة ويتهمهم بالكفر صراحة، وأن كتاب ابن رشد يلتمس لهم العذر، ويطرح رؤى أكثر مرونة للتوفيق بين الرافدين الدينى والفلسفي، دون إقصاء أى منهما، إلا أن المرزوقى لا يعجبه إلا الموقف الإقصائى الذى يتناسب مع جماعة الإخوان الإقصائية، والتى عملت طوال قرن من الزمان على اختراق المؤسسات التعليمية كى تنتج فى يوم من الأيام أمثال المرزوقى بكثرة، كى تصبغ الفكر العربى المعاصر بسمات التطرف والجمود.
فى رأى المرزوقي، فإن ابن رشد ممثل للميت من الفلسفة، وكتابه وصفه بالسخف، رغم ما لابن رشد من مكانة كبيرة تزهو بها الحضارة العربية والإسلامية، ولم يكتف بالتطاول على ابن رشد بل تمادى دوره ليتطاول على أحد أبرز فلاسفة التصوف الإسلامى محيى الدين بن عربي، الملقب بالكبريت الأحمر والإمام الأكبر، صاحب الموسوعة الصوفية الشهيرة "الفتوحات المكية"، حى يضيف المرزوقي إلى دوره "كنس تبنى التحديثين أفكار التصوف الإسلامي، فصار ابن عربى رمزا للتجربة الوجودية والتآخى واللامبالاة الدينية"، فدور المرزوقى أيضا تنظيف الفكر الإسلامى من ابن عربى لأنه ليس رمزا اللامبالاة والدروشة.
تعتمد طريقة ابن رشد طريقته على القياس العقلي والبرهان، ففى كتابه “فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال” يرى أن الشرعَ دعا المؤمنين إلى تدبّر الموجودات عن طريق العقل، ومن الواجب تعلّم القياس العقلى والاعتبار الذى هو "استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه".
وصفَ ابن رشد البرهان بأنه أتمُّ أنواع النظر العقلي، ومن الضرورى لمن يريد أن يعرف الله وسائر الموجودات أن يتعلّم أنواع البراهين، ويدركَ الفارق بينها، وبما خالفَ القياس البرهانى القياس الجدلى والقياس الخطابى والقياس المغالطي، ويُسمّى تلك العلوم بـ"منزلة الآلات من العمل".
ينحاز ابن رشد فى فلسفته إلى التاريخ الإنسانى المتكامل فى وضع العلوم وتطوّرها، ويرى أن كلّ إنسان يحتاج لجهود غيره حتى يتمّ أيّ فنٍّ وأيّ صنعة، لذا كان من المنطقى أن يسمح ابن رشد بمطالعة جهد الأمم الأخرى غير المسلمة، وأن يتعرّف إلى جهود الأفراد مهما كانوا مختلفين عنه، فليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ أن يتخلّى عن جهود السابقين ويضع علم الفلك كاملًا من نفسه، وليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ "أن يقف على جميع الحجج التى استنبطها النظّار من أهل المذاهب فى مسائل الخلاف التى وقعت المناظرة فيها بينهم فى معظم بلاد الإسلام"، ومن هنا ندرك لما كان الفيلسوف متشوّقًا لمعرفة طريقة ابن عربى فى حين أنها تخالف طريقته.
التلاقى بين ابن رشد وابن عربي
وجمع اللقاء بين ابن رشد الحفيد وبين ابن عربي، حيث يؤسِّس لعملية التلاقى بين جهود الفيلسوف فى تعزيز دور العقل، وبين ترقى المتصوّف الذى يهدف لنشاط الحدس القلبي.
فى كتابه “هكذا تكلم ابن عربي”، يرى الدكتور نصر حامد أبو زيد أن هذا اللقاء هو بمنزلة تقابل بين تجربتى الروح والعقل، أو تجربتى العرفان والبرهان، لافتًا بدوره إلى عدة نقاط فى غاية الأهمية وهى أن فارق السن بين الصبى والفيلسوف كبير جدًا، كما أن مجيء تلك الرواية فى كتاب “الفتوحات المكيّة” يؤكد أن ابن عربى كتبها وهو شيخٌ كبير، أى أنه استدعى ذلك الحدث من ذاكرته “فالذاكرة تعيد تشكيل الحدث من خلال الأسلوب السردي”، إلى جانب انفراد الشيخ برواية اللقاء فلم يذكرهُ أحدٌ غيره.
يُرجِّح "أبو زيد" أن سؤال ابن رشد عن كيفية الوصول للحقيقة عن طريق الكشف والفيض الإلهي، وعن موافقته للنظر العقلي، تعود جذوره إلى ابن طفيل، أستاذ ابن رشد، الذى اختاره للخليفة الموحدى أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كى يشرح له “قلق عبارة أرسطو”، فسؤال ابن رشد “ينطلق من خلفيّة فكرية يمكن تلمّس ملامحها فيما كتبه ابن طفيل فى رسالته (حى بن يقظان)”، فخلالها "يمهّد ابن طفيل لقارئه أن العقل الإنسانى فى سعيه المخلص والدؤوب للمعرفة والفهم تحوطه العناية الإلهية وترعاه دائمًا".
ما سبق، يشرح الجذور الفكرية لسؤال ابن رشد الذى وجّهه للشيخ ابن عربي، حول حقيقة التلاقى بين التجربتين، فيراه متمثّلًا فى أستاذه ابن طفيل الذى بحثَ العلاقة نفسها بين العقل والروح فى قصته المشهورة "حى بن يقظان".
صعود ابن رشد الأندلسي
رشحه ابن طفيل الأندلسي للخليفة الموحدي الذي طلب منه شرح أرسطو، حيث اشتكى الخليفة من "قلق عبارة أرسطو"، بعدها كتب فى أربعة أقسام مهمة لحركة الثقافة العربية والإسلامية: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، كتب أدبية ولغوية، واشتهر بشرح التراث الأرسطي، ومن شروحاته لأرسطو: تلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة "الميتافيزياء"، شرح كتاب البرهان "الأورجنون"، تلخيص كتاب المقولات "قاطيفورياس"، شرح كتاب النفس، شرح كتاب القياس. وله مقالات كثيرة ومنها: مقالة فى العقل. مقالة فى القياس، مقالة فى اتصال العقل المفارق بالإنسان. مقالة فى حركة الفلك. مقالة فى القياس الشرطي، وله كتب أشهرها: كتاب "مناهج الأدلة"، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية، كتاب "تهافت التهافت" الذى كان رد ابن رشد على الغزالي فى كتابه "تهافت الفلاسفة"، كتاب "الكليات"، كتاب "الحيوان"، كتاب "المسائل" فى الحكمة، كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" فى الفقه، كتاب "جوامع كتب أرسطاطاليس" فى الطبيعيات والإلهيات. كتاب "شرح أرجوزة ابن سينا" فى الطب.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: جماعة الاخوان الارهابية الحضارة العربیة ابن عربی شرح کتاب فى کتاب
إقرأ أيضاً:
حكم وحكمة: ضرورة تحكيم الشرع قبل العقل في قضايا الميراث
وشكلت قضية الميراث في الإسلام محور نقاش حلقة (2024/11/15) من برنامج "حكم وحكمة" على منصة "الجزيرة 360″، حيث تناول الشيخ عمر عبد الكافي بالتحليل والشرح أحكام الميراث في الإسلام، مؤكدا وضوحها في القرآن الكريم، واستعرض مواقف الناس المختلفة منها، مبينا أهمية تقديم الشرع على العقل في هذه المسألة.
وأكد الشيخ في بداية الحلقة أن آيات المواريث هي المسألة الفقهية الأكثر وضوحا وتفصيلاً في القرآن الكريم، مشيرا إلى أنها جاءت مبينة بتفاصيل دقيقة تفوق حتى أركان الإسلام الأخرى كالصلاة والزكاة، وقال "آيات المواريث هي المسألة الفقهية التي وردت واضحة في القرآن وضوح الشمس بتفاصيلها".
وتطرق البرنامج إلى ثلاثة أصناف من الناس في تعاملهم مع قضية الميراث: المؤمن المسلم بحكم الله، والمتسائل الباحث عن الفهم، والمتشكك المتأثر بالأفكار الغربية. وشدد الشيخ على ضرورة التفريق بين "حكم الدين" و"رأي الدين"، موضحا أن المصطلح الأول هو الصحيح.
وضرب الشيخ مثالاً توضيحيا بقصة أم موسى عليه السلام، حيث تغلب الشرع على الطبع الإنساني في إلقاء رضيعها في اليم، وكذلك قصة سيدنا إبراهيم في ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام، مؤكدا أن "هذه القضايا تشريعية وليست عقلانية".
تغليب الشرع
وأوضح عبد الكافي أن بعض المتشككين في أحكام الميراث يتأثرون بأفكار المستشرقين والمستغربين الذين "يريدون أن يغلبوا العقل على الشرع"، منبها إلى خطورة تحكيم العقل البشري في الأحكام الشرعية القطعية.
وناقشت الحلقة مخاوف البعض من توزيع الميراث وفق الشرع، خاصة فيما يتعلق بنصيب المرأة، حيث أشار البرنامج إلى أن هذه المخاوف غير مبررة شرعا، وأن الحكمة من التقسيم الشرعي أكبر من الفهم البشري المحدود.
وأكد البرنامج أن المسلم مطالب بتقديم الشرع على الطبع في كل المسائل، وأن قضية الميراث ليست استثناءً، موضحا أن المؤمن الصادق هو من يقدم النص الشرعي على اجتهاده العقلي، تماماً كما فعلت أم موسى وسيدنا إبراهيم عليهما السلام.
15/11/2024