لم تكتف جماعة الإخوان الإرهابية بتصدير أفكارها المغلوطة والمتطرفة لأنصارها وللمجتمعات العربية قاطبة، ما أثر على الحياة العقلية والفكرية المعاصرة للعرب، إذا عملت الجماعة ومعها جماعات وليدة عنها وتيارات سلفية متشددة على ترسيخ الأفكار المتشددة والجامدة، وإعادة بعثها، ومعادة رواد الفكر العقلانى فى تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، أمثال الفيلسوف الكبير ابن رشد الأندلسي (520هـ-595هـ) الذى يعد ملهما للفكر العقلاني فى الحضارتين الغربية والعربية معا على السواء.


فى تونس، اتبع الأكاديمى وأستاذ الفلسفة أبو يعرب المرزوقي، المعروف بالانتماء لجماعة الإخوان الإرهابية، والمدعوم سياسيا من قبل حركة النهضة الإخوانية، نهجًا ملتويا وتضليلا فى مؤلفاته إذ ركز على دعم مواقف الجمود والرجعية فى مقابل الهجوم والتطاول على أصحاب المواقف العقلانية، وقد تعدى رفضه لأصحاب التيار الأخير مجرد رفض الفكرة والرد عليها إلى التطاول والبذاءة وهو ما ينفى العقل والعلم.


دأب المفكرون والمصلحون على وصف الفلسفة بأنها أم العلوم، لأنها المنهج، والقواعد العقلية العامة، الضابطة والمانعة لتسلل الخرافة وتحكم الغيبيات فى العلم، ومن هنا ركزت الجماعات الدينية التى تضع فى خطتها الاستيلاء على العقل الجمعي للمجتمعات العربية أن تخترق مجالات مثل الفلسفة، ثم تعمل على إبطال مفعولها، فيسهل مع ذلك إشاعة الوهم والسذاجة والغباء كسمة عامة تحكم طريقة تفكير هذه المجتمعات، فيسهل اقتيادها والالتفاف على رأيها واختياراتها.

المرزوقي ادعى أن دوره الفكري هو كنس الميت من الحضارة الإسلامية قاصدا بذلك أصحاب المناهج العقلانية 

الهجوم على رموز الحضارة الإسلامية
فى هذا السياق، يأتي المرزوقى الذى وصف كتاب "تهافت التهافت" بأنه "أسخف كتاب فى الفلسفة"، وهى عبارة تنم عن ابتذال وقلة تقدير لأهمية هذا الكتاب الذى نال احتفاء كبيرا به من فلاسفة الشرق والغرب، حيث قام بمهمة خطيرة وهى الدفاع عن الفلاسفة ورفع تهمة التكفير عنهم التى ألصقها بهم أبو حامد الغزالى فى كتابه "تهافت الفلاسفة".


ولم يكن وصف الكتاب الأبرز لدى ابن رشد بأنه "أسخف كتاب" موقفا عابرا، بل كرّس المرزوقى خلال مؤلفاته، وفى كتابه "فلسفة الدين" اعتبر المرزوقي أنه دوره يتمثل فى تخليص الفكر الإسلامى من الجهل، وإعداد الأرضية تمهيدا لاستئناف نهضة الفكر الإسلامي، وذلك من خلال كنس الرؤى الفلسفية التى يرفضها، مشيرا إليها بـ"كنس الميت الذى يعيش عليه الإحيائيون المستمد من المتردم من الحضارة العربية الإسلامية"، وفى العبارة كلمات بها قدر كبير من التحقير وعدم التقدير والاستهانة بالرؤى الفلسفية المختلفة عنه، مثل "كنس" بما تعنيه من تنظيف، وكلمة "الميت" بما تعنيه من انعدام الفائدة، وكلمة "المتردم" أى البالي، وهى توكيد لانعدام الفائدة أيضا، وهى نظرة تحقيرية للعلوم العربية القديمة، والأشد خطرا أنه يشير إلى أن هذا الميت والمتردم الذى يتمسك به الإحيائيون هو تراث ابن رشد الأندلسي.


رغم عمل المرزوقى بمجال الفلسفة، فإنه أخذ موقف الغزالى المهاجم للفلاسفة، واعتبر كتابه "تهافت الفلاسفة" هو الصياغة المثالية للجدل الحاصل بين الرافدين الدينى والفلسفي، فى حين أن كتاب الغزالى يهاجم الفلاسفة ويتهمهم بالكفر صراحة، وأن كتاب ابن رشد يلتمس لهم العذر، ويطرح رؤى أكثر مرونة للتوفيق بين الرافدين الدينى والفلسفي، دون إقصاء أى منهما، إلا أن المرزوقى لا يعجبه إلا الموقف الإقصائى الذى يتناسب مع جماعة الإخوان الإقصائية، والتى عملت طوال قرن من الزمان على اختراق المؤسسات التعليمية كى تنتج فى يوم من الأيام أمثال المرزوقى بكثرة، كى تصبغ الفكر العربى المعاصر بسمات التطرف والجمود.


فى رأى المرزوقي، فإن ابن رشد ممثل للميت من الفلسفة، وكتابه وصفه بالسخف، رغم ما لابن رشد من مكانة كبيرة تزهو بها الحضارة العربية والإسلامية، ولم يكتف بالتطاول على ابن رشد بل تمادى دوره ليتطاول على أحد أبرز فلاسفة التصوف الإسلامى محيى الدين بن عربي، الملقب بالكبريت الأحمر والإمام الأكبر، صاحب الموسوعة الصوفية الشهيرة "الفتوحات المكية"، حى يضيف المرزوقي إلى دوره "كنس تبنى التحديثين أفكار التصوف الإسلامي، فصار ابن عربى رمزا للتجربة الوجودية والتآخى واللامبالاة الدينية"، فدور المرزوقى أيضا تنظيف الفكر الإسلامى من ابن عربى لأنه ليس رمزا اللامبالاة والدروشة.


تعتمد طريقة ابن رشد طريقته على القياس العقلي والبرهان، ففى كتابه “فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال” يرى أن الشرعَ دعا المؤمنين إلى تدبّر الموجودات عن طريق العقل، ومن الواجب تعلّم القياس العقلى والاعتبار الذى هو "استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه".
وصفَ ابن رشد البرهان بأنه أتمُّ أنواع النظر العقلي، ومن الضرورى لمن يريد أن يعرف الله وسائر الموجودات أن يتعلّم أنواع البراهين، ويدركَ الفارق بينها، وبما خالفَ القياس البرهانى القياس الجدلى والقياس الخطابى والقياس المغالطي، ويُسمّى تلك العلوم بـ"منزلة الآلات من العمل".
ينحاز ابن رشد فى فلسفته إلى التاريخ الإنسانى المتكامل فى وضع العلوم وتطوّرها، ويرى أن كلّ إنسان يحتاج لجهود غيره حتى يتمّ أيّ فنٍّ وأيّ صنعة، لذا كان من المنطقى أن يسمح ابن رشد بمطالعة جهد الأمم الأخرى غير المسلمة، وأن يتعرّف إلى جهود الأفراد مهما كانوا مختلفين عنه، فليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ أن يتخلّى عن جهود السابقين ويضع علم الفلك كاملًا من نفسه، وليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ "أن يقف على جميع الحجج التى استنبطها النظّار من أهل المذاهب فى مسائل الخلاف التى وقعت المناظرة فيها بينهم فى معظم بلاد الإسلام"، ومن هنا ندرك لما كان الفيلسوف متشوّقًا لمعرفة طريقة ابن عربى فى حين أنها تخالف طريقته.

المرزوقي تطاول على ابن عربي وابن رشد وغيرهما.. وتعمل الحسابات الافتراضية التابعة له على تعزيز كراهية المفكرين والفلاسفة في الحضارة العربية والإسلامية

التلاقى بين ابن رشد وابن عربي
وجمع اللقاء بين ابن رشد الحفيد وبين ابن عربي، حيث يؤسِّس لعملية التلاقى بين جهود الفيلسوف فى تعزيز دور العقل، وبين ترقى المتصوّف الذى يهدف لنشاط الحدس القلبي.
فى كتابه “هكذا تكلم ابن عربي”، يرى الدكتور نصر حامد أبو زيد أن هذا اللقاء هو بمنزلة تقابل بين تجربتى الروح والعقل، أو تجربتى العرفان والبرهان، لافتًا بدوره إلى عدة نقاط فى غاية الأهمية وهى أن فارق السن بين الصبى والفيلسوف كبير جدًا، كما أن مجيء تلك الرواية فى كتاب “الفتوحات المكيّة” يؤكد أن ابن عربى كتبها وهو شيخٌ كبير، أى أنه استدعى ذلك الحدث من ذاكرته “فالذاكرة تعيد تشكيل الحدث من خلال الأسلوب السردي”، إلى جانب انفراد الشيخ برواية اللقاء فلم يذكرهُ أحدٌ غيره.
يُرجِّح "أبو زيد" أن سؤال ابن رشد عن كيفية الوصول للحقيقة عن طريق الكشف والفيض الإلهي، وعن موافقته للنظر العقلي، تعود جذوره إلى ابن طفيل، أستاذ ابن رشد، الذى اختاره للخليفة الموحدى أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كى يشرح له “قلق عبارة أرسطو”، فسؤال ابن رشد “ينطلق من خلفيّة فكرية يمكن تلمّس ملامحها فيما كتبه ابن طفيل فى رسالته (حى بن يقظان)”، فخلالها "يمهّد ابن طفيل لقارئه أن العقل الإنسانى فى سعيه المخلص والدؤوب للمعرفة والفهم تحوطه العناية الإلهية وترعاه دائمًا".
ما سبق، يشرح الجذور الفكرية لسؤال ابن رشد الذى وجّهه للشيخ ابن عربي، حول حقيقة التلاقى بين التجربتين، فيراه متمثّلًا فى أستاذه ابن طفيل الذى بحثَ العلاقة نفسها بين العقل والروح فى قصته المشهورة "حى بن يقظان".

"تهافت التهافت" أعاد للفلاسفة اعتبارهم بعدما الهجوم الضاري الذي شنه عليهم أبو حامد الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة"

صعود ابن رشد الأندلسي
رشحه ابن طفيل الأندلسي للخليفة الموحدي الذي طلب منه شرح أرسطو، حيث اشتكى الخليفة من "قلق عبارة أرسطو"، بعدها كتب فى أربعة أقسام مهمة لحركة الثقافة العربية والإسلامية: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، كتب أدبية ولغوية، واشتهر بشرح التراث الأرسطي، ومن شروحاته لأرسطو: تلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة "الميتافيزياء"، شرح كتاب البرهان "الأورجنون"، تلخيص كتاب المقولات "قاطيفورياس"، شرح كتاب النفس، شرح كتاب القياس. وله مقالات كثيرة ومنها: مقالة فى العقل. مقالة فى القياس، مقالة فى اتصال العقل المفارق بالإنسان. مقالة فى حركة الفلك. مقالة فى القياس الشرطي، وله كتب أشهرها: كتاب "مناهج الأدلة"، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية، كتاب "تهافت التهافت" الذى كان رد ابن رشد على الغزالي فى كتابه "تهافت الفلاسفة"، كتاب "الكليات"، كتاب "الحيوان"، كتاب "المسائل" فى الحكمة، كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" فى الفقه، كتاب "جوامع كتب أرسطاطاليس" فى الطبيعيات والإلهيات. كتاب "شرح أرجوزة ابن سينا" فى الطب.‏

في العدد الورقي

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: جماعة الاخوان الارهابية الحضارة العربیة ابن عربی شرح کتاب فى کتاب

إقرأ أيضاً:

تقديم كتاب “شاي السّت” تأليف عبدالله الشقليني

بقلم السفير جمال محمد ابراهيم

هـذا كِتـابٌ أخرجَـهُ تأليـفـاً وتحـريراً وترتيـباً، صاحِـبــه المُهنــدِس الأديْــبُ عبدُالـلّه مُحمّـد ابراهيم، والـذي آثر اختصار إســمه فنـسـبه مباشـــرة إلى اســمِ جــدّه الشّـقـلـيني الكبـيــر، فـعرفه قـرَاء كتاباته بإسـم عبدالـلّـه الشـقـلـيني. يحتـــوي الكتابُ على أقاصيص وحكاياتٍ مُختارة من بعضِ ما كتـبَ المهندسُ الأديب، بل شـــاركتُ بقلـمي في انتقـائها بمعـيارِ التماهي مع مدينـــة أم درمـان، كمعـيارٍ رئيسٍ لكتاباتٍ أنجزها كاتبها على مَـدى ســنواتٍ عديدة ، إذ أم درمان هيَ المدينة التي أحبّ واتسـعـتْ تجاربه فيها، وتجلتْ في بعضِ حكاياتٍ وقعـتْ في حواريها وأحيائها. مزجَ الكاتب الخيالَ مع الواقعِ، على مدىً زمنيٍّ ممتـد لسنوات طوال وفي مناطق مثل العباســية وأبوكدوك وبانـت ، وحتى الفتيحــاب، ثم إلى سِـواها من أحياء تلـك المدينــة . كثيــرون يرون تنـوّعَ أم درمان ، وتشاركات أهلها سَراءَهم وضَراءَهم ، وتمازجهم ومصاهراتهم، مثلاً مصغّـراً لتنـوّع السّــودان، الشاسع بمســاحـته والواسع بسكانه، فإنك تلحظ بيسرٍ كيفَ تجاوز الإنتماء للمكان "الأمدرماني"، تلك الإنتماءات الضيقة للقبائل وللطوائف العرقية وللألسنة المتراطنة، بكل فسيفساء ألوانها وأشكالها.

لاشـــكّ أنّ الكثيرين قـد تابعـوا معظمَ كتابات عبدالـلّه الشـقليني منشـورة خلال العقــدين الأخيرين من الألفـية الثالثة، في موقـع صحيفة "سودانايل" الإلكترونيــة، لصاحبهـا ورئيسُ تحريرها الأســتاذ الصّـديـق الصّحفي طـارق الجـزولي. وَعلى ذكر الجزولي، فلنا أن نشــير لتجـربته الشخصية في الصُّمود خلالهــا بشـجاعةٍ وتصـميم، لحـفـظ اســتقلالية صحيفـته تلـك، ولصونِ رصـانتها. وكنتُ إلى ذلك لصيقاً وقريباً من تلـك التجربة ، وما لاقــى خلالـها مـن عّـنــتٍ وتحرّش من عسسِ إعلام نظـــام الانقــاذ البـــائد، أحاله آخــر أمـره إلى الخــروْج وطلــب اللجـوء إلى مكانٍ آمــنٍ قـاده إلـى الاقامة في اسـكندنافيا، حيــث لحــرية الــرأي والتعبير إحترامٌ سَـامٍ وتقديـْرٌ مُعــزّز. لعلَّ قصّة صديقنا الجزولي تذكّر بقصّة "أسـانج" الذي لاحقته دوائر دولية، ليس إلا بسبب يمتّ لحــرية الصحـافة والرأي بصـلة. ولحماسي لتجربة الجزولي في صحيفته الالكترونية "سودانايل"، فقد سعيتُ لاستقطاب بعضَ أقلام مُبدعي بلادي ، فكان شــقيقي عبدالـله الشقليني، هو بين أوائل من شـجَّعتْ للنشر في صحيفة "سـودانايل" الإلكترونية.

وَلأنّي – وَعـبدالّـلـه أخٌ شــقيقٌ لي- فقد نشــأنا معـاً في مدينة أم درمان في بداية السنوات الوسـيطة للـقـرن العشرين، فإنـكَ مُـلاقٍ لتلـك المديـنـةِ أصـــداءاً لن تغيْـبَ عن نظـرك، مبـثـوثـة في أكثركتـاباتـي وكتــابات عبدالـلّـه وحكاياته. وقـد عـمـلَـنا على نشـرها في موقـــع "ســودانايل"، وجـلـّها لم تتعدَ ذلـك الحـيّـز الجغـــرافي- الاجتماعي الجميل: أم درمان، إبّـان نشــأتنا فـيها.

لعلـكَ تعجـبَ أنْ يكتـبَ أخٌ شــقيق يقـدّم لكتاباتٍ ينشـرها شـقـيقـه. غـيـرَ أنَّ أصدق وأكثر مَن عرفَ كاتـبـها، ومَـن كان الأقـرب إلى بواكيـر نشــأته ، والأعـمـق إدراكـاً لتفاصيل ما جـاء من قلمه، لهـو شــقيقهُ كاتب هـذا التقــديـم. ذلـك أنّـا نَهَـلـنـا مَعـاً مِـن مَعـيـْنٍ واحــد، وتســاقينا من نبـع تجـاريب صِـبانا في سَــاحٍ مُـشــتركٍ، لأبٍ واحـد وأمٍّ واحـدة وإخـوة وأخـوات، فتقاسمنا مكانا وزماناً وصحـاباً ورفـقـة. تـرى ذلــك في إهـداء عبداللـه كتابه هـذا بأريحيةٍ ، إلى جُـلّ مَن ذكـرتُ لـك.

إنّـي وإنْ امتهـنـتُ سَـبيلا غير سَـبيل شــقيقي، فأنا دبلوماسيّ وهـو معـمـاريّ مهنـدس، لكن لم تفرّق بينَ تجربتينا تبـاينـات تذكر في أيٍّ مِن مِهنـتـيـنا، بل ظلـلـنا معـاً نسـتظلّ بدفءِ تلـك المدينة التي شـملتنا بحـنـوّها، إذ شـببنا وكبـرنا رجــالاً وكهــولاً في أم درمان، فكان سمرنا- أو قُـلْ ثمـرنا - نتاج بستانٍ واحد. ثمّ اشتركنا معـاً في التجربة الأكاديمية التي استبنينا شخصيتينا عـبرها، فكانت الدراســة في أمّ الجامـعـات فـي السُّــودان: جامعة الخرطوم. ذلك في زمانٍ رعـتنا في أكـنافـها تلـك الجامعة كأمٍّ رؤوم، فـنهلـنا العلم في قاعات دروسـها، وقــتَ أنْ كانت الدراســة في تلـك الجامعة، منحة نَعـِمْـنـَا بإنفـاقِ إدارتهــا علينا بحــاتمية أكاديمية في بلد يُصنّــف مِن بـيــنَ بلدان العالم الثالث . أمّا كسبنا من تجربة الدراسـة في تلك الجامعة، فـقــد كان أعـمق من الذي تلقيناه في قاعـات الدّرس، وأوسع ممّا ألفنا في حواري وأحياء مدينتنا الحبيبة. تعلـمـنا أن نستصحب العـام إلى جانب الخــاص، فيما تشـعّـبتْ إنشــــغالاتنا واهتماماتنا بقضايا المجتمع والثقافة والسياسة. وإلى كلِّ ذلك، سترَى أنَّ الكتابة وَحرفة الأدب، قـد لحقتْ بي وبِـشقيقي المهندس المعماري الأديب فاستهوتْ كلـينا، وإن أفلحـنـا بمجاهدةٍ نترك لك عزيزي القاريء، تقييم درجات نجاحنا معـاً في المزاوجة بيـنها ومهنـة كلٍّ مِـنّـا.

ثُـمّ إنّي أدعـوكَ، عـزيزي الـقـاريء، لتقـتربَ مِن كتـاباتِ المُهنـدس الأديب عـبدالـلـه الشـقـليني، وثقتي أنكَ مُلاقٍ فيها ما قد يأسِــرك، أو قد تجدَ بعضَ مُتعةٍ في مؤانسـاته المشــوّقة في كتابه هذا وما حوَى من مقالات وأقاصيص.

قـد يقـفَ القـاريء وقـفـةً حـيـرَى أمام ما قــد يُلاقـي مِــنْ بعضِ عُـسْـرٍ في تصنـيـفٍ قاطـعٍ لكتـاباتِ شــقـيقي المُهنـدِس عـبدالـله الشّـقـلـيني، فإنـك قد ترَى فـي بعـضِ ما جاء مِــن قلـمُـه الســيّال، كتـاباتٍ تشــبهَ القصـصَ القصـيـرة، ولربما رأيت فـي بعضـها ما شــابه الذّكريات الشـخصية الخاصّـة ، أو الانطـبــاعات الأعـمـق في جـــوانب تلامِـس أمور الثقـافة والسـياسـة والإجتماع. لكـنّي أقـولُ لـكَ قـول مُحـايدٍ ، إنّي أصنّـفها شـــهاداتٍ ومشــاهداتٍ، رصَــدهـا كاتـبـُهـا بعـيـونٍ أعانتـه لإمعـانِ البصـرِ فيما حوله ، وإحســان رصدِ انـفـعـاله بما دار ويدور في مجتمعِ مدينته أم درمان أواسِـط أعوام الـقــرن العشرين. لذا فإنَّ بعـضُ صفحــاتِ إبداعـهِ هيَ تأريخٌ مُيَــسَّرٌ لوجـدان تلـك المدينـة، وتمريناً إبتدائياً نحو تشكّل هـوية لبلدٍ لم يُكمِل عقـده الثالث منذ نيـله الإستقلال، فخرجـتْ مِن قـلـمـه تفـاصيل بَرعَ في صـوغـهـا بحـذقِ معمـاريٍّ عَـرِفَ كيـفَ يرسـمَ عُـمـراناً بديعـاً، يـقـف على أســاسٍ هـندسيٍّ متـيـنٍ ، مِـن دِقـة في المُلاحظـةِ وَحيــادِ في التفاعلِ وصدقِ في الإنفعـالِ، فامـتـدّتْ كتـاباته بنـاءاً ســامقاً، قام على عـُـمُــدٍ مســتقيمة تماسـكتْ جوانبـه، وترابطـتْ هـياكلـه، لتستقرأها عيناك بيسـرٍ وسلاسـة. ولعلَّ المهندس المعماريّ فيما لاحظتُ، لن يحذق مهنته إنْ لم يمتلك موْهــبة الرّســم وسعة الخيال وقـوة ذائقـته الجمالية . المعماريُّ فـنانٌ وَمُصمِّمٌ ، وَهـوَ غير المُهندس المدنيّ الذي ينشغل بإخراج وتنفيذ الخرائط والتصاميم التي يصيغها المعماريُّ صناعة ناعمة. إنْ أردتني أعينك لأقرّب الصورةَ بمثلٍ أوضح، فالمعماريّ هو مؤلف المسرحية والمهندس المدنيّ هـو المخرج المكلـف بإخــراج المسرحية على خشبة المسرح، تصميماً للخلفـيات، وتوزيعـاً لأدوار يتــولاها الممثـلـون، فتكون المتعة هي مكسـب جمهور المسرح.

ولأنّ المعـمــاريّ والأديب عبدالـلَّه الشقـليـني فـنـانٌ ومهـنـدسٌ أريــْـب، فـقــد جاءتْ مِـنـهُ عِـمارة الإبـداعٍ الإفتراضيٍّ تلـك، وهيَ في أبهَـى حُلـلها وتمام كمالها. إذا ما نظرتَ في غلافِ هذا الكتاب، لنْ يُريبـَك أنْ تلحظ ريـشــةَ الفنان الأديب عبداللّـه الشـقـليني وَقـد أنجزتْ لوحات تشـكيلية جاءتْ من فنانٍ مقتـدٍر مطبوعٍ ومعماريٍّ حاذق، وسترى بقية ما أبدع من رسومات تكحّل عيون بعض مقالاته في هذا الكتاب.

كثيرون لا يعلمون ما لذلك المعماري الأديب من مواهب فنـية اضافـية خفيـَّة، منها إجادته العزف على آلـة العـود، بعد إكماله فترة تدريبية في قصر الشباب بأم درمان ، إثرَ تخرّجه معمارياً بفترة وجيزة من كلية الهندسة والمعمار في جامعة الخرطوم. إذ بمثل عُـمقِ علاقته بمعلـمه الفـنان التشــكيلي الرّاحل مبارك بلال، فـقـد حفـظ لمعلـمـه الرّاحـل الموسيقار جمعة جابر، قدراً كبيراً من التقـدير والإعجــاب العميق. أمّا صديقه البعيـد صلاح حسـن أحمد فـقـد شــجَّعـه على ذلك منـذ أواســط سبعينات القرن العشرين، وصلاح نفـسـهُ أديـبٌ وفـنانٌ ألـمعـيٌّ، يعـرَف لهُ مُتابعـو الإذاعة السُّـودانية تلك السّنوات، مسلسـلاً قصيراً بعنــوانِ "الحـيـاة مِهـنتي"، مـن تألـيـفه نصّـاً وَموسَــقَـهِ ألحـاناً ، شغلَ الناس تلك الفـترة لجـدّته وتميّزِ حبكـته. أتذكّر صـلاحـاً وَعبدالـلَّـه حينَ أنجـزا معاً أعـمالاً بلمساتٍ موسيقيةٍ مُحـدثة، لبعضِ أغـنيات المُطرب الرَّاحل عبدالدافع عثمان ، في وقـتٍ خفـتتْ فـيه ســيرة ذلك المطــرب ، غير أنهـما أبقـيـا إنجـازهـما ذاك في دائـرة أصـدقائهـما المشتركين في داخليات جامعـة الخرطوم تلكم السنوات البهيّـة. ذلك ملمحٌ قد لا يلحظه متابعــو كتابات الأديب المعماريّ، كونه رَسّــاماً تشـــكيلياً وموســيقـياً بريعــا آثر أن يبقيه في الظلِّ.

ليـسَ عصـيّاً على مَـن مَلـكَ كلَّ هـذه المـواهــبِ وَهـوَ في دولة الإمـارات العربية المتحــدة، مِــن أن يكـون أحــد كـبـار مسـتشـاريّـيـها ومهندسيها لتصـميـم وتنفيذ حـــدائـق تلك المدينة ومزاوجتـها برؤىً، فـيـها من جمـاليات الـفــنّ التشـكيلي وَالـذّوق الـعـام ما يواكِبَ إيقـاع العصـرِ وروحـِهِ.

لـكَ أنْ ترتقــي على درجــات عِـمـارة إبداعـه المكتوب في كتابه الــذي ـبيــنَ يديــك، فتعـلـو مـعَـه وترفع عينيك درجــةً بعـد أخــرى، ثمّ تمضِي مِن فصلٍ إلـى آخــر، بل ومِــن طــابقٍ إلى آخــر، بنـاءاً نضّــدهُ لـكَ أديـبٌ مِعـمَــاريٌّ فـنـانٌ إسْـــمُـهُ عـبدالـلـه الشـقـليني. لـكَ أن ترتقـي، تلـك الدّرجَــات إرتقـاءاً ســلــسـاً، لا تُعـيـنــك عـلــى تـسَـلّـقـهِ مَصَـاعِــد كَـهــربيّة أو سِـــواها من مُعـيـنـات، وَلـنْ يلحَــق بعـيـنـيـكَ رَهَــقٌ ولا بقـدمـيـــك زلـلٌ، فأنـتَ في ارتـقــائـك، طـــائـرٌ يتقـافــزَ مِـنْ عُــوْدٍ لغُـصْـنٍ ، ومِـنْ غُصْـــنٍ لـبُسْــتانٍ ومـن بُسْـــتانٍ لـدوْحـــة.

أدعوك صَـادقا لتـرافـق صاحبي وصاحبَ الكتابِ، إلى تلك الدّوحـة مطـمـئـنا.

* صدر الكتاب عن دار باركود التوزيع والترجمة – السودان ، ويتوفر في معرض الكتاب -إمارة الشارقة نوفمبر 2024 وبقية المعارض العربية .

jamalim@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • لماذا نقوم بالعادات؟
  • بقفزات على المسرح.. ماسك يظهر بتجمع انتخابي لترامب في موقع محاولة الاغتيال
  • مؤلفات وطنية في ذكرى نصر أكتوبر بالأوبرا.. غدًا
  • كتاب شاي الست
  • معبد أتريبس بسوهاج.. يجسد روعة الحضارة المصرية القديمة
  • الخامنئي: أعداء الامة الإسلامية هم أنفسهم أعداء الشعب الفلسطيني واللبناني والعراقي
  • الخامنئي: أعداء الامة الإسلامية هم نفسهم أعداء الشعب الفلسطيني واللبناني والعراقي
  • تقديم كتاب “شاي السّت” تأليف عبدالله الشقليني
  • أمين «البحوث الإسلامية»: الإلحاد خطر يهدد العالم ومن عورات الفكر الإنساني
  • شيخ العقل: لتجاوب جميع الأطراف السياسية المعنية مع مبادرة لقاء عين التينة