انحسار الحضور الغربي يعزز فرص الحل النهائي: هل تنهي صيغة السلام الجديدة لكاراباخ الصراع التاريخي في القوقاز؟
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
مثل كل مناطق الصراع الدولي على النفوذ، تبدو منطقة جنوب القوقاز اليوم وسط معادلة الخيارات الصعبة لفرض السلام الدائم أو التحول إلى منطقة صراع دولي على خلفية النتائج التي آلت اليها العملية العسكرية الأذربيجانية في إقليم ناغورنو كاراباخ والتي أفضت إلى سيطرة باكو على الإقليم ذي الأغلبية الأرمنية بعد استسلام المجموعات المسلحة هناك ونزوح المدنيين نحو أرمينيا.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
كان استسلام المسلحين الانفصاليين في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا ونزوح نحو نصف سكان الإقليم نحو ارمينا بعد العمليات العسكرية التي شنها الجيش الأذربيجاني هو المستجد الأبرز في معادلة الصراع بين البلدين الممتد لأكثر من 100 عام وهي وإن أشاعت مخاوف كبيرة من احتمال تحول الإقليم إلى منطقة صراع دولي فقد أشاعت بالمقابل تفاؤلاً باحتمال أن تقود هذه التطورات إلى طي صفحة الصراع الطويل الأجل بين البلدين.
ومع إعلان السلطات الأذرية انتهاء عمليتها العسكرية الخاطفة في الإقليم، استمر نزوح السكان من أصول أرمنية نحو يريفان مع إحكام باكو سيطرتها على الإقليم بعد أن افلحت المحادثات التي أجرتها مع الانفصاليين برعاية روسية بإجلاء عدد كبير من سكان الإقليم نحو أرمينيا والسماح بخروج المسلحين الذين قرروا القاء السلاح عبر ممرات آمنة.
وبانتظار اللقاء المرتقب بين الرئيس الأذربيجاني ورئيس الوزراء الأرمني مطلع الشهر المقبل في اسبانيا، والذي يتوقع أن يتوصل فيه الجانبان إلى اتفاق نهائي لوقف النار يؤسس لاتفاق سلام دائم وشامل يحدد مستقبل إقليم كاراباخ، فإن مشهد الأزمة لم يخل من تداعيات دولية تؤشر احتمال تحوّل منطقة جنوب القوقاز إلى منطقة صراع دولي على النفوذ.
ذلك أن العملية العسكرية المفاجئة التي أفضت إلى هزيمة المسلحين الانفصاليين في الإقليم وفرض سيطرة كاملة على أراضيه، جاءت وسط مساع لرسم خارطة جيوستراتيجية جديدة في المنطقة بدأتها أرمينيا بابتعادها عن موسكو، بعد رفضها المشاركة في مناورات لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، واشتراكها في مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة بداخل أرمينيا أثارت قلق موسكو من احتمال تحرك غربي نحو القوقاز الخاضع للسيطرة الروسية عبر البوابة الأرمنية.
والقلق الروسي كان جديا هذه المرة، إذ اعتبرت موسكو السياسة التي تتبعها السلطة الأرمينية لعبا بالنار وصبا للزيت على النار، كما أن المخاوف الأرمنية كانت أكثر جدية أيضا وعبرت عنها تصريحات الرئيس الأرمني نيكول باشينيان الذي أكد أن، لتحالفات التي تشترك فيها بلاده أثبتت عدم جدواها في حماية أرمينيا، وهو كان يشير ليس فقط إلى تحالفاته القديمة مع روسيا بل مع طموحاته الجديدة بالتحالف مع الغرب الذي لم يحرك ساكنا حيال العملية العسكرية الأذربيجانية التي تزامنت مع تدريبات امريكية مشتركة بداخل الأراضي الأرمنية.
صناعة فرص السلام
لم يكن الدور الروسي غائبا عن هذه التطورات التي أرادت فيها موسكو قطع الطريق على أي محاولات لتدخل غربي في جنوب القوقاز، قد يعرقل عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهو ما أدركته السلطات الأرمينية التي أبدت موقفا مغايرا للمواقف التي طالما التزمت بها حيال الأعمال العسكرية لأذربيجان في الإقليم المتنازع عليه خلال السنوات الماضية، بتجميد قواتها العسكرية المرابطة على الحدود الأذرية دون أي رد عليها، وشروعها بإجراءات لاستقبال المدنيين النازحين من الإقليم والبالغ عددهم نحو 100 ألف نسمة.
وبالنسبة لباكو فقد كان واضحا مساعيها لاستثمار مناخ التحولات الدولية والعلاقات المتأزمة بين أرمينيا وروسيا لصناعة فرص جديدة للسلام، من خلال حسم العراقيل التي حالت دون فرض تحققه خلال العقود الماضية، مستفيدة من قرارات الشرعية الدولية التي ترى في إقليم ناغورنو كاراباخ جزءا من الأراضي التاريخية الأذرية، وكذلك الموقف الأرمني الذي يعترف بحق السيادة الأذرية على الإقليم الذي تقطنه اغلبية أرمنية.
وأكثر من ذلك فإنه لا أحد في باكو ويرفان يريد العودة إلى الصراع المسلح في ظل التوتر الدولي القائم في شرق أوروبا، فالتاريخ لقريب لهذه الحرب كان حافلا بالفوضى والاضطرابات وجرائم الحرب.
والجانبان يعرفان الفواتير الباهظة للحرب التي حصدت خلال الفترة من 1992 حتى 1994 حوالي 35 ألف قتيل وآلاف الجرحى، وتسببت في تشريد حوالي مليون نسمة، وكادت الحرب في آخر جولاتها عام 2020 أن تتطور إلى حرب شاملة بين الدولتين لولا تدخل القوى الدولية التي افلحت في وقف الحرب دون أن تتمكن من إيجاد حلول جذرية للمشكلة التاريخية، ما وضع الدوليتين في حالة حرب رغم قرار وقف إطلاق النار.
ومن جهة أخرى فقد بدا أن العملية العسكرية التي شنها الجيش الأذربيجاني بدعم تركي قد حققت أهدافها سريعا في تدمير معاقل المسلحين من سكان الإقليم الذين كانوا ينخرطون في إطار جمهورية ناغورني كاراباخ غير المعترف بها دوليا، وما تلاه من مفاوضات مع المسلحين الانفصاليين أفضت إلى استسلام من تبقى منهم، وهو المناخ الذي قلل من احتمال تدخل القوات الأرمنية التي طالما تدخلت عسكريا لحماية الأرمن هناك، خصوصا بعد أن استجابت باكو لمطالب المسلحين بتأمين ممرات أمنة لهم للمغادرة وإلقاء السلاح.
كان الاقتراح الذي قدمته حكومة الإقليم ذي الحكم الذاتي بوقف القصف الاذربيجاني وبدء المفاوضات وإعلانها أن أغلبية مواطني الإقليم سيغادرون ولن يعيشوا في أذربيجان حاسما في تغير معادلة توازن القوة، في ظل الوجود الروسي الذي ضمن خروجا آمنا لمن تبقى من المسلحين فضلا عن إشراف القوات الروسية والحكومة الأرمنية على عمليات إجلاء المدنيين نحو أرمينيا وهي القضية التي طالما أعاقت التوصل إلى اتفاق سلام بين البلدين منذ انفصالهما عن الدولة السوفيتية في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
ومن المعلوم أن استسلام القوات الانفصالية في الإقليم كان من أهم الشروط التي وضعتها أذربيجان لإنهاء الصراع وهذا الشرط تحقق اليوم، في حين أن التحولات في السنوات الأخيرة انتجت توافقا اذريا أرمنيا روسيا حول أسس اتفاق السلام القائم على الاتفاقات الموقعة في بروكسل وبراغ، فضلا عن البيان الثلاثي لزعماء أرمينيا وأذربيجان وروسيا.
جدير بالذكر اقليم ناغورنو كاراباخ يقع في قلب أذربيجان ويعترف به القانون الدولي كجزء من جمهورية أذربيجان، وقد منحت التسويات والاتفاقيات القديمة الإقليم حكما ذاتيا لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أعلن سكانه ذوو الأغلبية الأرمنية الانفصال، وشكلوا عام 2004 جمهورية كاراباخ غير المعترف بها بعد أن تم التصديق على دستور الجمهورية برئيس وحكومة مستقلين عن نفوذ الدولتين المتنازعتين، وشهدت في العقود الأخيرة انتخابات لرئيس الجمهورية، كما تشكل فيها مجلس وطني (برلمان).
وبموجب ذلك خضع الاقليم لحكم السلطة الانفصالية المدعومة من ارمينيا بعد حرب شاملة بين أذربيجان وأرمينيا أوقعت 30 ألف قتيل ودفعت مئات آلاف الأشخاص إلى النزوح غالبيتهم من الأذريين وسط تصفيات عرقية جعلت من سكان العرقية الأرمنية اغلبية سكانية في الاقليم.
ورغم أن الأرمن والأذربيجانيين عاشوا لعقود في حالة تعايش في ظل الحكم السوفيتي، إلا أن الوضع تغير كليا بعد انهار الاتحاد السوفيتي حيث تأججت النزعات القومية بينهما، وتعصب الأرمن والأذربيجانيين لفرض أنماط حياتهم وخطابهم السياسي والاجتماعي والاثني والتحريض ضد بعضهم البعض في دوامة انتهت بأعمال عنف عرقي وجرائم إبادة.
وكان التحريض على الضغينة والترويج لخطاب الكراهية أحد العقبات الرئيسية التي حالت دون إيجاد المناخ الملائم للسلام بين الجانبين الذين خاضا عقودا من الصراع أوقع عدداً هائلاً من الضحايا والمشردين.
والمعروف أن أرمينيا ظلت طيلة العقود الماضية تتولى حماية المدنيين في جمهورية ناغورنو كاراباخ لكن بعد اتفاقية 2022 التي قادتها روسيا تغير هذا الدور، حيث استمرت روسيا في التزاماتها بحماية سكان الاقليم دون ضمانات أمنية لأرمينيا التي أبدت سلطاتها ميولا نحو الغرب والولايات المتحدة، في موقف دعا موسكو إلى غض الطرف عن العملية العسكرية الأذرية في الإقليم لقطع الطريق أمام أي تحركات أميركية مستقبلية في هذه المنطقة.
والموقف المناهض للتقارب مع الغرب لم يكن روسيا وحسب بل ظهر من داخل العاصمة الأرمينية بالتظاهرات التي شهدتها يريفان والتي بدت مناهضة لسياسة رئيس الوزراء نيكول باشنيان وتخللها محاولات لعزله والانقلاب عليه.
هذه المستجدات أشرت إلى وجود تيار واسع يرفض سياسة باشنيان المائلة نحو الغرب، في مستجد لم تتوقعه حكومته وأرغمها على إظهار تنازلات منحت محادثات السلام المقررة مطلع الشهر القادم في اسبانيا فرصا للنجاح والمضي قدما نحو تكريس فرص السلام في هذه المنطقة الملتهبة.
ومن الواضح أن السلطات الأرمنية أدركت حجم التغيرات الحاصلة في المنطقة في ظل الدعم التركي الكبير لأذربيجان ومحاولات الروس كسب أذربيجان في ظل التسابق الغربي على الغاز الأذري الذي تحتاجه أوروبا، والذي ساهم كما يعتقد بتغير الموقف الروسي من الحياد إلى الميل لصالح أذربيجان لكسبها في معركتها مع الغرب.
الصراع الدولي
لم يعد الصراع في إقليم ناغورنو كاراباخ بعيدا عن لعبة المصالح بين القوى الدولية والقوى المحيطة بطرفي النزاع وفي الصدارة إيران وتركيا وروسيا.
والموقف الروسي الأخير من الأزمة بين باكو ويريفان، لا يمكن تفسيره سوى في إطار معادلة المصالح الروسية، فموسكو لا تريد معاداة أذربيجان في هذا الوقت، إذ يمكن أن تتحول إلى سلة للغاز الذي تحتاجه الدول الأوروبية، ما قد يقلب طاولة الحسابات الروسية رأسا على عقب.
والمؤكد أن الولايات المتحدة مهتمة حالياً، بفتح صراع عسكري جديد في منطقة القوقاز تشارك فيه روسيا لاستنزافها عسكريا دون أن تضطر لتكبد خسائر كبيرة.
والصراع في إقليم كاراباخ على أنه ظل محصورا بين أذربيجان وأرمينيا لعقود، إلا أنه مرشح للتحول إلى منطقة صراع دولي كونه يمثل منطقة نفوذ روسية من جهة ونقطة التقاء بين الإمبراطورية العثمانية والفارسية والروسية، في ظل بيئة صرا ع اثني يفرضها وجود سكان من العرق الأذري مسلمين شيعة، مقابل أغلبية سكانية أرمنية مسيحية.
والموقع الجغرافي للإقليم في قلب الدولة الأذرية يمنح قضية النزاع أهمية استراتيجية في السنوات القادمة كونه، يقع في قلب الدولة الأذرية الغنية بالموارد النفطية وخصوصا الغاز الذي تحتاجه أوروبا التي تعيش تداعيات خطيرة من جراء أزمة الطاقة الروسية.
هذا الأمر ربما يزيد من احتمالات تحولها إلى منطقة صراع دولي تتشابك وتتصادم فيه المصالح الإقليمية والدولية بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا فضلا عن اللاعبين الأساسيين في الأزمة أرمينيا وأذربيجان.
ورغم أن الغرب كان يميل في السنوات الأخيرة إلى حل جذري على قاعدة سلام نهائي ودائم للأزمة بين أرمينيا وأذربيجان اللتين أعلنتا أنهما جاهزتان لصيغة السلام الدائم والشامل، إلا أن تقاطعات المصالح الدولية بين الغرب وروسيا لا تزال تحول دون تحقق الأقوال إلى أفعال.
والسبب الأول بلا شك هو طول أمد الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا والآثار التي خلفتها العقوبات الغربية على روسيا وإيران والتي جعلت الممرات الاقتصادية في منطقة القوقاز نقطة صراع دولي ساخنة.
والمرجح أن النهاية الحاصلة اليوم للأزمة ستلقي بظلالها على خارطة التحالفات الدولية في منطقة القوقاز ومؤشراتها قد بدأت فعلا في التظاهرات التي شهدتها يريفان ضد رئيس الوزراء نيكول باشينيان الموالي للغرب وما أعلنه جهاز المخابرات الجورجية مؤخرا حول تحضير المعارضة الموالية لأمريكا لانقلاب في جورجيا بمساعدة مسلحين تم إعدادهم في معسكرات على الحدود البولندية الأوكرانية.
وما ينبغي الإشارة اليه أن كل محاور الأزمة اليوم مرتبطة بالتنسيق بين روسيا وتركيا وإيران، وأي تفاهم بين الدول الثلاث يستند إلى قرارات الشرعية الدولية من شأنه أن يساعد على عدم خروج الصراع عن السيطرة، كما سيعزز بلا شك الاستقرار في المنطقة، في حين أن عدم تفاهم هذه القوى قد يحولها إلى منطقة صراع إقليمي طويل الأمد.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
القاعدة تشن هجومًا مفاجئًا على عدن: هل تكون هي البداية الجديدة التي يسعى اليها التحالف؟
الجديد برس|
في خطوة غير متوقعة، أعلن تنظيم القاعدة، يوم الثلاثاء، استهدافه لمديريات حيوية في مدينة عدن، المعقل الأبرز للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات.
وتأتي هذه التطورات المثيرة في وقت تشهد فيه الساحة السياسية الجنوبية ترتيبات أمريكية جديدة يقودها حزب الإصلاح، مما يثير تساؤلات حول ردود فعل المجلس الانتقالي.
مصادر محلية أفادت بأن التنظيم، الذي يتزعمه أنيس العولي، المعين من قبل الرئيس هادي قائدًا للشرطة العسكرية، أعاد نشر عناصره تحت غطاء “الشرطة العسكرية” في منطقة كريتر، إحدى أعرق مدن عدن.
وبحسب المصادر، قامت هذه العناصر بنصب نقاط تفتيش وتعقب كل من يرتدي زيًا عسكريًا جنوبيًا، ما يعكس تصعيدًا ملحوظًا في أنشطتها.
وتعد هذه الخطوة توسيعًا لانتشار تلك العناصر التي ظلت تتركز في مديرية التواهي منذ عام 2017، بعد اتفاق يقضي بدمجها مع الفصائل الموالية للتحالف.
ومع ذلك، يبقى الغموض يكتنف هذه التحركات: هل هي جزء من ترتيبات لتسليم المدينة لحزب الإصلاح، أم أن هناك تحسبات لردود فعل محتملة من المجلس الانتقالي بعد إعلان الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف جديد قد يغير معالم المشهد في جنوب اليمن؟