مراسل بي بي سي يروي تجربة عودته إلى السودان لأول مرة منذ بدء الحرب
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
عند نزولنا من على متن طائرة الخطوط الجويّة المصرية، في مطار بورتسودان، استقبلتنا المدينة الساحلية بهواء ساخن رطب، لكنه كان منعشا على وجهي في ذات الوقت. ربما مرد هذا الإحساس، هو إلى الشوق لبلدي الذي أبعدتني عنه الحرب قسرا، طوال الشهور الخمسة الماضية.
وعلى غرار ملايين السودانيين، فقد اضطرتني الحرب إلى مغادرة السودان، وذلك منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منتصف أبريل/ نيسان الماضي، واستقرّ بي المقام في جمهورية مصر العربية.
الطائرة التي أقلتنا من مطار القاهرة، كانت الرحلة الجويّة الأولى من نوعها لطيران دولي وتجاري من العاصمة المصرية القاهرة إلى مدينة بورتسودان. وربما لهذا السبب، فقد كانت ممتلئة عن آخر مقاعدها بمسافرين من مختلف الأعمار، وإن غلب عليهم كبار السن.
سألتُ سيدة في عقدها الخامس أو السادس، عن شعورها بعد العودة، فأتتني إجابتها بصوت باك بأنها سعيدة جدا بالعودة، وأضافت: “ذهبت إلى القاهرة برا مع بداية الحرب، ولكن قررت وأسرتي العودة إلى السودان بسبب الظروف الاقتصادية. صحيح أنّ الحرب لم تتوقّف، ولكنّا عدنا إلى بلادنا، وسنُحاول التكيف مع الأوضاع في مسقط رأسنا بولاية الجزيرة”.
عندما خطوت أول خطواتي إلى مدينة بورتسودان التي طالما أحببتها، لفّتني مشاعر متناقضة: السعادة لكوني عدت مرة أخرى إلى بلدي بعد طول غياب، والحزن بسبب عدم استطاعتي الذهاب إلى منزل أسرتنا بمدينة أم درمان، إحدى المدن الثلاثة التي تشكل ولاية الخرطوم، والتي تُعتبر حاليا بؤرة قتال مشتعلة، فاكتفيت بالتواصل مع أهلي وأصدقائي عبر الهاتف.
مدينة بورتسودان لم تتغيّر كثيرا منذ آخر زيارة لها، فما تزالُ مسالمة، وادعة، متنوعة، وأناسها لطفاء كما هي عادتهم.
غير أنّ الحرب ألقت بظلال سوداء كالحة على بعض المظاهر هنا وهناك. حيث انتشرت عدة نقاط تفتيش على طول الطريق من المطار إلى قلب المدينة، بالإضافة إلى المظاهر العسكرية المتمثلة في الآليات والمركبات العسكرية والجند المنتشرين على الطريق، ولا تُخطئهم العين.
موّلدات الكهرباء لوثت بضجيجها أسماع المدينة، والسببُ في ذلك يعود إلى انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة نهارا وليلا.
ومع بداية الحرب، فرضت سلطات مدينة بورتسودان حظرا للتجوال، يبدأ من الحادية عشرة ليلا، وينتهي عند السادسة من صباح اليوم التالي، ومن أول دقيقة لحظر التجوال، يشرع الجنود في عمليات التفتيش، سواء في نقاط الارتكاز العسكرية، أو عبر سياراتهم العسكرية المتجوّلة.
كورنيش مدينة بورتسودان، بشُهرته الواسعة باعتباره ملتقى للأصدقاء والأحباب، ومكانا للترفيه، إذ كان يعج بالحركة التجارية بالأخص عند الأمسيات، امتدت إليه أصابع الحرب اللعينة هو الآخر، فقد تأثر بشكل كبير بالقيود الأمنية، وحظر التجوال، وتقييد الحركة.
إبراهيم طه، وهو صاحب محل لبيع المأكولات لم يتمكن من فتح محله منذ أشهر بسبب القيود على الحركة من قبل السلطات العسكرية في بعض أجزاء الكورنيش، يقول: “صحيح أن الحرب في الخرطوم، ومناطق أخرى غيرها، لكنني تأثرت بها هنا في بورتسودان، وبت عاطلا عن العمل، لكوني لا أستطيع الذهاب إلى مكان عملي بسبب القيود على الحركة”.
الحرب لم تفرض واقعها الجديد على المواطنين فحسب، بل على الحكومة أيضا، إذ اضطرت – بحكم سياسية الأمر الواقع – إلى نقل العاصمة من الخرطوم إلى مدينة بورتسودان، لأنّ قوات الدعم السريع تُسيطر على أجزاء واسعة من العاصمة، بما في ذلك المرافق الحكومية.
ونتيجة لذلك، كان على الوزراء المكلفين أن يديروا شؤون وزاراتهم من بورتسودان. يُضاف إلى ذلك أن رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتّاح البُرهان استقرّ به المقام في المدينة، بعد خروجه من مقر القيادة العامة للجيش في عملية مثيرة للجدل، حيث كان مُحاصرا فيه لأشهر، منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في الخرطوم.
كما طلبت وزارة الخارجية من الحكومة المحلية منحها قطعة أرض لكي تُشيد عليها مقرا للوزارة، ومركزا للمؤتمرات، كما نقلت العديد من البعثات الدبلوماسية ومنظمات الأمم المتحدة مقارها إلى مدينة بورتسودان.
والأمر لم يقتصر على المؤسسات الرسمية، والوكالات الإنسانية، والبعثات الدبلوماسية، وإنّما تعدى ذلك إلى الأعمال التجارية والمطاعم التي كانت تعمل في الخرطوم، ومن بين هؤلاء بشري الذي كان يُدير مطعما متخصصا في “الأقاشي”، وهي وجبة شعبية سودانية تُصنع بشكل أساسي من اللحم والدجاج الذي يُشوى على أسلاك رفيعة.
يقول بشري إن الحرب اضطرته إلى نقل عمله من الخرطوم إلى سوق بورتسودان الكبير: “تعرضتُ لخسائر كبيرة في الخرطوم، عقب سيطرة قوات الدعم السريع على حي العمارات، التي يقع فيها مطعمي، ولذلك قررت المغادرة إلى بورتسودان ونقل عملي إليها”.
ويضيف بشري: “الأوضاع هنا ليست على ما يُرام، بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وزيادة تكاليف الإنتاج، لكن بالرغم من ذلك سأستمر في عملي، وأفكر في افتتاح فروع أخرى للمطعم في أحياء المدينة الأخرى، بعد الإقبال على وجباتنا في الآونة الأخيرة”.
تُعد بورتسودان مدينة استراتيجية لكونها تطل على ساحل البحر الأحمر، الذي بُني عليه ميناء البلاد الرئيسي، والذي يُستخدم حاليا في إيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب. كما استخدم الميناء أيضا في عمليات إجلاء الرعايا الأجانب، والبعثات الدبلوماسية إلى خارج البلاد، عقب اندلاع الحرب.
وحاليا، يُعد مطار بورتسودان الوحيد الذي يعمل في البلاد إلى الآن، حيث يستقبل مدرّجه بشكل منتظم العديد من رحلات الطيران لشركات وطنية من كل من: أديس أبابا، وجدة، ودبي. ومنذ مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، انضمت شركة مصر للطيران إلى الشركات الجوية التي تهبط رحلاتها بمطار المدينة.
ومن جانبه يتطلع مدير مطار بورتسودان- عثمان العوض، إلى زيادة عدد الرحلات، وذلك عبر انضمام شركات عالمية أخرى، ويقول: “هبوط طائرة مصر للطيران في مطار بورتسودان إشارة جيدة إلى أن المطار آمن وجاهز لاستقبال الرحلات الجوية، ولذلك نتطلع لاستقبال المزيد من شركات الطيران في الأجواء السودانية، عبر مطار بورتسودان”.
مع بداية الحرب، لجأت مئات العائلات إلى مدينة بورتسودان، بحثا عن الأمان ولقمة العيش الكريمة، ومكث بعض هذه الأسر في مراكز الإيواء التي أُنشئت في المدارس أو بعض المؤسسات الحكومية.
لكن العيش في هذه المراكز التي زرت بعضها، قاس ومؤلم، فهي لا تصلح للإقامة والعيش، إذ تعاني من نقص الخدمات الأساسية في الغذاء، والرعاية الصحية، ومياه الشرب النظيفة، بالإضافة إلى الازدحام الشديد في بعضها، الأمر الذي أجبر بعض هذه الأسر إلى الخروج والبحث عن مكان آخر للعيش والإقامة.
ومن بين هؤلاء بتول تيّة، وهي ربّة أسرة لجأت إلى بيع الشاي تحت ظل شجرة أمام احدى المؤسسات الخاصة.
تقول بتول إنها هربت مع أسرتها من الخرطوم، ووصلت إلى مدينة بورتسودان، ومكثت في أحد مراكز الإيواء لبعض الوقت، وتُضيف: “الوضع في مركز الإيواء صعب للغاية، ولذلك قررت الخروج مع أسرتي، والعمل في بيع الشاي. نحن الآن في وضع أفضل من ذي قبل، حيث تمكنت من تدبير قوت أولادي بشكل يومي، بعد أن تكفل أحد الخيرين بتوفير سكن لنا”.
عند حلول المساء، تبدأ الجهات الأمنية وخاصة الجيش في وضع نقاط التفتيش في عدة أماكن داخل المدينة. ولكني لاحظت أن نقطة التفتيش المقامة بالقرب من مكان سكني بها عدد كبير من الضباط ذوي الرتب الرفيعة يقومون بتفتيش السيارات بأنفسهم. وعندما سألت عن السبب عرفت أن نقطة التفتيش هذه لم تكن تابعة للجيش وإنما لفصيل محلي يتبع زعيم قبلي يدعى شيبة ضرار. نقطة التفتيش مقامة بالقرب من مقر هذا الفصيل الذي يطلق على نفسه اسم ” تحالف أحزاب وحركات شرق السودان”.
وظلت عناصر الفصيل تنفذ عمليات التفتيش وفحص السيارات بشكل يومي حتي قامت وحدات من الجيش بايقاف عملها وذلك بالهجوم على النقطة وإطلاق نار في الهواء – وهي الحادثة التي أثارت جدلا واسعا باعتبارها أول واقعة إطلاق نار في المدينة التي ظلت آمنة منذ بدء القتال.
لم يصدر الجيش بيانا رسميا عن الواقعة. ولكن مصادر عسكرية أخبرتني أن الجيش لا يريد أن يكون لأي جهة غير نظامية نشاط عسكري مسلح في المدينة.
وعندما سألت قائد الفصيل المسلح – وهو أيضا رئيس هيئة شعبية لمناصرة الجيش – عن الواقعة، قال إنهم وضعوا نقطة التفتيش من أجل مساعدة الجيش وتسهيل مهامه: “هنالك العديد من البضائع التي تهرّب من الميناء وتذهب إلى مناطق الدعم السريع ونحن نريد أن نوقف مثل هذه الأعمال”.
صحيح أن الهدوء عاد إلى المدينة بعد واقعة إطلاق النار، وصحيح أيضا أن نقطة التفتيش أزيلت فيما بعد، لكن تبقى هناك مخاوف حقيقية لدى السكان من أن تفقد المدينة الساحلية أمانها المعروف عنها، فمعظم النار يبدأ من مستصغر الشرر.
أصبحت بورتسودان وجهة للكثير من الفارين من جحيم الحرب لأنها تبدو واحدة من المدن الآمنة نسبيا في البلاد في الوقت الحالي، ولكن لا شيء يضاهي العيش في مدينتك التي نشأت فيها، وهو أمر لن يتحقق إلا بتوقف الحرب تماما، وعودة الناس – ومن بينهم أنا بطبيعة الحال – إلى مناطقهم التي غادروها مجبرين.
بي بي سي عربي
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: إلى مدینة بورتسودان مطار بورتسودان نقطة التفتیش الدعم السریع فی الخرطوم الذی ی
إقرأ أيضاً:
ذكريات عن مهدي السودان، الشيخ محمد أحمد
ذكريات عن مهدي السودان، الشيخ محمد أحمد
يرويها خادمه الشخصي محمد المكي قوليب، الذي لا يزال حياً يرزق بالسودان
Reminiscences of the Sudan Mahdi,
Sheikh Mohammed Ahmed
By his personal servant Mohammed El Mekki Ghuleib, who is still living in the Sudan
J.A. Reid جي. أر. ريد
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال بقلم الإداري البريطاني جي. أر. ريد (الذي كان قد شغل في سنوات العشرينيات من القرن الماضي منصب نائب مدير مديرية النيل الأبيض) نُشر في يناير من عام 1936م في المجلد الخامس والثلاثين (الجزء رقم 138) من مجلة الجمعية الأفريقية الملكية J. Royal African Society، صفحات 71 – 75. وسبق لنا ترجمة عدد من مقالات هذا الكاتب منها مقال بعنوان: "مقتل غوردون: رواية شاهد عيان"، ومقال بعنوان "أمراء المهدية"، ومقال آخر عنوانه: "قصة أمير مهدوي".
أود أن أشكر بروفيسور أحمد أبو شوك لتكرمه بمساعدتي في الحصول على نسخة من هذا المقال.
المترجم
********** ********** *********
تَصدير
محمد المكي قوليب هو رجل جعلي يعيش الآن (أي في ثلاثينات القرن الماضي. المترجم) في مدينة ود مدني بمديرية النيل الأزرق. وعندما قابلته في تلك المدينة كان يبلغ من العمر نحو 65 عاماً، وبد لي أن الرجل كان في حال سيئ رغم أنه كان بشوشاً ومُنْشَرِح الصَّدْرِ. وعمل الرجل بعد وفاة المهدي في عام 1885م مع الخليفة محمد شريف حتى وقعت معركة كرري. غادر بعدها أمدرمان وآب إلى أهله في شندي (بمديرية بربر). ومن هناك توجه إلى "جزيرة الفيل" بالقرب من ود مدني، ليكون بالقرب من السير السيد عبد الرحمن، الذي كان يقضي فيها سنوات طفولته (وهو أكبر من بقي على قيد الحياة من أبناء المهدي). وظل محمد المكي يعمل في خدمة السيد عبد الرحمن إلى أن تقدم به العمر ولم يعد قادراً على العمل، فذهب ليقيم في ود مدني. وظل الرجل في كامل قواه العقلية والفكرية ومخلصاً لذكرى سيده.
قصته His Story
وقعت عيناي لأول مرة على المهدي في "جبل قدير" بجبال النوبة، والتي قدمت إليها استجابة لدعوة من صديقي عبد الله التجاني، الذي غدا حامل ختم المهدي. في تلك الأيام كان المهدي شاباً معتدل الطول وقوي البنيان وله عينان براقتان، وابتسامة ساحرة أَخَّاذة. وكانت بشرته بنية فاتحة. وكان يرتدي دوما ملابس بسيطة لا تزيد عن جبة مرقعة وسروال قطني، وطاقية من القش يلف حولها عمامة من قماش قطني محلي الصنع. طلب مني المهدي أن أعمل خادماً شخصياً له. أحسست بالفخر يغمرني وأنا أقبل بذلك التشريف، وبقيت ملازماً له حتى يوم وفاته.
كنت أحمل أبريق وضوءه، وأَصُبُّ الماء على يديه عندما يفرغ من طعامه. وعندما يمتطي جملاً ارْتدفه. كان قليل الكلام، ولكنه يداوم على قراءة القرآن، ويبكي في غالب الأحوال وهو يتلو آياته. كان طعامه في غاية البساطة، إذ لم يكن يتجاوز حبات ذرة مغلية "بليلة" أو دخن محمص، وكان يشرك في تناولها كل من يجده حوله. لقد كان رجلاً صالحاً في كل أفعاله، ولم تكن لديه أي شهوات دنيوية. لقد كان بالفعل صورة مثالية للتواضع والتَصاغُر، حتى مع أفقر الرجال والنساء. لقد أتى المهدي لتطهير الدين وكان يدعو للعودة إلى الله وكتابه الكريم ولنبيه. وأقر حتى من ناصبوه العداء بأنه رجل صالح. لم يكن يرغب في الحرب، ولو كان قد تمكن من السيطرة على جنوده (في الأصل "عربه". المترجم) لأُنْقِذَتْ حياة غوردون باشا.
تضاعفت أعداد أنصار المهدي ونحن في قدير، وكان النوبة هم من يقومون بإطعامنا. كان الخليفة عبد الله معه في تلك الأيام ولكنه لم يكن شخصية مهمة. وكان معنا أيضاً علي ود حلو، الذي كان سابقاً أحد تلاميذ المهدي، وكذلك الخليفة محمد شريف، الذي كان في مرحلة الصبا. وبعد أن قضينا في قدير نحو شهرين، أقبلت على معسكرنا امرأة عربية وهي تلهث وأبلغتنا بأن قوة من الجيش التركي أقامت لها معسكراً مخبوءاً بين الأشجار بالقرب منا. أصدر المهدي أمراً بالهجوم ليلاً على تلك القوة التي كانت قد قدمت من فشودة تحت إمرة راشد بيه. وبعد هجومنا عليهم، لم ينجُ أحد منهم سوى فرد واحد، وغنمنا منهم الكثير.
وفي أعقاب هزيمة راشد بيه، تقدم صوبنا من الخرطوم يوسف باشا الشلالي. وكان الشلالي يخطط للهجوم علينا ليلاً ولكنه ضل الطريق. ولاحظ من أرسلناهم لاستكشاف أوضاع تلك الحملة، أن الشلالي أقام حول معسكره زريبة ضخمة وكثة بالشجيرات الشوكية. وعند مطلع الفجر قادنا المهدي وهو على فرسه لقتالهم. هاجمناهم وقضينا على معظمهم، وأسرنا من بقي منهم على قيد الحياة.
بعد ذلك تحرك المهدي نحو مدينة الأبيض. وأقمنا معسكرنا في "كابا" الواقعة جنوب تلك المدينة. وأرسل المهدي لسكان الأبيض داعياً إياهم للاستسلام. واستجاب بعض التجار وغيرهم وانضموا لنا. وفي يوم الجمعة هاجمت قوات المهدي المدينة، وأفلحنا في اختراق دفاعاتها رغم تكبدنا لخسائر فادحة. وسار المهدي إلى داخل المدينة وهو على صهوة جواده. ولجأ المدافعون عن المدينة إلى أسطح المنازل وشرعوا في إطلاق النيران على جندونا. لذا أُخِذَ المهدي لخارج المدينة، وانسحب كذلك جنودنا منها. ولاحقاً أمر المهدي بمحاصرة المدينة، وطال الحصار حتى استسلمت سلطات المدينة من شدة المجاعة.
ثم بلغتنا أنباء بأن هكس باشا قد بلغ الدويم. وعلى الفور عين المهدي بعض الأمراء لمناوشة جيش هكس وهو يتقدم، وكان منهم الأمير عبد الرحيم أبو دقل (من قبيلة الحمر) والأمير أحمد الصافي (من الرباطاب) والأمير رحمة موسى (من الجوامعة). وأرسل أولئك الأمراء للمهدي ما يفيد بأن هكس في طريقه إلى البركة (1)، فتحرك المهدي وجنوده من الأبيض وسيطر على آبار " البركة " قبل أن يصل إليها جيش هكس، ليحرمهم من الماء. ولما اقترب جنود هكس، أمر الخليفة عبد الله بضرب "النحاس" ليقذف في قلوب أولئك الجنود الرعب. وعند سماع جنود هكس لأصوات طبول الحرب، شرعوا في الفرار نحو شيكان والأبيض. وعندها بدأ أنصار المهدي في مطاردتهم. وكان اللغوب والعطش قد بلغا بجنود هكس كل مبلغ، فوقعوا فريسة سهلة لجنودنا ولم يقدروا على مقاومة جيشنا. وكنت ممسكا بفرس المهدي في أثناء تلك المعركة. وبعد انتهاء المعركة عدنا مرة أخرى للأبيض.
بعد ذلك توجه المهدي بجيشه نحو الرهد لقتال نوبة "جبل داير"، ولكننا لم نستطع هزيمتهم. قرر المهدي بعد ذلك التوجه نحو الخرطوم. وكان الفصل خريفاً، وكانت الأمطار الغزيرة قد خلفت الكثير من برك المياه الراكدة. وسار الجيش على طريق البساطة (البساط)، وأقام المهدي معسكره في منطقة شات، وبقينا بها لشهر كامل. ومن شات سرنا نحو الدويم الواقعة على النيل الأبيض، وأقمنا لنا معسكراَ في "الترعة الخضراء"، ومنها تحركنا لإقامة معسكر في منطقة أخرى هي "الشيخ الصديق" الواقعة على الجانب الآخر من القطينة. وأخيرا بلغنا منطقة "أبو سعد" الواقعة جنوب أم درمان.
أطبق المهدي بجيشه العرمرم حصاراً محكماً على مدينة الخرطوم. وتواصل الحصار – بصورة متقطعة – زمنا طويلاً، إلى أن قرر المهدي أن الوقت قد حان للهجوم على الخرطوم. ركب المهدي فرسه حتى بلغ شجرة "ماحي بيه" (التي تسمى أحياناً "شجرة غوردون") على الشاطئ الشرقي للنهر، وألقى على جنوده خطبة قصيرة تضمنت قسماً وموعظة دينية. بعدها عبر النهر مرة أخرى عائداً لمعسكره بالقرب من أم درمان. وكان المهدي قد سمع بأن الجيش البريطاني كان قد بلغ "أبو طليح"، وكان يخشى أن تفلح تلك القوات البريطانية في الوصول للخرطوم وتنقذها من الحصار. كنت بجانب المهدي وشاركت في الهجوم على الخرطوم. بدأ هجومنا على المدينة عند الفجر، وما أن انتصف النهار، حتى كانت المدينة في قبضتنا. وعبر المهدي النهر ودخل الخرطوم حيث أدى صلاة الظهر في مسجدها. وعدت مع المهدي لأم درمان تاركين خلفنا جيشنا. وبعد يوم أو يومين قربت من الخرطوم باخرتان تحملان الجيش الإنجليزي، ولما تبين لهما أن الخرطوم قد سقطت، عادتا أدراجهما.
بعث المهدي بجنود قادهم موسى ود حلو (شقيق الخليفة علي ود حلو) لقتال الجيش الإنجليزي بشمال البلاد، غير أن قواته هُزِمَتْ ولم يعد لأم درمان إلا قليل جدا من جنودنا. وعلى إثر ذلك، بعث المهدي بقوات أخرى كان على رأسها الأمير عبد الرحمن النجومي لملاحقة الجنود البريطانيين، إلا أن تلك القوة البريطانية أفلحت في العودة لمصر قبل أن تواجه جنود النجومي.
منذ أن انضممت للمهدي، لم أفارقه قط. كنت خادمه الشخصي. وطوال أعوامي معه لم يكلمني بصورة شخصية إلا نادراً جدا. كان يكثر من تلاوة القرآن ويردد أن الدينا هذه لا تعدو أن تكون مثل جيفة، وأن من يحبونها هم مثل الكلاب. كان منشغلاً دوما بكتابة المنشورات والمواعظ. وكان له كاتب اسمه أحمد النور (من الجعليين) يعمل علي خط نسخ مما يكتبه المهدي. وكان المهدي نادراً ما يستشير خلفاءه، غير أنه كان يجتمع بهم قبل الدخول في أي معركة ويلقي عليهم تعليماته.
وعقب سقوط الخرطوم، سكن المهدي في البيت الذي أقيم فيه لاحقاً ضريحه الموجود الآن. وكان بذلك البيت ثمان غرف تعيش فيها زوجاته. ولم يكن مسموحاً لأي رجل بدخول ذلك البيت، باستثناء 10 أو 12 من الخصيان الذين جُلِبُوا من مختلف أنحاء البلاد. وكان المهدي قد خصص لكل واحدة من زوجاته مسترقة تقوم بأعمال البيت من طبخ وغسل وغير ذلك.
وكان المهدي يعقد مجلسه في حوش الجامع، ولم يحدث قط أن اجتمع بذلك المجلس في بيته. وكان المهدي يؤثر من بين أعضاء مجلسه المحسي أحمد سليمان، أمين بيت المال، وسليمان عبد الله، الذي كان فيما مضى مسترقاً لحليم أفندي في بربر. وكان من واجباته مساعدة المهدي في الركوب على فرسه، والوقوف حارساً على بابه.
لا أصدق أن المهدي مات مسموماً. لقد كنت بجانبه عند مرضه الذي توفي بسببه. كان قد مرض لخمسة أيام، ولم نكن نعتقد أن مرضه كان مرضاً خطيراً. واستدعى المهدي في يومه الأخير ثلاثة من خلفائه، وأمرهم بالقسم على الولاء والبيعة للخليفة عبد الله. وأستدعى كذلك اثنين من كبار قضاته (أحمد على سليمان وسليمان الحجاز)، وجعلهم يقسمون بالله على أن يحكموا بين الناس بالعدل. وأخير استدعى كل زوجاته وأخبرهنّ بأنه في ساعته الأخيرة، وأن عليهنّ الاستعداد لنهاية العالم. قام بعد ذلك بالسجود مرتين، واستلقى على سرير وأسلم الروح. وكان ذلك عند منتصف النهار. تجمع الكثيرون حول داره وهم ينوحون، ومنعهم احمد ود سليمان من النواح وأمرهم بإخلاء المكان. وكان من بين المَعزيّين الخلفاء الثلاثة، وقام هؤلاء – بالاشتراك مع كبار معاونيهم - بحفر قبر المهدي في غرفته الشخصية التي قُبِضَتْ فيها روحه، وذلك بحسب ما أوصى به. وقبل مواراة الجثمان الثري، أخذوا الجثمان إلى ساحة المسجد للصلاة عليه. وعقب الصلاة صعد الخليفة عبد الله على المنبر وتلقى البيعة من جموع المصلين.
**** *** ****
إحالات مرجعية
1/ يمكن النظر في مقال مترجم بعنوان "من رسائل هكس باشا في أيام حملتي سنار وكردفان عام 1883م" https://shorturl.at/UIwPX
alibadreldin@hotmail.com