عند نزولنا من على متن طائرة الخطوط الجويّة المصرية، في مطار بورتسودان، استقبلتنا المدينة الساحلية بهواء ساخن رطب، لكنه كان منعشا على وجهي في ذات الوقت. ربما مرد هذا الإحساس، هو إلى الشوق لبلدي الذي أبعدتني عنه الحرب قسرا، طوال الشهور الخمسة الماضية.

وعلى غرار ملايين السودانيين، فقد اضطرتني الحرب إلى مغادرة السودان، وذلك منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، منتصف أبريل/ نيسان الماضي، واستقرّ بي المقام في جمهورية مصر العربية.

الطائرة التي أقلتنا من مطار القاهرة، كانت الرحلة الجويّة الأولى من نوعها لطيران دولي وتجاري من العاصمة المصرية القاهرة إلى مدينة بورتسودان. وربما لهذا السبب، فقد كانت ممتلئة عن آخر مقاعدها بمسافرين من مختلف الأعمار، وإن غلب عليهم كبار السن.

سألتُ سيدة في عقدها الخامس أو السادس، عن شعورها بعد العودة، فأتتني إجابتها بصوت باك بأنها سعيدة جدا بالعودة، وأضافت: “ذهبت إلى القاهرة برا مع بداية الحرب، ولكن قررت وأسرتي العودة إلى السودان بسبب الظروف الاقتصادية. صحيح أنّ الحرب لم تتوقّف، ولكنّا عدنا إلى بلادنا، وسنُحاول التكيف مع الأوضاع في مسقط رأسنا بولاية الجزيرة”.

عندما خطوت أول خطواتي إلى مدينة بورتسودان التي طالما أحببتها، لفّتني مشاعر متناقضة: السعادة لكوني عدت مرة أخرى إلى بلدي بعد طول غياب، والحزن بسبب عدم استطاعتي الذهاب إلى منزل أسرتنا بمدينة أم درمان، إحدى المدن الثلاثة التي تشكل ولاية الخرطوم، والتي تُعتبر حاليا بؤرة قتال مشتعلة، فاكتفيت بالتواصل مع أهلي وأصدقائي عبر الهاتف.

مدينة بورتسودان لم تتغيّر كثيرا منذ آخر زيارة لها، فما تزالُ مسالمة، وادعة، متنوعة، وأناسها لطفاء كما هي عادتهم.

غير أنّ الحرب ألقت بظلال سوداء كالحة على بعض المظاهر هنا وهناك. حيث انتشرت عدة نقاط تفتيش على طول الطريق من المطار إلى قلب المدينة، بالإضافة إلى المظاهر العسكرية المتمثلة في الآليات والمركبات العسكرية والجند المنتشرين على الطريق، ولا تُخطئهم العين.

موّلدات الكهرباء لوثت بضجيجها أسماع المدينة، والسببُ في ذلك يعود إلى انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة نهارا وليلا.

ومع بداية الحرب، فرضت سلطات مدينة بورتسودان حظرا للتجوال، يبدأ من الحادية عشرة ليلا، وينتهي عند السادسة من صباح اليوم التالي، ومن أول دقيقة لحظر التجوال، يشرع الجنود في عمليات التفتيش، سواء في نقاط الارتكاز العسكرية، أو عبر سياراتهم العسكرية المتجوّلة.

كورنيش مدينة بورتسودان، بشُهرته الواسعة باعتباره ملتقى للأصدقاء والأحباب، ومكانا للترفيه، إذ كان يعج بالحركة التجارية بالأخص عند الأمسيات، امتدت إليه أصابع الحرب اللعينة هو الآخر، فقد تأثر بشكل كبير بالقيود الأمنية، وحظر التجوال، وتقييد الحركة.

إبراهيم طه، وهو صاحب محل لبيع المأكولات لم يتمكن من فتح محله منذ أشهر بسبب القيود على الحركة من قبل السلطات العسكرية في بعض أجزاء الكورنيش، يقول: “صحيح أن الحرب في الخرطوم، ومناطق أخرى غيرها، لكنني تأثرت بها هنا في بورتسودان، وبت عاطلا عن العمل، لكوني لا أستطيع الذهاب إلى مكان عملي بسبب القيود على الحركة”.

الحرب لم تفرض واقعها الجديد على المواطنين فحسب، بل على الحكومة أيضا، إذ اضطرت – بحكم سياسية الأمر الواقع – إلى نقل العاصمة من الخرطوم إلى مدينة بورتسودان، لأنّ قوات الدعم السريع تُسيطر على أجزاء واسعة من العاصمة، بما في ذلك المرافق الحكومية.

ونتيجة لذلك، كان على الوزراء المكلفين أن يديروا شؤون وزاراتهم من بورتسودان. يُضاف إلى ذلك أن رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتّاح البُرهان استقرّ به المقام في المدينة، بعد خروجه من مقر القيادة العامة للجيش في عملية مثيرة للجدل، حيث كان مُحاصرا فيه لأشهر، منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في الخرطوم.

كما طلبت وزارة الخارجية من الحكومة المحلية منحها قطعة أرض لكي تُشيد عليها مقرا للوزارة، ومركزا للمؤتمرات، كما نقلت العديد من البعثات الدبلوماسية ومنظمات الأمم المتحدة مقارها إلى مدينة بورتسودان.

والأمر لم يقتصر على المؤسسات الرسمية، والوكالات الإنسانية، والبعثات الدبلوماسية، وإنّما تعدى ذلك إلى الأعمال التجارية والمطاعم التي كانت تعمل في الخرطوم، ومن بين هؤلاء بشري الذي كان يُدير مطعما متخصصا في “الأقاشي”، وهي وجبة شعبية سودانية تُصنع بشكل أساسي من اللحم والدجاج الذي يُشوى على أسلاك رفيعة.

يقول بشري إن الحرب اضطرته إلى نقل عمله من الخرطوم إلى سوق بورتسودان الكبير: “تعرضتُ لخسائر كبيرة في الخرطوم، عقب سيطرة قوات الدعم السريع على حي العمارات، التي يقع فيها مطعمي، ولذلك قررت المغادرة إلى بورتسودان ونقل عملي إليها”.

ويضيف بشري: “الأوضاع هنا ليست على ما يُرام، بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وزيادة تكاليف الإنتاج، لكن بالرغم من ذلك سأستمر في عملي، وأفكر في افتتاح فروع أخرى للمطعم في أحياء المدينة الأخرى، بعد الإقبال على وجباتنا في الآونة الأخيرة”.

تُعد بورتسودان مدينة استراتيجية لكونها تطل على ساحل البحر الأحمر، الذي بُني عليه ميناء البلاد الرئيسي، والذي يُستخدم حاليا في إيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب. كما استخدم الميناء أيضا في عمليات إجلاء الرعايا الأجانب، والبعثات الدبلوماسية إلى خارج البلاد، عقب اندلاع الحرب.

وحاليا، يُعد مطار بورتسودان الوحيد الذي يعمل في البلاد إلى الآن، حيث يستقبل مدرّجه بشكل منتظم العديد من رحلات الطيران لشركات وطنية من كل من: أديس أبابا، وجدة، ودبي. ومنذ مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، انضمت شركة مصر للطيران إلى الشركات الجوية التي تهبط رحلاتها بمطار المدينة.

ومن جانبه يتطلع مدير مطار بورتسودان- عثمان العوض، إلى زيادة عدد الرحلات، وذلك عبر انضمام شركات عالمية أخرى، ويقول: “هبوط طائرة مصر للطيران في مطار بورتسودان إشارة جيدة إلى أن المطار آمن وجاهز لاستقبال الرحلات الجوية، ولذلك نتطلع لاستقبال المزيد من شركات الطيران في الأجواء السودانية، عبر مطار بورتسودان”.

مع بداية الحرب، لجأت مئات العائلات إلى مدينة بورتسودان، بحثا عن الأمان ولقمة العيش الكريمة، ومكث بعض هذه الأسر في مراكز الإيواء التي أُنشئت في المدارس أو بعض المؤسسات الحكومية.

لكن العيش في هذه المراكز التي زرت بعضها، قاس ومؤلم، فهي لا تصلح للإقامة والعيش، إذ تعاني من نقص الخدمات الأساسية في الغذاء، والرعاية الصحية، ومياه الشرب النظيفة، بالإضافة إلى الازدحام الشديد في بعضها، الأمر الذي أجبر بعض هذه الأسر إلى الخروج والبحث عن مكان آخر للعيش والإقامة.

ومن بين هؤلاء بتول تيّة، وهي ربّة أسرة لجأت إلى بيع الشاي تحت ظل شجرة أمام احدى المؤسسات الخاصة.

تقول بتول إنها هربت مع أسرتها من الخرطوم، ووصلت إلى مدينة بورتسودان، ومكثت في أحد مراكز الإيواء لبعض الوقت، وتُضيف: “الوضع في مركز الإيواء صعب للغاية، ولذلك قررت الخروج مع أسرتي، والعمل في بيع الشاي. نحن الآن في وضع أفضل من ذي قبل، حيث تمكنت من تدبير قوت أولادي بشكل يومي، بعد أن تكفل أحد الخيرين بتوفير سكن لنا”.

عند حلول المساء، تبدأ الجهات الأمنية وخاصة الجيش في وضع نقاط التفتيش في عدة أماكن داخل المدينة. ولكني لاحظت أن نقطة التفتيش المقامة بالقرب من مكان سكني بها عدد كبير من الضباط ذوي الرتب الرفيعة يقومون بتفتيش السيارات بأنفسهم. وعندما سألت عن السبب عرفت أن نقطة التفتيش هذه لم تكن تابعة للجيش وإنما لفصيل محلي يتبع زعيم قبلي يدعى شيبة ضرار. نقطة التفتيش مقامة بالقرب من مقر هذا الفصيل الذي يطلق على نفسه اسم ” تحالف أحزاب وحركات شرق السودان”.

وظلت عناصر الفصيل تنفذ عمليات التفتيش وفحص السيارات بشكل يومي حتي قامت وحدات من الجيش بايقاف عملها وذلك بالهجوم على النقطة وإطلاق نار في الهواء – وهي الحادثة التي أثارت جدلا واسعا باعتبارها أول واقعة إطلاق نار في المدينة التي ظلت آمنة منذ بدء القتال.

لم يصدر الجيش بيانا رسميا عن الواقعة. ولكن مصادر عسكرية أخبرتني أن الجيش لا يريد أن يكون لأي جهة غير نظامية نشاط عسكري مسلح في المدينة.

وعندما سألت قائد الفصيل المسلح – وهو أيضا رئيس هيئة شعبية لمناصرة الجيش – عن الواقعة، قال إنهم وضعوا نقطة التفتيش من أجل مساعدة الجيش وتسهيل مهامه: “هنالك العديد من البضائع التي تهرّب من الميناء وتذهب إلى مناطق الدعم السريع ونحن نريد أن نوقف مثل هذه الأعمال”.

صحيح أن الهدوء عاد إلى المدينة بعد واقعة إطلاق النار، وصحيح أيضا أن نقطة التفتيش أزيلت فيما بعد، لكن تبقى هناك مخاوف حقيقية لدى السكان من أن تفقد المدينة الساحلية أمانها المعروف عنها، فمعظم النار يبدأ من مستصغر الشرر.

أصبحت بورتسودان وجهة للكثير من الفارين من جحيم الحرب لأنها تبدو واحدة من المدن الآمنة نسبيا في البلاد في الوقت الحالي، ولكن لا شيء يضاهي العيش في مدينتك التي نشأت فيها، وهو أمر لن يتحقق إلا بتوقف الحرب تماما، وعودة الناس – ومن بينهم أنا بطبيعة الحال – إلى مناطقهم التي غادروها مجبرين.

بي بي سي عربي

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: إلى مدینة بورتسودان مطار بورتسودان نقطة التفتیش الدعم السریع فی الخرطوم الذی ی

إقرأ أيضاً:

نقل الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى المستشفى

الخرطوم (زمان التركية)ــ قال محامي الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الذي حكم البلاد لمدة 30 عاما قبل أن تطيح به انتفاضة شعبية ثم يسجنه الحكام العسكريون للبلاد، يوم الأربعاء إن موكله نُقل إلى منشأة طبية في شمال السودان.

منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان من العام الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، يحتجز عمر البشير البالغ من العمر 80 عاما في منشأة عسكرية على مشارف العاصمة السودانية الخرطوم.

السودان.. نقل عمر البشير لمشفى خارج الخرطوم بسبب مضاعفات صحيةhttps://t.co/I4qtq75d7V#عمر_البشير #السودان #صحة #مضاعفات #مشفى_خارج_الخرطوم

— سماء الوطن الإخبارية (@alwatanskynews1) September 25, 2024

وقال محاميه محمد الحسن الأمين لوكالة أسوشيتد برس إن البشير نُقل يوم الثلاثاء وسيحصل على الرعاية المناسبة في مستشفى مجهز بشكل أفضل في بلدة مروي، على بعد حوالي 330 كيلومترًا (205 ميلًا) شمال الخرطوم.

وقال المحامي إن صحة عمر البشير تدهورت في الآونة الأخيرة، مضيفا أن الرجل القوي السابق يعاني من مضاعفات مرتبطة بالعمر وارتفاع ضغط الدم.

وأضاف الأمين عبر الهاتف: “إنه يحتاج إلى فحوصات ومتابعة دورية، لكن حالته ليست حرجة”.

وقال الأمين إن وزير الدفاع السوداني السابق عبد الرحيم محمد حسين -الذي اعتقل أيضا بعد فترة وجيزة من اعتقال البشير- نُقل أيضا إلى نفس المنشأة. وأضاف المحامي أنه يعاني من مشاكل في القلب.

ورفض مكتب المتحدث العسكري السوداني التعليق عندما اتصلت به وكالة أسوشيتد برس.

عمر البشير

حكم البشير السودان لمدة ثلاثة عقود، على الرغم من الحروب والعقوبات، قبل الإطاحة به خلال انتفاضة شعبية في عام 2019. وهو مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم أخرى ارتكبت أثناء الصراع في منطقة دارفور بغرب السودان في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات إلى البشير وحسين بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور، حيث اتسمت حملة الحكومة هناك بالقتل الجماعي والاغتصاب والتعذيب والاضطهاد. وقُتل نحو 300 ألف شخص وأُجبر 2.7 مليون شخص على النزوح من ديارهم.

ورفض الحكام العسكريون في السودان – الذين يقاتلون الآن للبقاء في السلطة في صراع مرير مع قوات الدعم السريع المنافسة – طلبات المحكمة الجنائية الدولية بتسليم البشير وغيره من المطلوبين من قبل المحكمة الدولية للمحاكمة.

كان البشير وحسين وآخرون محتجزين في سجن بالخرطوم قبل نقلهم إلى قاعدة عسكرية محصنة بعد أن هاجمت قوات الدعم السريع السجن في أبريل/نيسان من العام الماضي. كما فر مسؤول سابق آخر، أحمد هارون، المطلوب أيضًا من قبل المحكمة الجنائية الدولية، بعد الهجوم على السجن. ولا يُعرف مكانه.

لقد دمرت الحرب الأخيرة في السودان الخرطوم والعديد من المناطق الحضرية الأخرى، كما تميزت أيضًا بفظائع مثل الاغتصاب الجماعي والقتل بدوافع عرقية. وتقول الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان الدولية إن هذه الأفعال ترقى أيضًا إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وخاصة في دارفور، التي تواجه هجومًا مريرًا من قبل قوات الدعم السريع.

وأسفرت الحرب عن مقتل 20 ألف شخص على الأقل وإصابة عشرات الآلاف، وفقا للأمم المتحدة، لكن جماعات حقوق الإنسان تقول إن العدد الحقيقي للقتلى أعلى من ذلك بكثير.

كما أجبر الصراع نحو 10 ملايين شخص على الفرار من منازلهم في السودان ــ أي ما يقرب من ربع سكان البلاد، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة. ومن بين هؤلاء، نزح أكثر من مليوني شخص إلى الخارج، معظمهم إلى تشاد وجنوب السودان ومصر المجاورة، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة.

 

Tags: الرئيس السودانيحسن البشير

مقالات مشابهة

  • شركة بالم هيلز تطلق "The Village" في مدينة "باديا" - تجربة سكنية مبتكرة واستثمار استثنائي في العقارات لأول مرة في مصر
  • شركة بالم هيلز تطلق "The Village" في مدينة "باديا" - تجربة سكنية مبتكرة باستثمار استثنائي في العقارات لأول مرة في مصر
  • نقل الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى المستشفى
  • “تحدث له مضاعفات”.. لأول مرة نقل البشير خارج الخرطوم
  • عاجل | إذاعة الجيش الإسرائيلي: صواريخ من لبنان تستهدف تل أبيب لأول مرة في هذه الحرب
  • دخول الجيش السوداني إلي مدينة مدني يعني نهاية التمرد في وسط السودان
  • لأول مرة منذ عزله .. البشير خارج الخرطوم لهذا السبب
  • روسيا تهاجم مدينة زاباروجيا الأوكرانية لأول مرة باستخدام قنابل انزلاقية تعود للحقبة السوفياتية
  • تحدث له مضاعفات.. لأول مرة نقل البشير خارج الخرطوم
  • “خيم وبطاطين وكميات من مواد الإيواء والصحة العامة” .. سفينة مساعدات إنسانية تركية ثانية تصل بورتسودان