زنقة 20. الرباط

انعقد اليوم الجمعة، بمقر أكاديمية المملكة بالرباط، اجتماع لوزير العدل عبد اللطيف وهبي، والرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية محمد عبد النباوي، ورئيس النيابة العامة الحسن الداكي، للإشراف العملي على إعادة النظر في مدونة الأسرة، بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الملف.

ويأتي هذا الاجتماع في إطار تنزيل مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة المتعلقة بإعادة النظر في مدونة الأسرة، تفعيلا للقرار الملكي السامي الذي أعلن عنه جلالته في خطاب العرش لسنة 2022، وتجسيدا للعناية الكريمة التي ما فتئ يوليها للنهوض بقضايا المرأة والأسرة بشكل عام.

وقال وزير العدل عبد اللطيف وهبي في تصريح للصحافة، بالمناسبة، إن هذا اللقاء يعد الأول بعد الاجتماع مع رئيس الحكومة، والذي تم خلاله التهييئ للاجتماعات المقبلة لتنظيم وتوزيع العمل، مبرزا أنه سيتم الشروع ابتداء من يوم الجمعة المقبل في العمل على هذا “المشروع الكبير الذي تبناه جلالة الملك، لاسيما وأن جلالته يعتبر موضوع الأسرة من القضايا الكبرى”.

وأضاف وهبي “سنستمع للقوى المدنية، وللمسؤولين الحكوميين، وسنحاول أن نصغي للجميع لكي نتفق على مجموعة من التغييرات”، معبرا في هذا الصدد عن الأمل في “أن نكون في مستوى ثقة جلالة الملك، وفي مستوى إنصاف المرأة المغربية”.

وفي تصريح مماثل، أكد محمد عبد النباوي، أن جلالة الملك، نصره الله، حريص على الاهتمام بقضايا الأسرة المغربية، ولذلك يستمع جلالته إلى نبض كافة مكونات المجتمع بهدف تحقيق انتظاراتهم، مضيفا أن جلالة الملك “تفضل بتشكيل هذه اللجنة من أجل مراجعة مدونة الأسرة التي مضى على العمل بها 20 سنة، وهي مدة كافية من أجل الوقوف على الاختلالات التي تواجه الأسرة”.

وأشار عبد النباوي، إلى أن اللجنة شرعت في مهامها مباشرة بعد تبليغها من طرف رئيس الحكومة بالرسالة الملكية، ووقفت بذلك على المفاهيم والتوجيهات السامية السديدة التي تتضمنها.

وأضاف أن اللجنة بدأت الاشتغال على أساس تحديد طريقة العمل، وكيفية الاستماع لمختلف الأطراف ذات الصلة، وأيضا من أجل إجراء المشاورات اللازمة بالشكل الذي أمر به جلالة الملك، أي ب”شكل مكثف، ووثيق وموسع”.

وأفاد بأنه ابتداء من الأسبوع المقبل ستباشر اللجنة الاستماع لبعض الأطراف، على أن تستمر هذه العملية في الفترة المقبلة، معربا عن أمله في أن “تتكلل هذه الجهود بالنجاح حتى نكون عند حسن ظن جلالة الملك، وتقديم مقترحات كفيلة بتنزيل مدونة جيدة تكون في مستوى تطلعات الأسرة المغربية”.

كما عبر عن الأمل في أن تقوم جميع الأطراف المعنية ب”موافاتنا بكافة المقترحات التي تشغل بالها من اجل بحثها ورفعها إلى السدة العالية بالله”.

من جهته، أبرز الحسن الداكي، في تصريح مماثل، أن اجتماع هذه اللجنة، التي تم تكوينها بأمر من جلالة الملك يأتي في إطار تنفيذ توجيهات جلالته الواردة في الرسالة الملكية السامية التي تهدف إلى إصلاح مدونة الأسرة وإرساء الخطوط العريضة التي تنبني عليها.

وبهذه المناسبة، أشاد السيد الداكي بالمبادرة الملكية السامية الرامية إلى إعادة النظر وتعديل وإصلاح مدونة الأسرة، لما لها من أهمية قصوى في الحفاظ على كيان الأسرة سواء المرأة أو الطفل، مشددا على أهمية هذه الخطوة “بعد مرور عقدين من الزمن على دخول مدونة الأسرة الحالية حيز التنفيذ”.

وأضاف أن الحكمة الملكية السامية تنبع من قناعة جلالة الملك بضرورة رصد كافة الاختلالات ذات الصلة وإعادة النظر في بعض البنود والمقتضيات التي تروم تجويد وتحسين وتنظيم بنيان الأسرة المغربية بكل مكوناتها. كما نو ه السيد الداكي بتجسيد آلية التعاون والإشراك المؤسساتي بين مختلف الهيئات المعنية بملف الأسرة “لكي نستمع وننفتح على مختلف الفعاليات طبقا للتوجيهات الملكية السامية، وننصت لكل مكون من مكونات المجتمع له رأي في هذا التوجه العام الذي أمر به جلالة الملك “.

المصدر: زنقة 20

كلمات دلالية: الملکیة السامیة مدونة الأسرة جلالة الملک النظر فی

إقرأ أيضاً:

مراجعة مدونة الأسرة بالمغرب.. سيرورة التحديث وقواعد تفكيك البنيات الشرعية

قبل أيام، تم في المغرب عرض التوجهات الكبرى التي ستؤطر مراجعة مدونة الأسرة، بعد حوالي عقدين من الزمن على تطبيقها (2004)، وقد أثارت هذه التوجهات جدلا غير مسبوق في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وسط حذر وترقب عبرت عنه مواقف مكونات الصف الإسلامي، التي سارعت إلى إصدار بلاغات، أشبه ما تكون بإعلان حالة يقظة وتعبئة، مع التأكيد بأن النقاش لم ينته بعد، ما دام الملك أبقى ورش الاجتهاد الفقهي مفتوحا بالنسبة إلى المجلس العلمي الأعلى، وما دام الجزء الأكبر من العمل المتعلق بالصياغة القانونية التفصيلية، لا يزال مفتوحا إلى أن يتم عرض مشروع قانون مدونة الأسرة على البرلمان بغرفتيه.

في الواقع، لا يهمنا في هذا الاجتهاد التفاعل بشكل تفصيلي مع التوجيهات الستة عشر التي انتهى إليها عمل الهيئة المكلفة بمراجعة المدونة، بقدر ما يهمنا أن نساهم في بلورة رؤية تحليلية واستشرافية، للتوتر القائم بين بنية المحافظة والتحديث في المجتمع المغربي من خلال ديناميات الفاعلين المجتمعيين حول موضوع مدونة أسرة، والطرق التي يتم بها إدارة الصراع في المستوى المؤسساتي والتشريعي، بل وحتى على مستوى المفردات وحمولتها الشرعية أو القانونية. ذلك أن الجدل والتوتر الذي ينشأ عن بعض القضايا المتعلقة بالمدونة مثل زواج التعدد أو زواج القاصر أو تدبير الأموال المكتسبة خلال العلاقة الزوجية وغيرها، يغطي في الحقيقة عن فهم القواعد والآليات والسيرورات التي يتم بها تدبير جدل المحافظة والحداثة، ولا يسمح بملاحظة عناصر الاطراد والاستمرارية في استكمال عناصر الدولة الحديثة، والقطع مع المؤسسات التقليدية، والبنيات التشريعية التي تؤسس لها.

لا خلاف بالمطلق في استقراء تجارب التحديث سواء لحظة الاستعمار أو لحظة الدولة الحديثة أن الصياغة القانونية، والخيارات التشريعية لبعت دورا مركزيا في إنهاء البنيات التقليدية والشرعية لفائدة بنيات حديثة تمنح كل الامتيازات لتبرر وجودها وتؤمن استمرارها.وإذا كان الصراع على مستوى الخطاب لا يخفي حقيقة أن جبهة الحداثيين تعبر بشكل علني عن رغبتها في أن تستكمل هذه المهمة، وأن يتم الفطام بشكل كامل عن ثقافة الأم (كما هي فلسفة العروي الحداثية) فإن مكونات الجبهة المحافظة، هي الأخرى، لا تخفي كونها تقوم بعملية مقاومة لهذه السيرورة، متمترسة في ذلك خلف الحماية المجتمعية.

في المغرب، تعرف هذه السيرورة ـ أي سيرورة تفكيك بنيات المحافظة ـ طابعا خاصا، بحكم احتفاظ النظام السياسي بالشرعية الدينية (إمارة المؤمنين)، والتزام نظام إمارة المؤمنين، بأن تكون مدونة الأسرة غير متعارضة مع مرجعية الشريعة، مما يجعل تتبع عناصر هذه السيرورة تأخذ هي الأخرى طابعها الخاص، وتتوقف عند أهم التعقيدات التي تكتنف عملية التحول نحو البنية الحديثة في كل مستوياتها، بما في ذلك التشريعية التي تهم قضايا الأسرة.

سيرورة التحديث العلماني ومشكلة بنية الدولة ومرجعيتها

في سنة 2000، عرف المغرب أكبر انقسام مجتمعي على خلفية مرجعية وإيديولوجية، بسبب الخلاف حول استراتيجية قدمتها وزارة التنمية الاجتماعية في حكومة التناوب سميت وقتها باستراتيجية إدماج المرأة في التنمية. وتسبب هذا الخلاف في خروج مسيرتين، الأولى مليونية، تزعمها المحافظون في الدار البيضاء، والثانية ألفية، قادها العلمانيون بالرباط، وترتب عنها تدخل الملك، بتكليف لجنة لإعداد مدونة الأسرة، وكان من اللافت، أن حضور العلماء في اللجنة كان مركزيا، فخرجت المدونة، متضمنة لبعض المطالب العلمانية، لكن دون أن يصل ذلك إلى سقف تطلعات الحداثيين، ولم يثر من جهة الجبهة المحافظة أي اعتراض يذكر، بحكم أن موادها، ولغتها القانونية، كانت مصاغة بمفردات تنحت من اللغة الشرعية. وقد تأكد العلمانيون عندها أن خوض معركة حاسمة لتأمين السيرورة القسرية نحو التحديث وهزم التقليد، يتطلب بالضرورة خوض صراع ضد الدولة وبنيتها ومرجعيتها، وأنه لا أفضل في هذه المرحلة من التوافق، والقبول بالحد الأدنى الذي تحقق، في أفق ترتيب معارك أخرى للمستقبل، فكانوا عند كل محطة تقييم لتجربة تطبيق المدونة يعيدون مطالبهم بخصوص تجريم زواج القاصر وزواج التعدد وإنهاء دعوى سماع الزوجية، فضلا عن مطالب بالمساواة في الإرث وإلغاء التعصيب وتقاسم الثروة المكتسبة خلال قيام الزوجية بين الزوجين.  وفي المقابل، كان الإسلاميون مطمئنين، بأن مطامح العلمانيين لا يمكن أن تتحقق، لأنهم يواجهون المجتمع والدولة في آن واحد، فكانوا في الغالب الأعم يكتفون بالانفعال وإصدار دود فعل على مطالب العلمانيين.

في تفكيك بنى المحافظة.. في وظائف الشرعنة

كان أول سؤال طرح لحظة تعيين أعضاء الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، هو وضع العلماء، والمؤسسة التي تنتظمهم، أي المجلس العلمي الأعلى، وهل ستكون عضوا مشاركا في اللجنة، أم مجرد مرجعية يتم اللجوء إليها بعد استقبال مقترحات الطيف المدني والسياسي والعلمي والأكاديمي؟ وما معنى أن تكون مرجعية؟ هل يؤول إليها أن تعيد صياغة المدونة وفقا لمخرجات الاستشارة الموسعة، أم تتم صياغة المقترحات من قبل أعضاء الهيئة المعنية، ويتم حصر نظر العلماء في إبداء القبول أو الرفض في المقترحات المعروضة قياسا إلى رأي الشرع؟ وفي حالة الرفض، فهل توجد بدائل داخل الشرع تسوغ مثل هذه المقترحات؟

في الواقع، كانت منهجية 2004، ملهمة، بحكم أنها حققت إنجازا مهما، وجنبت المغرب من احتقان كبير، لم يكن وقتها أحد يتصور ما هي الخيارات لتدبيره، ولذلك، لم يكن هناك اعتراض على منهجية 2024، بحكم أن موقع العلماء، كان قويا، إذ يفترض أن يؤول عمل الهيئة إلى نظر العلماء، الذين يكلفهم الملك بوصفه أميرا للمؤمنين للقيام بهذه المهمة.

واقع العمل الذي أظهرته كلمة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق خلال اللقاء التواصلي لعرض توجهات الهيئة،  والتي تحدثت عن عمل المجلس العلمي الأعلى، يبين أن وظيفة العلماء كانت ملخصة في النظر في شرعية أو عدم شرعية المقترحات المعروضة عليه، دون أن يكون له رأي في الفلسفة التي تنتظم هذه المقترحات، ولا البنية الفكرية التي تجمعها، ولذلك، تحدث وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عن مقترحات تم قبولها (10) ومقترحات تم رفضها (3) لمعارضتها لقطيعات الشريعة، ومقترحات تم فيها إعطاء حلول بديلة (2) ومقترحات تحتاج إلى قرار ولي الأمر (2).

مضمون هذه المنهجية، أن العمل الأهم المرتبط ببنية نص المدونة، وهندسة الزواج والطلاق، واللغة التي سيكتب بها نص المدونة، سيكون بعيدا عن العلماء، وهو الجانب الأهم في استراتيجية تفكيك بنى التحديث، إذ ترتكز هذه الاستراتيجية على عنصرين متلازمين: الأول، حصر وظيفة العلماء في شرعنة التحديث، وفي حالة الاستعصاء إيجاد بديل لهذه الشرعنة. والثاني، هو الاستفراد بهندسة العلاقات داخل السرة، واستنبات بنيات التحديث، والتحكم في الصياغة القانونية واللغوية للمدونة.

تفكيك بنى المحافظة.. تقويض البنيات الشرعية من خلال هندسة نص المدونة

تجسد مدونة الاسرة مركزية البيات الشرعية التي تتعلق بالزواج والطلاق والنفقة والحضانة والنيابة الشرعية والإرث والتعصيب.

في مدونة 2004، لم يحدث اختراق كبير لهذه البنيات في نص المدونة، فتم إلغاء مؤسسة الولي ضمن أركان الزواج، وتم في مقابل ذلك إدخال نوعين جديدين من الطلاق، أعطي الأول اصطلاحا شرعيا، هو طلاق الشقاق، جاء ليغطي حالات طلب الطلاق بدون إثبات، ليتم بذلك حل مشكلة الإثبات في التطليق (لضرر أو عيب أو غيبة أون إعسار بنفقة أو غيبة أون هجر أو إيلاء)، وسمي الثاني بالطلاق الاتفاقي.

لحد الآن ليس لدينا نص مدونة 2024، لكن التوجهات الستة عشر التي أعلنت الهيئة أنها ستؤطر نص المدونة في كتبها السبعة، تعطي صورة عن وجود رؤية لتغيير جوهري في البنيات الشرعية المرتبطة على الأقل بالنسبة إلى الزواج والطلاق.

في حالة الطلاق يبدو الأمر أكثر وضوحا، إذ تضمن التوجه السادس، أي:"جعل الطلاق الاتفاقي موضوع تعاقد مباشر بين الزوجين، دون الحاجة لسلوك مسطرة قضائية، وتقليص أنواع الطلاق والتطليق، بحكم أن التطليق للشقاق يغطي جلها".

يعني هذا التوجه، أن هندسة الطلاق في المدونة سيتغير كليا، وأن السيناريو الأقرب أن يتم الاكتفاء في الأقصى بثلاثة أنواع في الطلاق (الرجعي، والمملك، والاتفاقي) ونوع واحد في التطليق هو طلاق الشقاق، وفي الأدنى بنوعيه فقط هما الطلاق الاتفاقي وطلاق الشقاق.

تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية يبين بشكل واضح كيف يتم استنبات بنيات حديثة مجاورة للبينات الشرعية (نموذج الطلاق) وكيف ينتهي الأمر بإنهاء البنيات الشرعية لفائدة لبنيات الحديثة، إذ تفيد الإحصاءات داخل نوع الطلاق الذي يغطي 28 في المائة من مجموع الطلاق بالمغرب، أن الطلاق الاتفاقي يغطي جلها، بنسبة حوالي 21 في المائة من مجموع حالات الطلاق،  وأنه داخل نوع التطليق، الذي يغطي 72 في المائة من مجموع حالات الطلاق بالمغرب، فإن طلاق الشقاق (البنية المستحدثة) يغطي 71.50 بالمائة، وهذا يعني، أن إعادة هندسة  نص المدونة في  أنواع الطلاق، بحسب التوجه السادس أعلاه، يعني إنهاء البنيات الشرعية، لصالح البنيات المستحدثة، بداعي أنها تغطي مجموع حالات الطلاق، علما أن تقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية قدم تفسيرا لذلك، كون طلاق الشقاق لا يطلب إثباتا ومسطرة البث فيه سريعة، فيبين ذلك، أن إضفاء امتيازات على البنيات المستحدثة، هو جزء من منهجية تفكيك البنى الشرعية.

في هندسة الزواج، حصل في مدونة 2004 تقدم مهم في القضاء على إحدى البنى الشرعية (زواج التعدد)، لكن مشكلة سماع دعوى الزوجية، وعدم مسايرة الواقع السوسيوقتصادي لسيرورة التحديث،  أعطى نوعا من الحياة لهذه البنية، فاتجه التوجه الرابع (اشتراط إجبارية استطلاع الزوجة اثناء توثيق عقد الزواج حول اشتراطها عدم التزوج عليها من عدمه والتنصيص على ذلك في العقد" ومنع التعدد في حالة التنصيص عليه، وحصره في حالة عدم التنصيص عليه في حالتي العقم وحصول مرض مانع من المعاشرة الزوجية)، فاتجه هذا التوجه إلى وضع الآلية القانونية للقضاء على هذه البنية بشكل كامل أو  في الأقصى إبقاؤها في حدود جد ضيقة. والأمر لا يختلف بالنسبة لزواج القاصر، إذ تم تضييقه بوضع حد أدنى للسن في الوضع الاستثنائي، أي 17 سنة مع تـأطيره بعدة شروط تضمن بقاءه في دائرة الاستثناء عند التطبيق.

إذا كان الصراع على مستوى الخطاب لا يخفي حقيقة أن جبهة الحداثيين تعبر بشكل علني عن رغبتها في أن تستكمل هذه المهمة، وأن يتم الفطام بشكل كامل عن ثقافة الأم (كما هي فلسفة العروي الحداثية) فإن مكونات الجبهة المحافظة، هي الأخرى، لا تخفي كونها تقوم بعملية مقاومة لهذه السيرورة، متمترسة في ذلك خلف الحماية المجتمعية.يظهر التوتر بين البنيات الشرعية والتحديثية أكثر في هندسة الزواج بشكل أكثر وضوحا من جهة في استحداث أنماط علاقات جديدة داخل مؤسسة الأسرة، ومن جهة أخرى، في تغيير ترتيبات عرفية في زمن مؤسسة الزواج، يترتب عنها لاحقا القضاء على بعض الأوضاع الشرعية.

 مثال الأول، في التوجه السابع، المتعلق بتدبير الأموال المكتسبة، أثناء العلاقة الزوجية، واعتماد مقترح تثمين عمل الزوجة داخل المنزل، واعتباره مساهمة في تنمية هذه الموال المكتسبة. فهذا المقترح، الذي يبدو في ظاهرة الانتصار لفئة من النساء المقهورات اللواتي يخرجن بعد سنوات من العمل المنزلي الشاق بدون تعويض لاسيما عند الطلاق، يؤول في مؤداه إلى تمكين المطلقة من حقين،  حق شرعي هو المتعة، وحق حداثي هو نصيبها في الأموال المكتسبة، وفي المقابل تكليف المطلق بواجبين شرعي وحداثي، بما يؤول في نهاية المطاف، إلى خلق تذمر من صعوبة الوفاء بهما يلتقي مع مطالب الحداثيين بإلغاء المتعة، بحكم انها تنتمي إلى البنيات التقليدية، أي نفس المنهجية التي تم بها استقبال البنيات الحديثة في  الطلاق، والانتهاء بالبنيات التقليدية إلى  الإقبار بدعوى عدم الحاجة إليها.

الوجه الثاني في هذا المثال، أن هذا التوجه سيدفع بشكل تقليدي إلى القضاء على دور الزوجة ربة البيت، لفائدة المرأة العاملة، فالزوج الذي سيتحمل أداء واجبات العمل المنزلي ويدفعه لزوجته، سيكون خياره الأفضل هو الزواج بالمرأة العاملة، لتتقاسم معه نفقات الخادمة، بما ينهي بشكل مطلق أنماط من العلاقة التقليدية داخل الأسرة: أي خدمة الزوجة لبيتها، لفائدة التأسيس للعلاقات الحداثية القائمة على منطق المساواة والمناصفة حتى في أداء الواجبات، بما يؤول في نهاية المطاف إلى اختفاء مفهوم النفقة، ومعه مفهوم القوامة.

مثال الثاني، المتعلق بتغيير ترتيبات عرفية في زمن مؤسسة الزواج، فيوضحه بشكل كبير تمتيع الزوجة بحق النفقة مع العقد لا مع البناء (الدخول)، مع أن المالكية ـ مذهب المغاربة وثابتهم الديني-لا يختلفون في أن النفقة على الزوجة لا تجب إلا مع الدخول، فالظاهر، أن اللجوء لهذا الاقتراح الذي يدعم بالاجتهاد الحنفي، سيكون له ضمن الرؤية الحداثية دور مهم، يتعلق بإنهاء مفاهيم شرعية مثل "قبل البناء وبعده"، وما يتعلق بها من أحكام، وهو الوضع الذي سيكون ميسرا إن تقوت الانتقادات لمتعة الطلاق،  واتجهت دينامية التحديث إلى الاستعاضة عنها بفكرة تدبير الأموال المكتسبة اثناء قيام الزوجية واعتماد العمل المنزلي سببا ناهضا لاستحقاق نصيب مثمن ضمنها.

تفكيك بنيات المحافظة: ثالثا المفردات واللغة القانونية

الخطوة الثالثة، المستكملة لتفكيك بنيات المحافظة، هي تغيير اللغة، واعتماد اللغة القانونية الحديثة بدلا عن اللغة الشرعية، وإذا كنا قد رأينا في الفقرات السابقة كيف ينتهي تفكيك البنيات إلى إنهاء بعض المؤسسات وأنماط العلاقات وأيضا بعض المفاهيم الشرعية، فإن ما اختتمت به توجهات الهيئة يطرح أكثر من تساؤل حول هذه الخطوة، إذ تم التأكيد بشكل واضح على أن المراجعة، بحكم كونها عميقة، ستشمل بالضرورة تبني صياغات بعبارات حديثة، من خلال استبدال بعض المصطلحات سيما إذا توقف العمل بها في منظومتنا القانونية".

وقد كان تمثيل وزير العدل السيد علد اللطيف وهبي في هذا الموضوع بمصطلح المتعة في الطلاق، واضحا لبيان أهمية هذه الخطوة المتعلقة باللغة في التمكين للبنيات الحديثة وهزم بينات المحافظة.

وقد اتضح من خلال لغة المجلس العلمي الأعلى، ولغة وزير العدل الذي قدم التوجهات فرق شاسع في الاصطلاحات المستعملة، فعلى سبيل المثال يتحدث المجلس العلمي الأعلى عن إيقاف سكن الزوجية، أو عقد "العمرى" الشرعي بين الزوج والزوجة الذي بمقتضاه يمكن استثناء بيت الزوجية من التركة، يتحدث وزير العدل في التوجه الرابع عشر عن حق الزوج أو الزوجة بالاحتفاظ ببيت الزوجية في حالة وفاة الزوج الآخر وفق شروط يحددها القانون.

على سبيل الختم

 في الواقع، يصعب اختبار هذه التحليل، وإثبات مصداقيته بمعزل عن حركة التاريخ، أي التاريخ الذي يكشف القواعد التي اعتمدت لإزاحة البنيات التقليدية المرتبطة بالتعليم والقضاء ومختلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية التقليدية،  في مجتمعاتنا العربية والإسلامية  مع مجيء الاستعمار وتشكل الدولة الحديثة، لكن، يبدو أن تحليل مسار ما بين 2004 و 2024، وتحليل تغيرات نص المدونة وما يترتب عنه من تغير في البنيان وأنماط العلاقان والمفاهيم، والأحكام، يؤكد ولو بشكل جزئي بعض الخلاصات التي انتهينا غليها، ليبقى المستقبل الذي سيصبح يوما ما تاريخا كفيلا باختبار هذا التحليل وإثبات مصداقيته.

لكن مع ذلك كله، فلا خلاف بالمطلق في استقراء تجارب التحديث سواء لحظة الاستعمار أو لحظة الدولة الحديثة أن الصياغة القانونية، والخيارات التشريعية لبعت دورا مركزيا في إنهاء البنيات التقليدية والشرعية لفائدة بنيات حديثة تمنح كل الامتيازات لتبرر وجودها وتؤمن استمرارها.

مقالات مشابهة

  • اتفاقيات التعاون اللبنانية - السورية: إعادة النظر ضرورة
  • حيار: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة لا تتعدى حدود الشريعة الإسلامية
  • الريسوني لـ"اليوم 24": تعديلات مدونة الأسرة خالفت الشريعة الإسلامية في مسألة واحدة (حوار)
  • مراجعة مدونة الأسرة بالمغرب.. سيرورة التحديث وقواعد تفكيك البنيات الشرعية
  • تعديلات مدونة الأسرة.. ثورة قانونية أم مساس بالقيم الأسرية؟
  • الكنبوري: المجلس العلمي الأعلى يتحمل المسؤولية الأكبر في شرح مضامين تعديلات مدونة الأسرة
  • بيان جديد للجيش بِشأن توغّل قوات إسرائيلية في وادي الحجير.. هذا ما جاء فيه
  • جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة في زيارة خاصة
  • الرفاق يشيدون بالمقاربة المعتمدة في مراجعة مدونة الأسرة
  • جلالة الملك محمد السادس في زيارة خاصة إلي دولة الإمارات