فى خطوات ثقيلة، بعد رحلة مرهقة، سارت المجموعة فى أمان، دخل بعضهم فى أحاديث جانبية، عما شاهدوه من عزيمة وإصرار وبطولات، لم يكن بينهم من يشعر بخوف بعد نجاتهم من موت محقّق، لكن معظمهم كان فى حاجة إلى الراحة، وفجأة تحول الأمن إلى خوف.. وتعثّرت الخطوات الثقيلة.. وتسمّرت الأرجل فى مكانها.

علت الوجوه نظرات دهشة فى عيون صُدمت لتوها، علامة حمراء -لعينة- مثلثة، تعنى أن المجموعة الآمنة أصبحت فريسة سهلة فى حقل ألغام، بات كل عقل يفكر، هل سيخسر ما بقى من عمره، أم سيخرج بطرف مبتور، هل سيكتب ما جاء ليشاهده بالحبر.

. أم سيكتب «تحيا مصر» بدمائه، فالدم كما الحبر تماماً، يصلح للكتابة، وأصدق الكتابة.. ما كتب بدماء الشهداء.

كانت المجموعة مكونة من كبار المراسلين الحربيين يمثلون مؤسسة «أخبار اليوم»، الكاتب «أحمد زين» وكان رئيساً لقسم الأخبار، والكاتب «صلاح قبضايا» وكان المحرر العسكرى للأخبار، والمصور الصحفى «مكرم جاد الكريم»، ورسام الكاريكاتير «مصطفى حسين»، علاوة على بطل القصة وراويها الأديب الكبير والمراسل الحربى العظيم الأستاذ الراحل «جمال الغيطانى».

لم يكن جمال الغيطانى من بين الوفد الذى سيعتمده الكاتب الكبير «موسى صبرى»، لكنه طلب أن يذهب معهم، ووافق رئيس التحرير رغم أنه يعمل بقسم التحقيقات «ولمَ لا، اذهب معهم فأنت أديب»، وبات لسان حال «الغيطانى» فى هذه اللحظات العصيبة، هل طلبت الذهاب معهم لأن القدر كتب لى الموت على الجبهة، الآن أصبحت فى مرمى الخطر، وعلى ذمة الموت.. كل ذلك فى زيارتى الرسمية الأولى.

صحيح هى الزيارة الرسمية الأولى، وكانت فى عام 1968، لكن قبلها كان هناك الكثير من الزيارات، حتى بعد النكسة، أغلقت القناة بفعل الحرب، لكن زياراته لم تنقطع، فكان يختلق المهمات للذهاب إليها، وعلى ذلك انضم إلى المقاومة الشعبية، وسافر بالفعل، وكانت وِجهته هذه المرة إلى السويس، وكانت مهمة الفرقة التى انضم إليها أن تقابل الجنود العائدين وتقدم لهم المياه المثلجة وشرائح البطيخ، لكنهم فوجئوا بأوامر تطالبهم بالعودة.. فعادوا.

وبعد النكسة، كان الطريق المحاذى للقناة ممهداً للسير، فسافر من خلاله «الغيطانى» إلى خط القناة (بورسعيد والإسماعيلية)، وأثناء سفره فى إحدى المرات وجد العلم الإسرائيلى مرفوعاً على الضفة الشرقية للقناة، شعر بالحزن الشديد والألم، وأفاق من حالة حزنه على طلقات حية يطلقها الإسرائيليون ويستهدفون من خلالها السيارات المدنية، لكن أثناء حرب الاستنزاف انقطع الطريق تماماً وصار مليئاً بالحُفر الكبيرة والمطبات.

1

الموقف يزداد صعوبة

وقفت المجموعة العالقة فى حقل الألغام، كلٌ يخاف أن يتقدّم خطوة واحدة، وبعد تفكير من الجميع استغرق دقائق مرت ثقيلة بين التفكير للخروج من المأزق واللوم، لأن أحد الجنود حذّرهم بالفعل أن هناك منطقة ملغومة، كيف لم يدرك أحدهم أنهم يسيرون نحوها؟.. أو بالأحرى فى طريق الموت.

كان الحل الوحيد أن يستدير كلٌ فى مكانه، وأن يخطو فوق الأثر نفسه ليخرج سالماً، لكن بحذر شديد، استدار كل منهم وتحسّست الأقدام آثارها السابقة بدقة متناهية، ربما تفوق الدقة التى كان يعمل بها جمال الغيطانى فى مقدمة عمره رسّاماً للسجاد الشرقى، ثم مفتّشاً على مصانع السجاد فى قرى مصر، قبل أن يعمل بالصحافة، هل ساقه القدر إلى صاحبة الجلالة ليسير نحو قدره المحتوم؟، لم يعمل بالصحافة حُباً فيها، إنما كان يرغب فى زيادة الدخل، وهو فى هذا الوضع قد زاد دخله فعلاً، لكن عمره أوشك على النفاد، فكر فى أنه من الصعب أن يمنحك القدر النجاة مرتين فى ساعات قليلة، ففى المرة الأولى، وقبل محنة حقل الألغام بزمن ليس بعيداً، كان الموت على وشك اقتناصه، بل واقتناص المجموعة بأكملها، وبات عقله يسرد وقائع ما حدث منذ البداية.. بداية رحلة الوفد.

منذ أن سافر الوفد إلى بورسعيد عن طريق دمياط، ومن دمياط سلكوا طريقاً محاذياً للبحر الأبيض المتوسط يمر بمنطقة «الجميل» ببورسعيد، وفى المدينة قابلوا مصطفى شردى، وكان مراسلاً صحفياً للأخبار فى بورسعيد، وكان له دور مهم أثناء العدوان الثلاثى على مصر، إذ قام بتصوير الدمار الذى أحدثته الحرب، وأرسله إلى مصطفى أمين ونُشرت الصور وأرسلت نسخة منها إلى مندوب مصر لدى الأمم المتحدة.

مثّلت المجموعة أول صحفيين يقومون بزيارة الكيلو 10، وكانت إسرائيل قد اكتشفت أنها بعد أن تقدّمت إلى الضفة الغربية أن هناك منطقة لم تحتلها بعد، تنتهى عند منطقة رأس العش، وتكمن أهمية المنطقة أن العدو قرّر التقدّم واحتلالها، لكن كانت هناك سرية من قوات الصاعقة يقودها إبراهيم الرفاعى، مؤسس المجموعة 39، وتصدّوا للطابور الإسرائيلى ودمّروا الدبابات الإسرائيلية، وكانت أهمية رمزية المعركة أن فرد المشاة الصاعقة المصرى بإمكانه تدمير دبابة إسرائيلية بالأربيجيه، وبالفعل ظل العلم المصرى مرفوعاً على الكيلو 10 حتى عام 1973.

2

النقيب البطل

انتهت الزيارة، وعاد الوفد أو المجموعة من موقعة رأس العش، سار «الغيطانى» ومن معه، فى ضواحى بورسعيد، وكان الغروب قد بدأ، ونزلوا فى مواقع تحتلها قوات الصاعقة المصرية، وقتها قابل «الغيطانى» النقيب «عبدالعزيز تعلب»، وكان قائد سرية صاعقة، وترجع جذوره إلى محافظة سوهاج.

أصر «تعلب» على أن يجلسوا معه لـ«يشربوا الشاى» على خط القناة، وفوجئ «الغيطانى» بأن «تعلب» لم يحصل على إجازة منذ ستة أشهر، لا لشىء إلا لكونه رفض، وكان يرد دوماً على من يطالبه بالنزول فى إجازة «طول ما هما هنا -يقصد الإسرائيليين- أنا مش نازل».

ولم يكن النقيب عبدالعزيز تعلب يكتفى بالبقاء فى أرض المعركة فقط، بينما كان يوزّع راتبه على الجنود، فى شكل مكافآت تشجيعية، فالمقاتل الذى ينجح فى ضرب دبابة يعطيه خمسة عشر جنيهاً، ومن يضرب بلدوزر عشرة جنيهات، والسيارة النقل 8 جنيهات وهكذا، يصرف راتبه على مكافآت الجنود، تأثر «الغيطانى» بشخصية النقيب تعلب، وعرف منه أنه كان يسكن بجواره فى مدينة نصر -آنذاك- وعندما ودّعه وعاد من عنده كان الظلام قد حل.

رأى «الغيطانى» أن «خيطاً من النور الأحمر» يظهر فى الطرف الآخر، وهو طلقات مضيئة، وفوجئ بعسكرى يجرى عليهم ويقول «ارقدوا على الأرض»، وعرفوا أنه كان هناك ضرب بالهاون، والهاون يمكنه أن يضربك من خلف الحائط، وظلوا على هذا الحال لوقت قدّره الله، بعدها خرج عسكرى من حفرة برميلية، وهى حفر تسع لشخص واحد، وأكد لهم أن بإمكانهم الانصراف الآن، لكن بشرط أن يحذروا كل الحذر، لأن هناك حقل ألغام فى الطريق.

وأغلب الظن أن الانبهار بشخصية النقيب البطل تعلب، ونجاتهم من الضرب بالهاون أنست الجميع ما قاله الجندى عن حقل الألغام الذى أصبحوا بعد مجهود مضنٍ، على بُعد خطوات قليلة من الخروج منه.

وما إن وصل «الغيطانى» إلى مدينة بورسعيد، كتب تحقيقاً صحفياً وأرسله إلى رئيس التحرير موسى صبرى، كتبه كأديب تأثر ببطولات شهدها بعينيه، ونشر موسى صبرى التحقيق بعنوان «المقاتل المصرى كما رأيته على خط النار»، وما إن تم نشر الموضوع قرأه الرئيس جمال عبدالناصر، وأشاد بالكتابة، قائلاً: «هذه هى نوعية الكتابة التى نحتاج إليها»، وعلى الفور اعتمده الفريق محمد فوزى مراسلاً حربياً لـ«الأخبار».

لم يكن جمال الغيطانى يعلم أن القدر الذى جعل الرئيس جمال عبدالناصر يُثنى على تحقيقه الصحفى سيجمعه به مرة أخرى، لكن هذه المرة وجهاً لوجه.

3

القناص وشبح الموت

أثناء حرب الاستنزاف ذاع صيت القناص المصرى أحمد نوار، وهو نفسه الفنان التشكيلى المصرى، وكان «نوار» قد قنص نحو 30 إسرائيلياً، فقرّر «الغيطانى» أن يزوره، وعند خروجه ومعه المصور، طلعا على سلم بدائى، وفجأة وجد أمامه الرئيس جمال عبدالناصر، حتى إنه يتذكر هذه اللحظة التى وصفها لى قبل وفاته بشهور: «كان مرتدياً قميصاً أبيض، وبنطلوناً غير مفرود، وكنت أنا أرتدى سترة ضابط مظلات وبنطلوناً أسود، سألنى «ناصر»: «بتعملوا إيه؟»، فعرّفته بنفسى وبزميلى، فتركنا قائلاً «ربنا معاكم»، ودخل أحد الخنادق، وقتها قرّرت ألا أذهب إلى أحمد نوار، وبقيت لأعرف ماذا قال الرئيس لجنوده، وبعد مغادرته سألت الجنود ماذا قال لكم الرئيس؟، وهنا فُوجئت وصُدمت بأسئلة الرئيس الدقيقة التى كان يريد من خلالها معرفة أحوال الجنود بصورة كاملة، وكانت الأسئلة من عينة «بيأكلوكم إيه؟ وبتناموا كام ساعة؟ وبتستحموا كام مرة؟».

نجاة «الغيطانى» من الموت فى مرتين، جعله يدرك تمام الإدراك أنه لن ينجو فى المرة الثالثة، والحقيقة فهو لم يكن يعلم أن المرة الثالثة كانت قريبة إلى هذا الحد، وقتها قرّر زيارة القناص أحمد نوار فى موقعه، وذهب إليه فى سيارة وكان بصحبته زميلاه محمد عودة والمصور مكرم جاد الكريم، وضابط كانت مهمته تسليمهم إلى نقطة عسكرية أخرى، وفجأة وجدوا عسكرياً يقفز من حفرة برميلية ويطالب بتوقف السيارة والانبطاح خارجها، ووجدوا طائرات «سكاى هوك» تحلق فوقهم، وكانوا هدفاً مكشوفاً جداً، لدرجة أنهم أيقنوا أن الموت يحلق فوقهم، وكانت المفاجأة أنهم لم يكونوا الهدف الذى سعت الطائرات خلفه، بينما كان ستة من الخبراء الروس يصطادون السمك من القناة، وضربت الطائرات القنابل عليهم، فأبادتهم أمام أعينهم.

4

فى حرب الاستنزاف

أثناء حرب الاستنزاف كان الاقتراب من الضفة الشرقية للقناة يجب أن يكون حذراً جداً، وكان الوصول إلى المياه يتم بمنتهى الحذر، فكان يجب أن يجرى الشخص فى أكثر من مرحلة، وينبطح على الأرض أكثر من مرة، وعندما يصل كان ينام هناك.

«كنت أنام جوار المياه وكنت أسمع السمك يقفز من الماء بمنتهى القوة، ولم يكن هناك صيد خلال هذه الفترة، الأمر الذى أدى إلى أن تزيد أوزان وأحجام الأسماك إلى أوزان غير طبيعية، فالسمكة القاروص مثلاً قد يزيد وزنها على العشرة كيلوجرامات، عِشت الأجواء كاملة، وعبور القناة فى 1973 لم يكن بمحض الصدفة، بينما تم التدريب عليه لفترات طويلة، وهناك مناورة حدثت عام 1970 حضرتها، بدأت من القناطر الخيرية، واتجهت إلى الغرب إلى أن اتجهت إلى الصحراء الغربية، ففوجئت بترعة الخطاطبة وهى تُعد كنموذج لقناة السويس، فعرض الترعة تقريباً نفس عرض القناة، وسرعة التيار بهما متشابهتان، غير أن القائمين على الأمر بنوا ساتراً ترابياً يماثل خط بارليف، يومها اعتقدت أننى فى القناة، لكن المياه لم يكن لونها أزرق، فعرفت أنها ليست قناة السويس».

أما فى يوم السادس من أكتوبر عام 1973، فلم يكن «الغيطانى» على الجبهة، بينما كان فى مقر نقابة الصحفيين يناقشون رفض قرار «السادات» بإعادتهم إلى العمل بعد فصلهم لتأييدهم مظاهرات الطلبة عام 1971، ودخل عليهم حسن الشرقاوى الصحفى بـ«الأهرام»، وسيد الجبرتى بـ«الأخبار»، مؤكدين أن الجيش المصرى عبر القناة، وكان «الغيطانى» التقى أحد الضباط، وقال له لا يوجد صحفى واحد فى الجبهة، وفى الثالثة فجراً سافر «الغيطانى» إلى القطاع الشمالى، وفى السابعة صباحاً كان فى الجبهة وشاهد العلم المصرى مرفوعاً، ووصل إلى الضفة الثانية، وكان أول ما سأله عنه الجنود: «الناس بتقول علينا إيه؟».

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: أخبار اليوم حرب الاستنزاف لم یکن

إقرأ أيضاً:

إصابة 13 شخصا إثر انقلاب سيارة بأسوان

إصابة 13 شخصا اثر انقلاب سيارة كبود، بقرية المنصورية بمركز دراو شمال محافظة أسوان، مساء اليوم الثلاثاء، وعلى الفور توجهت سيارات الأسعاف لنقل المصابين إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم.

وتلقت غرفة عمليات النجدة فى أسوان إخطاراً يفيد بوقوع حادث انقلاب سيارة كبود عند قرية المنصورية بمركز دراو شمال المحافظة، مما أسفر عن أصابة 13 شخص جراء الحادث.


وتم الدفع بسيارات الإسعاف لنقل المصابين إلى مستشفى أسوان التخصصي بالصداقة لتلقي العلاج اللازم وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة لهما.

وانتقلت الجهات الأمنية إلى مكان الحادث لمعاينته واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، ورفع أثاره من الطريق لتيسر الحركة المرورية أمام المارة بالطريق وللحفاظ على أرواح وسلامة المواطنين.


وتبين بالتحريات الأولية أن الحادث أسفر عن أصابة 13 شخصًا وهم كلاً من: أمنة حافظ محمد، 54عامًا، و أحمد محمود جمال، 9 سنوات، و محمد محمود جمال، 7 سنوات، و فاطمة جمال محمد، 40 سنة، و عائشة عبدالرحمن طايع، 70 سنة، و دعاء محسب محمد، 13 عامًا، و زينب جمال أحمد، 39 عاما، ومحمود جمال أحمد،38 سنة و رضوى جمال احمد، 17 سنة، و هدى جمال محمد، 27 سنة، و عبدالله محمد جمال، 8 سنوات، و أحمد محمد على، 10 سنوات، و زينب علي حسن، 11سنة.

وتم نقل جميع المصابين إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة لهما.

وحرر المحضر اللازم بالواقعة وأخطرت النيابة العامة لتباشر تحقيقاتها حيالها الوصول إلى الأسباب وراءها.

مقالات مشابهة

  • إصابة 5 أشخاص فى انقلاب توك توك بأسوان
  • محمد الباز: جبهة الإعلام هي حائط صد أمام الشائعات التي يتم ترويجها ضد الدولة المصرية
  • محمد الباز: المتآمرون يحاولون ضرب الجبهة الداخلية بهدم القيم الأصيلة
  • حمدان بن محمد: هناك فرص ممكنة لتأسيس مرحلة جديدة من الشراكة مع "إكس"
  • حفل تدشين أسرة "طلاب من أجل مصر" للعام الأكاديمي بجامعة القناة
  • محمد مغربي يكتب: النصب بالذكاء الاصطناعي.. احذروا فخ المحتالين
  • تفسير رؤية قلم الحبر الأزرق لابن سيرين والنابلسي
  • د. محمد البشاري يكتب: جدلية الفلسفة والأخلاق.. رحلة البحث عن أفق السمو الروحي
  • طالع هابط : مشروع ملعب بحاسي مسعود متوقف منذ 5 سنوات .. من المسؤول
  • إصابة 13 شخصا إثر انقلاب سيارة بأسوان